الحوار الحضاري والعيش المشترك(أحمد الفراك)_3_
من الهوية التاريخية المنغلقة إلى الهوية الحضارية الجامعة
رغم ما بين الناس من اختلاف طبيعي وتباين ثقافي فإن الإنسانية واحدة في أصلها وتركيبها،حيث النفس واحدة متفرعة في أجسام الأمة الانسانية على سطح المعمورة منذ بدء الخليقة إلى الأبد، فـ”ما كانت النفس الواحدة إلا لأن الإنسانية واحدة، والطريق واحدة، والغاية واحدة، والنهاية المصيرية واحدة، انطلاقا من واحدية الأصل الأول، والسبب الأول، الموصوف بالتوحيد والوحدة والواحدية والأحدية”[1].
إن المشترك الإنساني وهو مجموع العناصر الكبرى التي تتوقف عليها حياة جميع الآدميين على ما بينهم من تعدد في الألوان والأذواق والأرزاق والشرائع، أي هو الإنسان في هويته النواة قبل أن “ينتمي ثقافيا”، وهذا المشترك لا يلغي عنصر “الدين” كما تظن بعض الفلسفات الإنسية والدهرانية، إنما يتضمنه ويستمد منه آيات الوحدة والرحمة وكل القيم الجامعة، ليكون هو “الضامنَ الوحيد لقيام سِلمٍ عالمي، وأمنٍ إنساني، ووَحدة بشرية، بعيدًا عن أشكال الصراع العسكري”[2] الذي يجد سنده –غالبا- في تأويلات دينية تقرأ نصوص الدين المؤسسة والشارحة قراءة نفعانية مُغرضة.
كان الناس أمة واحدة، إخوة شركاء في أجسادهم وأرواحهم وأرضهم وطيباتهم، يتقاسمون المنافع والمواجع، جيء بهم جميعا من نفخة واحدة ونطفة واحدة بفطرة واحدة، وسُخرت لهم ما به يقوم وجودهم ويتقوم. وهم اليوم ينتمون إلى الإنسانية الواحدة رغم تمايز الثقافات بين الأمموالشعوب، وهو تمايز صنعته مصالح الناس واعتقاداتهم وأوهامهم، قبل أن تتحول تلك المصالح والأوهام مع مرور الزمن إلى “حقائق صلبة” يقاس عليها التدين والتمدن.
واختيارنا لمفهوم المشترك الانساني لا يفيد تبني نزعة إنسية مذهبية تُلغي الدين أو تنتقص من الثقافات. وإنما هو نداءٌ بأصوات عاقلة متعددة يُهمها أن يتعقل أئمة العالم ويتفطنوا إلى ما به يُشيد عمران أخوةٍ آدميةٍ متخالقة، قوامها الحياة مع الغير بوصفه شريكاً لا ضيفاً ولا غريباً. فلا تزدري ثقافةٌ ثقافةً، ولا يلغي تَديُّنٌ تديناً، ولا تتسلط فئة على فئة، ذلك أنها لا توجد ثقافة كاملة، ولا يوجد تدين وحيد سواء، ولا فئة وحيدة ناجية. وإلا فسيكرر المستقبل أحداث الماضي، وتتجدد الفتن التاريخية التي تُدسي الإنسان وتعيق تفكيره في واقعه ومستقبله، وتتلفع خلف مقولاتٍ تُشيطن الغير وتتهمه بالمؤامرة والخيانة ابتداء.
الاقتناع بهوية مشتركة يجعل الذات تعترف بالآخر المخالف، وتُعنى بالبحث في ثقافته عن عناصر الوحدة والأخوة العابرة لتضاريس التاريخ، وإمكانات التعاون والتكامل. وبالتالي ضرورة الانفتاح على مرجعيات الآخرين واحترام خصوصياتهم الثقافية ونشدان القيم المشتركة معهم دون استعلاء ولا استتباع، موازاة مع مراجعة الوعي الذاتي المشوه بالتمثلات التراثية والإيديولوجية والفلسفية المتقلصة التي تصدر عن سوء فهم كبير في تأويل النصوص المؤسِّسة وشروحاتها المتحيزة والجامدة.مع العلم أن المشترك لا يطلب من الطرفين التنكر للأصول المرجعية المنطلق منها بقدر ما يطلب تجديد النظر فيها بمنهجية تستوعب الآخر ولا تلغيه، وتُحضِره ولا تنفيه.
وإذا كان لا مندوحة لأي ثقافة اليوم عن العيش المشترك اعترافا وقبولا بواقع الاختلاف والتنوع بين الثقافات والشعوب، ثبتت ضرورة تجديد معالم بناء الوحدة الآدمية بين الأمم في أمة واحدة، يمكن تسميتها بـ”الأمة الأم”، وهذه الوحدة الآدمية الجامعة لا تلغي التدافع والتلاقح والتنافس، بل تقبله وتنظمه وتحميه. إن التحدي لا يقع في نبذ الاختلاف ومحو أثره أو مجرد الاعتراف النظري به، وإنما يقع في كيفية تدبيره تدبيرا تشاركيا يُسهم فيه الجميع كلٌّ بمؤهلاته وقدراته وإنجازاته، دون أن يطغى طرف على طرف فيستكبر عليه ويستضعفه ويثبر إنجازه. فـ”بإمكان الشعوب أن تؤسس ثقافة عالمية هي جماع ثقافات مختلفة لها أراضي محررة تقف عليها، وقنوات وجسور تواصل وتفاعل وحوار تلتقي عبرها على المبادئ والقيم والمصالح المشتركة”[3].
وأول ما ينبغي استحضاره في النظر لموضوع تنظيم الاختلاف
واستيعابه بغية استثماره في بناء عمران المشترك الإنساني هو قيمة الاعتراف بالغير،
ليس اعترافا مؤقتا سرعان ما يتبخر الحلم به عند أول اختبار لصدقيته، أو اعترافا
مشروطا بالاستعلاء عليه وإبقائه مستجديا. فالغير موجودٌ ووجوده ضروري لوجود الذات ولا
يتصور وجود هذه الأخيرة إلا به ومعه في إطار حياة مجتمعية مشتركة، يقول هانس كينغ
بهذا الصدد: “لا يتعرف الفرد إلى الخير وقواعده وطرقه وعلاماته إلا من خلال العمل
الاجتماعي”[4]،الذي
يجتمع فيه مع غيره ويتواصل معه ويتنافس معه، ولا يحدث هذا إلا إذا اكتسبا معا فضائل
أخلاقية مشتركة تحترم الغير ولا تقصيه، أو قل بتعبير طه عبد الرحمن التعامل وفق “مخالقة”
عالمية، حيث “المخالقة لا تتقيد بوطن معين، ولا بدولة محددة؛ فقد يكون وطنها
العالم بإدارة عالمية، كما يكون وطنها قرية بإدارة محلية”[5].
وهذه المخالقة هي بُشرى تحملها “روح الدين” إلى “روح الإنسان”
قبل بشريته،لإنجاز “روح العمران” قبل ماديته.
[1]– بنعبود، المهدي. عودة حي بن يقظان، دار النشر المغربية، المغرب، (سلسلة شراع، عدد 16) ط1، 1997، 1/42
[2]– بنعبود، المهدي. أسئلة الإبداع والتجديد في فكر الدكتور المهدي بن عبود، مجلة “منتدى الحوار”، عدد 23، مطابع أمبريال، الرباط، 2015، ص 4
[3]– شبار،سعيد. “الثقافة والعولمة؛ قراءة في جدل المحلي والكوني أو ظاهرة التثاقف”، مجلة الإحياء، المغرب، عدد:25، 1428ﻫ/2007م، ص163
[4]– هانس، كينغ. مشروع أخلاقي عالمي، دور الديانات في السلام العالمي، ترجمة: جوزيف معلوف وأورسُولا عسَّاف، دار صادر، بيروت،ط1، 1998م، ص 112
[5]– طه عبد الرحمن، من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت، ط2، 2016، ص37
حفظ الله استاذنا ودكتورنا أحمد العزيز.