المقالات

الخطاب القيمي في المناهج الدراسية وأثرُهُ على المتعلمين بالمدرسة المغربية(عبد العزيز تكني)

يثير مصطلح الخطاب القيمي في المناهج الدراسية بالمدرسة المغربية العديد من الإشكالات، على مستوى التشكيل والإدراك والتوظيف، وذلك بالنظر إلى واقع القيم الأخلاقية، وسبل مقاربتها، وتدريسها وبنائها وترسيخها، وكذا تقويمها لدى المتعلم في الوسط المدرسي، وجدانيا، ومعرفيا، وسلوكيا. ويعد الخطاب القيمي وسيلة أساسية في هندسة المناهج الدراسية وتجويد البرامج البيداغوجية، وبناء شخصية متفاعلة مع محيطها المجتمعي، وفاعلة تأثيرا وتأثرا أخذا وعطاء، عبر رؤية تربوية استراتيجية، فعالة ومجددة، قوامها التكامل المعرفي، ومنطلق أساسها حرية مسؤولة وتدبير تشاركي، واستخلاص القيم الأخلاقية في بعديها المحلي والكوني الإنساني، بالدراسة والتحليل والتركيب، دون انسلاخ عن الخصوصية الضامنة للوحدة والهوية.

إن مقاربة الخطاب القيمي في المناهج الدراسية، ودراسة واقعه وتحليله، ورصد أثره الأخلاقي في سلوك المتعلم بالمدرسة المغربية، في ظل الانفتاح العالمي والتحديات المعاصرة، له راهنيته وجدته، خصوصا وأن فرص التنقل ارتفعت فيه واقعيا وافتراضيا، وأصبحت فيه المعارف والمعلومات والثقافات مجالات للتنافس في السوق العالمية، وصار الخطاب القيمي يؤدي فيه “دورا أساسيا في نشوء التواصل والتفاهم العالميين، ويسهم في احترام أفكار الآخر وثقافته” (النهيبي، 2018، ص.9). وقد صارت تنشئة مواطنين واعين بثقافة الحق والواجب، معتزين بهويتهم، وبلغتهم، ومنفتحين على المشترك القيمي الإنساني. رهانا وتحديا تواجهه اليوم ومستقبلا المدرسة المغربية عموما، والمناهج الدراسية والبرامج التعليمية بالتعليم الثانوي التأهيلي على وجه الخصوص، هذا إلى جانب تفعيل وظائف مؤسسة الأسرة والإعلام وهيئات ومؤسسات المجتمع المدني وتجديدها.

وبما أن المدرسة المواطنة أبرز المؤسسات المسهمة في ترسيخ السلوك المدني والقيم في وجدان المتعلمين وسلوكاتهم الأخلاقية، فإن تجديد وظائفها، وتجويد مناهجها وبرامجها التعليمية، صار مطلوبا في الوقت الراهن. فقد أصبحت المدرسة المغربية ملزمة بالانخراط والتفاعل مع مقومات الهوية الخصوصية، والانفتاح بالمقابل على الحضارة الإنسانية المعاصرة. وإذا لم تنجح المدرسة، بخطابها القيمي الأخلاقي وبمناهجها وبرامجها الدراسية، في بلوغ تلك الغايات، فإن المجتمع سيفقد، بعد الأسرة، خط الدفاع الثاني ضد كل أشكال التطرف والعنف والكراهية والاغتراب والغزو الفكري، والصراع الحضاري الهوياتي. لابد للمدرسة المغربية إذن من الانخراط الحقيقي في ترسيخ القيم الأخلاقية المتمركزة حول حفظ العقيدة واللغة والمشترك الإنساني والتكامل المعرفي لدى الناشئة، مع استحضار واع ومسؤول لتعدد وتنوع روافد الهوية الحضارية المغربية وثراء ثقافتها، وإذكاء الشعور بالانتماء للأمة، وتكريس الانفتاح على القيم الإنسانية العالمية والتفاعل معها بشكل إيجابي.

وينقسم بحثنا إلى أربعة فصول، نخصص الفصل الأول لإثارة العديد من الإشكالات المعرفية الكبرى والتساؤلات المنهجية المرتبطة بقضايا الخطاب القيميِ في المناهج الدراسية بالمدرسة المغربية، وحاولنا أَن نجيب عن بعضها من خلال تبني مقاربات نظرية من شأنها أن تغني النقاش العلمي الجاد. أما الفصل الثاني فنخصصه لبيان مدى أهمية الخطاب القيمي الأخلاقي في المناهج الدراسية، والتحديات والرهانات التي تواجهه على مستوى المدرسة والمجتمع. وبالنسبة للفصل الثالث، فسنعمل على قراءة تفسيرية لمضمون الوثائق المرجعية الرسمية التي تؤطر المنهاج الدراسي المغربي، واستقرائها على مستوى المنطلقات، والمبادئ، والأهداف، والغايات. مبرزين من خلالها التصورات المنهاجية والأسس البيداغوجية التي يتأسس عليها الخطاب القيمي الأخلاقي، مع الإشارة إلى بعض إشكالاته على مستوى الممارسة الديداكتيكية. الفصل الرابع يشمل الجانب التطبيقي للبحث، نبسط فيه العدة المنهجية المرتبطة بالدراسة الميدانية. اعتمدنا الوصف والبناء الدقيق لإشكاليته، وأسئلته ومفاهيمه الإجرائية، والتذكير بفرضياته، ووصف عيناته وأدواته البحثية…مسترشدين ومستثمرين في ذلك مكاسب وتوجيهات الفصول الثلاثة الأولى الخاصة بالإطار النظري. لنخلص في نهايته للنتائج الخاصة بفرضيات البحث، مع عرض نتائج التحليل الكمي والكيفي للبيانات الخاصة بها. وفي المبحث الثالث نقدم مقترحات مرتبطة بمحاور البحث الرئيسة، على ضوء النتائج العامة للدراسة النظرية والعمل الميداني. من أجل بناء منظومة تربوية قيمية أخلاقية رائدة، متكاملة معرفيا وسلوكا.

إن الاستحضار الواعي للمتغيرات والتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية المعاصرة (انتفاضات، وثورات، وحراك اجتماعي، وأوبئة، إلخ) التي يشهدها العالم، وانتشارالعنف بكل أنواعه، والعنصرية والإرهاب والتطرف والكراهية بين أفراده وشعوبه، من المحتمل ، له آثاره وانعكاساته السلبية التي ينبغي أن تشكل حافزا، يُمَكِّن من بلورة رؤية فلسفة تربوية حقيقية، فعالة ومجددة، تروم بناء مناهج دراسية وبرامج تعليمية راشدة، لها القدرة على إنتاج خطاب قيمي يجمع ،في انسجام، بين الخصوصية والكونية، ويسهم في بناء المشترك الإنساني، ومجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة، وتدبير الاختلاف والتنوع الثقافي، بحيث يظهر أثره في السلوك المدني للمتعلمين داخل الوسط المدرسي وخارجه، في انسجام تام وتكامل معرفي يجمع ولا يفرق.

والموضوع المقترح في هذه الدراسة سيجعل البحث في مسألة الخطاب القيمي الأخلاقي في المناهج الدراسية بالمدرسة المغربية بالسلك الثانوي التأهيلي ليس من السهل بمكان، لتعدد المقاربات والمرجعيات المنطلق منها: (تربوية ديداكتيكية، اجتماعية، نفسية، فكرية، دينية، ثقافية، إنسانية كونية..)، ومن تم فإن أي نقص أو خلل في توظيف الخطاب القيمي في المنهاج الدراسي بالمدرسة المغربية، سينعكس سلبا على استيعاب المتعلم للقيم التي جعلها الله  تعالى أصلا في جسمه وفطرته، والقيم المكتسبة عن طريق التدين والتربية الاخلاقية والحياة الاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى قيم منهجية كالحكامة والتشاور والحوار بالتي هي أحسن، وترسيخها في وجدانه وسلوكه، فيفقد المتعلم إنسانيته ومعها روحه وجوهره، فيصير فاقدا للمبنى وللمعنى.

إن الخطاب القيمي في هذا البحث، يستمد أهميته من تراث وثقافة المجتمع، ومن خلال مؤسسات التنشئة الاجتماعية وفضاءات التواصل العام. وتعد المدرسة في المجتمع المغربي من أبرز مؤسسات التربية التي تسعى من خلال مناهجها الدراسية وبرامجها التعليمية وأنشطتها أن تبني خطابا قيميا كونيا، ينعكس أثره الإيجابي على سلوك المتعلم داخل الفضاء التربوي وخارجه. وفي ظل المتغيرات المختلفة التي تشهدها المدرسة المغربية حاضرا ومستقبلا في جل أبعادها التربوية التعليمية والقيمية الأخلاقية، وفي ارتباطها بمكونات المجتمع الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية إلخ، يقتضي من المناهج الدراسية إبداع حلول جديدة مع إخضاع المبتكرات التكنولوجية إلى مبادئ اجتماعية أخلاقية، معنوية، قانونية، شرعية، وإلى أنزيمات[1] بيداغوجية فعالة ومجددة، وأن تجعل من الخطاب القيمي الأخلاقي قضيتها الأساس تخطيطا، وتدريسا، وممارسة، وتقويما.

يسعى هذا البحث إلى مقاربة الخطاب القيمي في المناهج الدراسية، ودراسة واقعه وتحليله تدريسا وتقويما، ورصد أثره الأخلاقي على شخصية المتعلم بالمدرسة المغربية، من الناحية الوجدانية والمعرفية والسلوكية، في ظل المتغيرات التي يشهدها العالم، من خلال الاستناد إلى التصور السوسيوبنائي، مع الانفتاح على نظريات التعلم التربوية الأخرى، ونظريات علم الاجتماع المدرسي (التربوي).

وتحقيقا لأهداف البحث، فقد ركزنا من جهة على المنهج التحليلي الوصفي، باعتماد شبكة لتحليل مضمون محتويات هذا التواجد القيمي المندمج، حضورا وغيابا، من خلال عينة مكونة: من كتب مدرسية، وأطر مرجعية ومذكرات المراقبة المستمرة، ومقابلات علمية مع العديد من المسؤولين على تدبير منظومة التربية والتكوين بالمغرب، ومن جهة ثانية اعتمدنا على منهج البحث الوصفي المسحي التحليلي عبر (Spss)، لتحليل توجهات الأساتذة والمتعلمين بالسلك الثانوي التأهيلي بجهة الرباط سلا القنيطرة إزاء تدريسية الخطاب القيمي وأثره.

وفي ختام هذا البحث، وبناء على النتائج العامة النظرية والعمل الميداني التطبيقي. وارتباطا بمحاوره الرئيسة، نقدم أبرز مقترحاته النظرية، وكذا العملية الإجرائية، من أجل بناء منظومة تربوية قيمية أخلاقية رائدة ومتكاملة بيداغوجيا وديداكتيكيا، وسلوكيا.

أولا: مقترحات تتعلق بتدريسية الخطاب القيمي في المناهج الدراسية بالمدرسة المغربية

أ. ضرورة تجديد طرح العديد من التساؤلات والاشكالات المرتبطة بوظيفة المدرسة المغربية، وبجدوى المناهج الدراسية في ترسيخ القيم الأخلاقية في وجدان وسلوك المتعلمين. وأن تسعى الجهات المعنية بتدبير قطاع التربية الإجابة عنها بشكل علمي وحقيقي، ما خصوصيات السياسة القيمية في منظومة التعليم بالمغرب؟ هل تخضع المسألة القيمية في النظام التربوي المغربي لتصور منهاجي وهندسة بيداغوجية مضبوطة؟ لماذا يتعلم المتعلم؟ هل تقويم القيم في المناهج الدراسية هو آلية لبناء التعلمات أم أنه أداة إقصاء؟ ما علاقة الخيارات القيمية بالرغبة في التحرر أم بتكريس واقع التبعية؟ ما أسباب الخلل الذي يعرفه الخطاب القيمي بالمنظومة التربوية؟ هل برامج التأهيل والتكوين والإعداد الجيد للمدرسين، وللبرامج والكتب المدرسية يتم وفق منهاج تعليمي مقرر ومفصل ودفتر تحملات والتزامات مضبوطة؟ ما جديد سؤال القيم في المناهج الدراسية من خلال النموذج التنموي الجديد تصورا وتنزيلا وتقويما؟ هذه الأسئلة وغيرها تحتاج لنقاش علمي تربوي جاد، والى دراسات وأبحاث أكاديمية متخصصة، بغية بناء تمثلات المواطن الصالح عن ذاته وعن العالم، وسعيا لتحقيق السيادة الفكرية، والهوية الثقافية التي لا تنفك عن السيادة الوطنية العامة.

ب. ضرورة إعادة الجاذبية للمدرسة المغربية، بدلا من العلاقة النفعية التي باتت تربط المتعلمين اليوم بالمدرسة، وأن تعود لإنتاج حقيقي للقيم تدريسا واحتضانا وتحصينا من كل أنواع الانحراف، حتى تصبح كما كانت في السابق مشتلا لإنبات القيم الأخلاقية في بعديها الخصوصي والكوني، وأن تناهض مختلف الظواهر المشينة (العنف، التخريب، الغش، التحرش الجنسي، التعاطي لكل أنواع المخدرات، انعدام الامن والأمان…)، والحذر من تغليب البعد التقنوي على الجانب البيداغوجي، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي الى الفشل المدرسي، ومن تم رفع نسب الهدر المدرسي، وهذا الواقع المؤسف تحدثت عنه التقارير الوطنية الرسمية، وكذلك الدولية، وقد أشرنا إلى ذلك في البحث. وأمام هذا الواقع الحقيقي نقترح على الباحثين مستقبلا إنجاز بحوث ودراسات ميدانية تربوية، سوسيولوجيا نفسية، تبحث في هذه الظواهر وغيرها مثل؛ ظاهرة تخريب الممتلكات العامة، الكتابة على الجدران والطاولات، شكل انصراف المتعلمين من الفصول الدراسية، ومن أبواب المؤسسات التعليمية، بعد انتهاء الحصة الصباحية أو المسائية لما يدق الجرس، إلخ. فهي نماذج كافية لتأكيد واقع القيم بالمدرسة وفضائها.

ج. ندعو إلى مزيد من الاهتمام بالرأسمال البشري، عبر اعتماد هندسة راشدة لتكوين وإعداد الأطر التربوية، وتأهيلها في مجال تدريسية القيم، وأخلاقيات المهنة، وعدم الاكتفاء بالشرط العلمي المعرفي، بل لابد من الشرط الأخلاقي في شموليته. وهذا في حد ذاته هو اهتمام بالإنسان وبفكره وبهويته وبأخلاقه، وإهمال الشرط الأخير هو في حد ذاته إهمال لهوية وجوهر هذا الإنسان، ولقيم المواطنة لديه، وإعلان مبكر عن فشل وتوقف عجلة التنمية الحقيقية في كل مجالات الحياة وفي مقدمتها المدرسة. لأن مشكلتنا اليوم في المدرسة هو أن الفاعل التربوي لا يقدم للمتعلمين الخطاب القيمي من خلال هويته وحضارته وقيمه المرجعية، الذي يقع أحيانا هو أنه يُقَدِّم للمتعلمين الخطاب القيمي الأخلاقي من خلال تمثله وفهمه ونزعاته وطموحاته، المبنية أحيانا على عادات اجتماعية جارفة وثقافية وايديولوجية وغيرها، قد تخطئ وقد تصيب، فالتجديد والتجويد في المجال التربوي ينبغي في أن يقدم الفكرة كما هي في أصلها، وهذا منسجم مع فطرة الإنسان، وصالح لأي إنسان حيث كان.مع السعي إلى تكثيف المبادرات والممارسات ومراكمة التجارب بالسرعة التي يتغير بها العالم، ورسم مخططات ذات رؤية استراتيجية حقيقية تخص التعليم والاكتساب على وجه الخصوص.

ثانيا: مقترحات تتعلق بترسيخ الخطاب القيمي وتعزيزه في الحياة المدرسية

أ. أن يكون فضاء الحياة المدرسية خصوصا في عالم اليوم (عالم اقتصاد المعرفة) فضاء لصناعة الحرية، ولممارسة التفكير الإبداعي، ومجالا لترسيخ قيم التسامح وقيم الديمقراطية. عبر تفعيل حقيقي من شأنه أن يبعث في نفوس المتعلمين روح المرح والإحساس بالأمن، ويشجعهم على السؤال والتحدي والقدرة على التخيل. هذا من شأنه أن يسهم بفعالية في مناهضة كل أشكال هدر الزمن المدرسي للمتعلم، وفي نفس الوقت التربية على تحمل المسؤولية في إطار يتجاوز حدود المدرسة، وتنمية روح المبادرة وتحريرها، والانخراط التطوعي الأخلاقي العملي، للرقي بالفعل التربوي. ويعد القيام بأنشطة صفية موازية ثمرة هذا التفعيل، بحيث يتم تصريفها عبر تفعيل حقيقي للأندية التربوية والإذاعة المدرسية، ومنتديات القراءة وورشات الفن التشكيلي.. إلخ.

ب. العمل على تأهيل وتحفيز أطر تربوية ذات كفاءة، لها استعداد ورغبة في الانخراط التطوعي لتأطيرها، مع تهيئ الظروف الملائمة، والشروط البيداغوجية واللوجستيكية اللازمة، والحكامة الجيدة لتجويد مخرجات البرامج والأنشطة، الكفيلة بخلق التوازن في شخصية المتعلمين، وجدانيا، ومعرفيا، وسلوكيا. والقضاء على كل السلوكات المشينة بالوسط التربوي، وتعزيز قيم المواطنة وقيم الهوية، والتربية بالنظير، والاسهام العملي في بناء مجتمع العمران الإنساني الأخوي، وتحقيق الحرية والتنمية.

ج. التنزيل الفعلي والأجرأة العملية لمرصد القيم، ومنح فرصة حقيقة لإخراجه إلى الحياة المدرسية، لإحداث تغييرا في مشهد الحياة المدرسية المغربية التي صارت مستنقعا لكل أنواع الجريمة والعنف والانحلال، ما يؤكد شبه استقلال النظام التربوي المغربي من وظيفته الأخلاقية. وفي اعتقادنا أن هذا التفعيل سيحتاج إلى وجود إرادة وإدارة تربوية حقيقة للإصلاح، والقطع مع كل أشكال الفساد، عبر تجاوز العديد من المعيقات والعقبات، من أجل وضع مرصد القيم على سكة الإصلاح التربوي المنشود.

ثالثا: مقترحات تتعلق بإدماج الخطاب القيمي في الكتاب المدرسي تجديدا وتجويدا

أ. في ظل المتغيرات الرقمية والاجتماعية والبيئية.. المتسارعة التي يشهدها العالم والمجتمع المغربي هو جزء منه، يحتاج تأليف “الكتاب المدرسي” إلى إعادة النظر في تجديد وتجويد المقاربات والنظريات التي تعتمدها المناهج الدراسية في ذلك، وأن تبذل جهدا مضاعفا عبر التفكير بجدية وفعالية تنسجم مع هذه المتغيرات، للشروع في بلورة مشاريع علمية واقعية تسعى لإنتاج موارد رقمية في مقدمتها: الكتاب الالكتروني المفتوح (Open Book)، إلى جانب إنشاء منصات الكترونية ديداكتيكية فاعلة.. فهذا واقع سيفرض وجوده بقوة على المنظومة التربوية المغربية، وسيصبح الكتاب المدرسي الورقي متجاوزا، ولن يكون أمامها خيار واختيار آخر سوى تبني هذه المقاربة البيداغوجية الرقمية، فلابد إذا من توفير الوسائل الديداكتيكية الرقمية، وتسهيل امتلاكها والولوج إليها، دون انسلاخ عن مقومات الهوية والقيم الأخلاقية، التي تؤسس للفلسفة التربوية المعاصرة التي وضعها الدستور التربوي المغربي (الميثاق الوطني للتربية والتكوين) ونادى بها. وإلا ستبقى المنظومة بالرغم من المشاريع الإصلاحية.. في مركبة التخلف والأمية الرقمية.

ب. العمل أثناء إعداد الكتاب المدرسي على تخطى النظرة التجزيئية للمعارف والمعلومات، وأن تتبنى لجان التأليف البيداغوجي بشكل علمي وعملي؛ بيداغوجية متكاملة (التكامل المعرفي) والكفايات الممتدة بين القدرات، بحيث تكمل بعضها البعض لتكوين الشخصية المتعلمة المستقلة، والمواطنة المسؤولة، القادرة على مواجهة كل التحديات. ويبقى التأليف الحقيقي للكتاب المدرسي رهين بالتوجه نحو تعددية تراعي التحرير والتجديد، والتجويد شكلا، ومنهجا، ومضمونا. تأليف بيداغوجي متكامل ومتناسق يراعي مداخل بيداغوجيا متعددة، وذلك على مستوى بناء التعلمات على أنشطة تعليمية تعلمية، وعلى وضعيات مشكلة تمتح من التراث الإنساني عموما والمغربي خصوصا، مع أخذ بعين الاعتبار اختلاف وتعدد مكونات المجتمع المغربي جغرافيا وثقافيا وأعرافا وتقاليد، من أجل تحقيق تكافؤ الفرص، مع الحرص على ربط المسؤولية بالمحاسبة، والنأي بهذا المجال الحيوي عن الترضيات الحزبية والولاءات السياسية والفكرية.. إلخ

ج. اعتماد مقاربة بيداغوجية بنائية عبر وضعيات إشكالية ومركبة تمكن من شحذ طاقات المتعلمين، وتمنحهم فرصة للتعبير عن مواقفهم وآرائهم والدفاع عنها بكل حرية واقتناع. فاليوم ليست هناك حاجة إلى كتب مدرسية مليئة بمعارف صارت ملكا للجميع، بل نحتاج في الحاضر ومستقبلا إلى نسق تجديدي في بناء البرامج والمقررات الدراسية، وإلى مكتبات ووسائل اتصال تكنولوجية متنوعة ومجهزة، ومصادر معرفية نوعية متحررة ومنفتحة، تمتد إلى خارج المدرسة. هذا النسق التجديدي في بناء البرامج التعليمية والمقررات الدراسية يحتاج من الباحثين القيام بدراسات علمية نظرية ميدانية، حتى يتم تعميمه وتنزيله تنزيلا بيداغوجيا سليما.

رابعا: مقترحات لتجديد النظر في منظومة تقويم الخطاب القيمي بالمناهج الدراسية

أ. أن نغير نظرتنا القاصرة والخاطئة للامتحانات والتقويمات في النظام التربوي المغربي، فقد صار الامتحان والتقويم في مناهجنا الدراسية مع كامل الأسف مرتبطا بمفاهيم خاطئة آن الأوان أن تُصحح، من قبيل؛ الامتحان: هوس، عبئ، رعب، حاجز، نقطة عددية من خلالها يتم الحسم في المسار التعليمي للمتعلم…إلخ. فيصير بذلك التقويم عموما آلية للإقصاء والتمييز، والاستبعاد، فيضيق أكثر، ويقلص الفرص والاختيارات أمام المتعلمين، فمعادلة: التقويم= نجاح / رسوب، يجب أن نتجاوزها، من أجل نهضة تربوية حقيقية رائدة، تبني الشخصية المتعلمة الصالحة والمواطنة المسؤولة. وتمنحها فرصة ايجابية لمراجعة الذات.

ب. يجب أن تواكب قرارات المنظومة التربوية المغربية في ظل جائحة كورونا وغيرها من الطوارئ المفاجئة، نظام التقويم بالمغرب، من مراقبة مستمرة، واختبارات وطنية وجهوية، والتصريح بطرق التكييف منذ البداية، فكما هو معلوم لدى الفاعل التربوي، أن القرار التربوي عرف في فترة الجائحة ولايزال، ارتجالا واضطرابا كبيرا، فقد تم إلغاء امتحانات محلية وأخرى إقليمية، وتم الحفاظ على منطوق وحرفية المذكرات المنظمة للمراقبة المستمرة ..وتم الاقتصار على فروض المراقبة المستمرة، فإذا كان الظرف استثنائيا، يجب أن يكون التقويم وآلياته استثنائية، سواء كان التعلم عن بعد أو حضوريا أو بالتناوب.

ج. نقترح كذلك أن يكون التقويم واقعيا وشاملا، وقابلا للقياس الحقيقي،[2] ومناسبا لاهتمامات وميولات المتعلمين، من خلال إرساء الموارد المناسبة لهم، لكي يستطيع أن يكون توجيهيا ويخدم توجهاتهم في المستقبل، وأن يواكب التقويم التطورات التكنولوجيا والتغيرات الاجتماعية والبيئية… (كورونا نموذجا)، من خلال التفكير في تطوير آليات منظومة التقويم وتجديدها، كاعتماد التقويم الالكتروني مثلا، الاكثار من دورات تدريبية في مجال التقويم، الاشتغال على أبحاث وتداريب ميدانية وإدماجهم في مشاريع حقيقية. وعدم إغفال التحفيز لما له من انعكاسات على المتعلمين والفاعل التربوي على حد سواء.

ح. إن أول شيء ينبغي أن نقومه قبل الامتحانات، هو تقويم السياسات التربوية، بما في ذلك تقويم الفاعلين التربويين، تقويم الحياة المدرسية، تقويم جهاز التخطيط والتوجيه، تقويم جهاز الإدارة التربوية، وأن لانحصر التقويم في منظومتنا التربوية في الفروض والمراقبة المستمرة، والاختبارات الجهوية والوطنية؟؟؟ لذلك نحتاج اليوم ومستقبلا إلى إطار مرجعي وطني للتقويم التربوي، وقبله أن نفكر في التقويم المجتمعي لأنه هو الأساس، مع استحضار البعد الحضاري في مجال التقويم، لأن هذا الأخير موجود بشكل تطبيقي في موروثنا وحضارتنا، وأن ننشئ عليها أبناءنا، وهذا يقودنا إلى إشكالية تفعيل مسألة ربط المسؤولية بالمحاسبة.


[1]  هو مصطلح بيولوجي يرتبط بالتفاعلات الكيميائية التي تحدث في أجسام الكائنات الحية عموما، وجسم الانسان على وجه الخصوص، فهو عنصر مهم في توازن صحة الانسان، وتم توظيفه من قبل عالم المستقبليات”المهدي المنجرة” رحمه الله تعالى في هذا السياق البلاغي ليبين أهميته في العملية البيداغوجية، المبنية على التأثير والتأثر، والدور الأساس الذي تتأسس عليه في بناء الانسان، وجدانيا، ومعرفيا، وسلوكيا.

 [2]  يجب على صناع القرار والمهتمين بالشأن التربوي الاستفادة من نتائج الدراسات والأبحاث التربوية الحديثة في علم القياس وعلم التقويم، والعمل على تطوير آليات التقويم المعتمدة، فلا ينبغي لمنظومتنا التربوية أن تظل جامدة على أشكال من التقويم طال عليها الأمد، وصارت متجاوزة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق