الخطاب والسلطة الرمزية عند بيير بورديو:(رشدي بويبري)
يعتبر عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو بدوره من جيل المفكرين الغربيين النقاد الذين برزوا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وتركت إنجازاته المعرفية خاصة في مجال علم الاجتماع ونقد الفلسفة آثارا بارزة، وخلفت جدلا مهما بين المختصين في المجالين. وقد تركزت مقارباته لقضايا اللغة والخطاب في كتابه “Ce que parler veut dire الذي ظهر بالفرنسية سنة 1982 والذي نُـقل إلى الإنجليزية في 1991 ، ثم طبع بالفرنسية عام 2001 بعنوان langage et pouvoir symbolique “اللُّغة والسلطة الرّمزية”.
وقد وجه بورديو نقدا لاذعا “لطريقة التحليل البنيوي للغة والخطاب والنص، وهو نقد طال بشكل أساس لسانيات دي سوسير وتشومسكي ومدرسة “اكسفورد” في تحليل أفعال الكلام أو الخطاب ومدرسة “فرانكفورت” وممثلها الفيلسوف هابرماس في نظريته حول الفعل التواصلي”[1]. وهو ما يشرحه بقوله: “ليس التحليل البنيوي إلا تنويعا محدثا على التحليل الداخلي القديم الذي يعالج النص كشيء مستقل لا علاقة له بالخارج. (…) أعتقد فيما يخصني أنه ينبغي الربط بين الفضاء الذي تتموقع فيه النصوص وبين الفضاء الذي يتموضع فيه المنتجون (أي الكتاب)”[2].
أكد بورديو على الطابع الاجتماعي للخطاب، ونص على أنه إنما يستمد سلطته من ارتباطه بالمؤسسة والسلطة الرمزية. بل اعتبر عدم التسليم بهذه الخاصية ضربا من الخبط والتيه المنهجي يقول: “بمجرد أن ننظر إلى اللغة كعنصر مستقل ونقبل التمييز الجذري الذي أحدثه “سوسير” بين اللسانيات الداخلية والخارجية، أي بين علوم اللغة وتوظيفاتها الاجتماعية، فإننا في هذه الحالة نجبر أنفسنا على البحث عن سلطة الكلمات داخل الكلمات أي حيث لا توجد فعلا سلطتها”[3].
ويعرف بورديو السلطة الرمزية بكونها “قدرة على تكوين وبناء الواقع الاجتماعي، عن طريق اللغة (العبارات اللفظية)، ومن حيث هي قوة على الإبانة والإقناع، وإقرار رؤية للعالم أو تحويلها… فهي في النهاية قوة سحرية تمكن من بلوغ ما يعادل تأثير القوة الطبيعية والاقتصادية بفضل قدرتها على التعبئة”[4]. من خلال هذا التعريف نستنتج أن الخطاب يمتلك قدرة حقيقية على تشييد واقع اجتماعي خاص به عن طريق اللغة ومن خلاله التأثير في العالم.
يضاف إلى ذلك “أن السلطة الرمزية هي قدرة على الإبانة والإقناع، وهو ما يعني أن من يمارسها يجب أن تكون له قدرة على توضيح مقاصده وإقناع الآخرين بأفكاره باستعمال الأساليب اللغوية والخطابية الملائمة”[5]. فمن خلال التأثير في عقول الناس تتغير نظرتهم للعالم وتصورهم للعلاقات داخله، وهذا ما ينعكس على تصرفاتهم ويؤدي في النهاية إلى التأثير في العالم الاجتماعي وتوجيهه بما يخدم مصلحة من ينتج الخطاب ويروجه.
لكن عالم الاجتماع هذا اعتبر، أيضا، أن هذه السلطة تتحقق فقط بتوفر الاعتراف بها من قبل من يخضع لها، يقول: “فليست سلطة الكلام إلا السلطة الموكلة لمن فوض إليه أمر التكلم والنطق بلسان جهة معينة. والذي لا تكون كلماته على أكثر تقدير إلا شهادة، من بين شهادات أخرى، على ضمان التفويض الذي أوكل للمتكلم، وإن أقصى ما تفعله اللغة هو أنها تمثل هذه السلطة وتظهرها وترمز لها”[6]. فلغة السلطة لا تملك قدرة التأثير والأمر والنهي “إلا بمساعدة من تحكمهم، أي بفضل مساهمة الآليات الاجتماعية القادرة على تحقيق ذلك التواطؤ الذي يقوم على الجهالة، والذي هو مصدر كل سلطة”[7]. وبهذا يربط بورديو السلطة بمفهومي الشرعية والمشروعية. فشرط فاعلية سلطة الخطاب هو الاعتراف والقبول، وهو ما “لا يتحقق إلا بشروط خاصة تحدد الاستعمال المشروع للخطاب، والتي لخصها في ثلاثة”[8]. أولها أن الخطاب لا يمكن أن يصدر إلا عن الشخص الذي سمح له بإلقاءه. وعادة ما يكون هذا الشخص هو ذلك الذي حاز على اعتراف المجتمع له بالأهلية والقدرة على فعل ذلكن مثل الرئيس أو الوزير أو رجل الدين أو الأستاذ أو غيره. أما الشرط الثاني فيتحدد في ضرورة أن يلقى الخطاب في مقام مشروع، أي أمام المتلقي الشرعي. ويتجلى الشرط الأخير في أولوية اتخاذ الخطاب شكلا شرعيا قانونيا.
ونخلص مع بورديو إلى استنتاج مهم بصدد طبيعة الخطاب وعلاقاته وتأثيراته وامتداداته، فما “يعطي للخطاب قوته وما يجعله قادرا على حفظ النظام الاجتماعي القائم أو تغييره هو الإيمان بشرعية الخطاب ومن ينطق به. هو إيمان ليس في إمكان الخطاب أن ينتجه أو يولده من ذاته. أي تصبح الشرعية هنا هي الشرط الأساس لفاعلية الخطاب، فالخطاب يستمد قدرته على التأثير من تواطؤ الخاضعين له وموافقتهم عليه”[9]. فتحليله للتبادلات اللغوية “يؤكد على أن نفس الكلمات لا تنتج بالضرورة نفس التأثيرات لأنها متعلقة بالمتكلمين وبآليات السوق والمؤسسات التي تروج داخلها فضلا عن الآليات والإجراءات المعرفية للمتلقين”[10]. فإذا كانت اللغة وسيلة أساسية للتواصل فإنها قبل كل شيء، حسب بورديو، عنصر فاعلية وسلطة بيد المجتمع ونظام الحكم لأنها تستمد قدرتها وقوتها ونفوذها من الخارج.
[1] ـ الزواوي بغوره، بين اللغة والخطاب والمجتمع، مرجع سابق، ص 48.
[2] ـ بيير بورديو، بين كارل ماركس وماكس فيبر، حوار مع بيير بورديو. مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد37، 1985. ص 73.
[3]– Bourdieu, Pierre; Ce que parler veut dire, l’économie des échanges linguistique. Paris, Ed. Fayard, 1982 p 103.
[4]ـ Bourdieu, Pierre : langage et pouvoir symbolique, Paris, Seuil, 2001, p. 210.
[5]ـ نفس المرجع، ص18.
[6] ـ بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة عبدالسلام بنعبد العالي، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر 1990، ص57.
[7]ـ بيير بورديو، الرمز والسلطة، نفسه، ص 58/ 59.
[8]ـ الزواوي بغوره، مرجع سابق، ص53.
[9] ـ نفسه، نفس الصفحة.
[10]– Erik NEVEU, L’apport de Pierre Bourdieu à l’analyse du discours. D’un cadre théorique à des recherches empiriques , Mots. Les langages du politique n° 94 novembre 2010, p. 193.