الدولة العميقة وتوظيف الرمز الحيواني في خطاب الأحزاب والتنظيمات السياسية بالمغرب(إبراهيم القادري بوتشيش)
لا يزال مفهوم الدولة العميقة من أكثر المفاهيم التباسا وغموضا، وأشدها جدلا في الحقل السياسي. لن ندخل في تفاصيل ذلك المفهوم، بل سنقتصر على ملامسة خطوطه الكبرى، مع تركيز اهتمامنا في هذه المقالة على توظيف الرمز الحيواني، واستعارة دلالاته من قبل بعض قادة الأحزاب والتنظيمات السياسية المغربية للتعبير عن وجود دولة عميقة في المغرب. فما هو مفهوم الدولة العميقة باختصار؟
ورد مفهوم الدولة العميقة لأول مرة في مقال بصحيفة نيويورك تايمز سنة 1997 في سياق الحديث عن دولة تركيا، بما يحيل على معنى مجموعة من القوى المهيمنة الغامضة التي تسيّر دواليب هذه الدولة في الخفاء والسرية، بعيدا عن الضوابط القانونية والدستورية. غير أن هذا التعريف لا يزيل غشاوة الغموض الذي يلفّها، خصوصا مع تناسل عدة مصطلحات نحتها الباحثون بعد ذلك حول الدولة العميقة من قبيل الدولة الموازية، الدولة الخفية، الدولة غير المرئية، الدولة المزدوجة، الدولة غير المنسجمة، دولة داخل دولة، دولة فوق دولة، والدولة المتوحشة، ثم حكومة الظل التي جعلها “مايك لوفجرين” عنوانا لكتابه.
مع ذلك، يمكن استشفاف المشترك المفهومي بين سائر هذه التوجهات في أن الدولة العميقة تُنصِّب نفسها دولة موازية مع الدولة القائمة، من دون أن تظهر للعيان، فتوجّه سياساتها العامة، من خلال تسريب أعضائها الى داخل أجهزة الحكومة المنتخبة، بهدف التأثير والتحكّم في قراراتها. وطبقا لهذا التحكّم، فإن هؤلاء لا يخضعون للمحاسبة أو المساءلة، ويتسترون تحت المظهر السطحي للنظام الديموقراطي القائم على أسس دستورية وقانونية، بحكم ما يتمتعون به من سلطة نافذة على كافة أجهزة الدولة، ممّا يتيح لهم تقويض قرارات الرؤساء المنتخبين وأعضاء البرلمان. وبذلك تتحول آلية اللعبة السياسية من المنتخبين إلى غير المنتخبين الذين يصبحون القوى المتحكّمة في صنع القرار، وتسييره وفق أجندتهم الخاصة، المتماشية مع مصالحهم.
ووفق هذه النسق المفهومي، فإن تجليات الدولة العميقة تتمثل في وجودها كدولة “ثانية” غير مرئية وغير منتخبة، ولا يظهر منها سوى حجم تأثيرها في القرارات السياسية التي تتخذها الدولة القائمة الشرعية. فضلا عن أنها جهاز أخطبوطي يتملك شبكة من المصالح والتحالفات، ويتميز بالسرية والغموض، وبالاستمرارية والديمومة رغم تبدل الحكومات. فالدولة العميقة متجذرة وعصية على التغيير والإزاحة، تعمل بكثافة على تقوية رساميلها الرمزية والمادية، وتعميق نفوذها في مختلف مكونات النسق العام. كما أنها تتحكم في تغيير الحكومات، وتفرض بديلا لها وفق مصالحها. وغالبا ما تعارض أي تغيير، مقابل الدفاع عما تسميه ب”الثوابت” و”الإجماع الوطني”، و”مصلحة الوطن”، وتزعم أنها الحامية والمنقذة للشعب، فتفرض نتيجة ذلك وصايتها عليه بحكم أنها الضامن لمصلحته ووحدته. ولتأكيد وجودها وتمرير تدخلاتها، فإنها تؤسس تحالفا يشمل الجهاز البيروقراطي للدولة، وكبار رجال الأعمال، وبعض عناصر قادة الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، وتتغلغل داخل المؤسسات الرسمية وكافة الأنشطة الثقافية والرياضية والفنية، وحتى داخل جمعيات المجتمع المدني.
في هذا السياق، يمكن اختبار صحة فرضيات بعض رجال السياسة حول وجود دولة عميقة بالمغرب، تديرها قوى غير مرئية، لكنها متحكّمة ومؤثرة في سياسات الدولة القائمة، تتمدّد في شرايينها، وتتحكم في قرارات حكومتها بسلطة مضمرة، وباستراتيجية تنفذها من وراء الستار.
لا يقصد بالسرية في منظور هؤلاء عدم ظهور رجالات الدولة العميقة كليّا، بل اختباؤهم، مع العلم بوجودهم، وإخفاء نواياهم الحقيقية، وإبداء نوايا أخرى في العلن. وبذلك فهم يؤثرون في المنتخبين لتمرير توجهاتهم، أو يكونوا أحيانا ضمن ” المنتخبين” أنفسهم، لكن من دون الكشف عن توجهاتهم، وهو ما عبّر عنه بعض الكتّاب والصحفيين بمصطلحات محملة بالدلالات من قبيل الدولة الثانية، دولة القلّة، دولة المخزن، وما فوق الحكومة Supra –gouvernementale، وغيرها.
ما يهمنا في هذا الطرح، يكمن في كيفية تعبير بعض السياسيين وزعماء الأطياف الحزبية والتنظيمات السياسية عن هذا الطابع الخفي المتواري للدولة العميقة في المغرب بعدة صيغ كان الراحل عبد الرحمن اليوسفي قد وظف من قاموسها مصطلحي “جيوب المقاومة”، و”الإكراهات” للتعبير عن أن أيادي ما، تقف حاجزا أمام انسياب برامج الحكومة وتفعيل استراتيجيتها المسطّرة، وفرض توجهات لا تقبل بها. لكننا نروم في هذا المقالة التركيز على الصيغ التعبيرية المصطلحية التي أخذت من طبيعة بعض الحيوانات رمزا للتمثّل والاستعارة، للتعبير عن وجود أيادي خفية لها من النفوذ المالي والقوة والسلطة والطرق والوسائل ما يجعلها توجه بوصلة سياسة الدولة القائمة.
يقف الباحث في هذا السياق على بعض الصيغ التعبيرية التي استعملها زعماء الأحزاب السياسية المغربية تتضمن أسماء بعض الحيوانات، واستثمار دلالاتها الرمزية، لعلّ أهمها تعبير “التماسيح والعفاريت” التي وظفها رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران للتعبير عن القوى الخفية المحركة للسياسة من وراء الحجاب، مضيفا اليها تعبير ” الحزب السري”.
بفحص الدلالات المتوارية خلف مصطلح التمساح، تبدو بعض ملامح الدولة العميقة وفق الخصائص التي حددناها سلفا. فرمز التمساح كما تشكّل في ذهنية الإنسان كائن حيواني مخادع، ومن فصيلة آكل اللحوم الذي لا يرحم ضحيته، فضلا عما يتميز به من شراسة وقوة، وعدوانية، وصفات لخصها معلم الإسكندر الأكبر المقدوني أرسطوطاليس في قدرة هذا الحيوان على إثارة الخوف بسبب سرعة طريقته في التهام فريسته، والفتك بها بأنيابه القوية، والاختباء وجسّ النبض قبل الانقضاض عليها. كما أنه حيوان يتميز بالسرية والتمويه في عملية التحضير لعدوانه، وبإحداث المفاجأة غير المتوقعة.
قد يكون هذا التوظيف الاستعاري الذي استخدمه رئيس الحكومة السابق، ما يتيح الإمساك ببعض الخيوط الأولية للطابع السري للدولة العميقة بالمغرب، ولو أنه تراجع عن ذلك لأسباب سياسية. بيد أنه فسّر في بعض تصريحاته الدلالة العميقة المسكوت عنها في تعبير ” التماسيح والعفاريت” بالقول أن من عادة التمساح أن يختبئ في قاع المستنقعات، قبل أن ينقضّ بشكل مفاجئ على فريسته ويعود للاختباء، من دون أن يظهر على السطح. في حين فسّر رمز مصطلح العفاريت بالإحالة على قوى خفية تنفّذ مخططاتهما من دون أن يعرف أفرادها من هم ومن أين أتوا، وغالبا ما يشتغلون خارج القانون، وهو ما يتطابق مع خصائص الدولة العميقة كما تمّ تحديدها من قبل.
ولا يقلّ قيمة ودلالة توصيف الراحل المفكر عبد السلام ياسين، زعيم جماعة العدل والإحسان السابق في “مذكرة إلى من يهمه الأمر” للقوى الخفية المحركة للدولة العميقة المغربية ب”الأفاعي الحربائية” للإشارة إلى تلك القوى المندسّة خلف الدولة الظاهرة. ففي هذا الوصف السياسي الذي نحته المرحوم ياسين، يظهر حيوانان: الأفعى والحرباء.
ومع أن دلالات الأفعى تحيل في التراث البشري على الخير والشر، فإن الخطاب السياسي استثمر دلالة الشيطنة والشر، ووظفّها بالمعنى السلبي. فالأفعى التي هي من الزواحف السامة المهددة لحياة الإنسان، غالبا ما تحيل على اللدغ والسمّ، والاختفاء قبل الانقضاض على الضحية، وتتميز بحركاتها الملتوية التي تسمح بالالتفاف حول خصمها حتى تخنقه. وفي الفكر الديني تأتي دلالات الأفعى كوسيلة توصل بها إبليس إلى آدم في الجنة عندما سربته إليه وهو في جوفها، وهي التي أغوت حواء بثمار شجرة الخلود حتى طردت مع آدم من الجنة. واقترنت في القرآن الكريم بالجن((فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ))، علما أن الجنّ معروف بعدم الظهور للعيان.
وبالمثل ترتبط الأفعى في الذهنية العربية عموما والمغربية خصوصا، بالغدر والخداع، والالتواء من دون أن يشعر بها المرء، والتجسس لالتقاط الأخبار، وحبك الدسائس كما تعكس ذلك أمثال سيدي عبد الرحمن المجدوب، وبالعداء والمكر كما يستشف من تفسير ابن سيرين لرؤية الحية في الحلم .
أما الحرباء فترمز في المخيال الاجتماعي أيضا إلى الاختفاء والتستر، والتمويه بتغيير ألوانها، وتتميز بعيونها البارزة وإمكانية تحريكهما في كافة الاتجاهات بنطاق رؤية ب 360 درجة للرصد والمراقبة قبل الانقضاض على الفريسة. كما ترمز في المجال السياسي والاجتماعي إلى الانتهازية وتغيير المواقف حسب المصلحة.
ومع إن استعمال لغة الترميز في الخطاب السياسي من خلال الإحالة على الكائن الحيواني الماكر، أو القوى الجنيّة الشريرة، أو الأشياء الخفية، لا تخلو من دلالات حول الامتعاض والتبرم من ضعف سياسة الدولة القائمة، وخضوعها لقوى تتحكم فيها، أو تعبّر عن الصراعات الحزبية والتوظيف الشعبوي، أو تغطي فشلا في التسيير، والاختباء وراء وجود جهات تعرقل عمل الحكومة، فإنها تحمل في طياتها أبعادا لا يمكن أن نبرّرها بنبرة الصراع السياسي أو نقد المعارضة فحسب، بل إن تجلياتها، تؤكد أن جهة ما، منتخبة أو غير منتخبة، تساهم بطريقة أو بأخرى في تدبير الحقل السياسي ومراقبته، بل وحتى توجيهه عن بعد.
يتمخض عن هذا الدور الخفي، أن القرارات التنفيذية للحكومة المنتخبة تبقى في يد القوى المتوارية التي تحركها، والتي ((تعمل ليلاً ونهاراً على التحكم في خيوط اللعبة السياسية للبلاد، فيما يشبه دمية “الماريونيت” التي تتحرك من دون أن يظهر من يحركها حقيقة خلف الستار)).
ومع أن شكل الدولة القائمة يبدو شكلا واقعا ملموسا، إلا أنها في العمق نسيج متشابك يجمع بين ما هو مجرد، وما هو واقعي. وينتج عن ذلك ظهور صيغتين مختلفتين في السلوك، تتجلى الأولى في ممارستها لسياسات تحقق مصالح معينة ضمن الإطار الديمقراطي ظاهريا، غير أنها تسعى في العمق إلى التحكّم في كل شيء، تحت مبرّر الأمن، وضرورات وتنمية الاقتصاد، فتقوم بسلوكات خفية أحيانا. والراجح أن هذه الأدوار الخفية ليست سوى امتداد لأدوار مماثلة كانت تقوم بها الشخصيات المتحكمة في الدول السلطانية التي عرفها تاريخ المغرب في ظل التسلط والاستبداد.