المقالات

الذاتية وتقييم ثورتي مصر وتونس(إدريس قافو)

بعد الانقلاب على الشرعية في تونس– والذي قاده ظاهرياً شخص ليس له لا تنظيم يستمد منه قوته، ولا تاريخ نضالي وخبرة سياسية تؤهله لقيادة حركة بحجم الانقلاب على إرادة شعبية- عادت إلى الواجهة أسئلة إقفال باب التغيير والفاعل المستتر الذي تقديره الدولة العميقة، وعاد مع تلك الأسئلة لغز مواقف بعض الأفاضل، ومنهم إسلاميون، والذين كانوا يشيدون بالثورة التونسية، وينتقدون بشدة الثورة المصرية. 

والمقام هنا ليس لتقييم الثورتين، فلكل منهما إيجابياتها؛ فالثورة التونسية أعطت الأملبأنه مهما كانت شدة القبضة الأمنية، ومهما زُيِّفت مؤشرات استقرار دولة الفرد الواحد، فإن التغيير ممكن. والثورة المصرية كشفت حقيقة العقيدة العسكرية للمؤسسات الأمنية، وعرَّت أكذوبة القضاء المستقل، وزور الإعلام المأجور، ونفاق المنظمات الحقوقية، وعمالة بعض الأحزاب والجماعات الإسلامية، ودجل أغلب شيوخ القنوات، وجبن أغلب رجال الفكر … وازدواجية معاير الغرب، كما أثبتت أن السلطة لا تستطيع أن تفسد كل من يصل إليها، وأن هناك من هو مستعد للتضحية بحياته من أجل مبادئ يومن بها، ورحم الله محمد مرسي وتقبله في الشهداء.

هدف المقال ليس الحكم على الأشخاص بل هو فهم ذواتنا من خلال ما يستفزنا به الآخر من أفكار ومواقف، وفهم حِيَل النفس البشرية من خلال البحث عن تفسير لترجيح بعض الأفاضل المعروفين بنزاهتهم الفكرية لثورة تونس على ثورة مصر، انطلاقا من بعض الخصائص النفسية الراسخة في الإنسان، والمشار إليها في القرآن والسنة، وذلك بالبحث عن الإجابات المحتملة لبعض الأسئلة من قبيل:

لماذا تفضيل ثورة تونس قبل الانقلاب، ألمجرد أنها كانت غير مكلفة من حيث الثمن؟

لماذا يُصِرُّ بعض الاسلاميين على انتقاد الإخوان المسلمين في مصر دون طرح بدائل ولو نظرية؟

ولماذا يصرون على تحميلهم كل المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع في مصر؟

والمقال لا يدعي تقديم إجابات علمية، بل يحاول إعطاء احتمالات لحيل النفس وروغانها، وينطلق في بحثه عن إجابات للأسئلة أعلاه من مسلمات أولية: كميل النفس إلى الأسهل، وبحثها عن الانسجام مع ما ترفع من شعارات، ومحاولتها التخلص من التناقض ولو ظاهريا.

أولا. ميل النفس إلى الأسهل ورسوخ حقيقة (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)

أصل الفكرة من القرآن والسيرة:

لما خرج الصحابة يوم بدر لاعتراض قافلة قريش، وهم الذين تركوا الديار والأموال نصرة للإسلام، قال لهم رسول الله ﷺ: (أبشروا فإنَّ اللهَ قد وعدني إحدى الطائفتينِ)، وبدل أن يتمنوا الأفيد والأكثر نفعا، وهو الظفر بجيش قريش كسرا لشوكة الظلم، واستئصالا لأصل الفساد، تمنوا الأسهل، كما أخبر الله تعالى: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)، وفي التفسير: (الشَّوْكَةُ الحِدَّةُ مُسْتَعارَةٌ مِن واحِدَةِ الشَّوْكِ… ومِنهُ قَوْلُهم شاكِي السِّلاحِ، أيْ تَتَمَنَّوْنَ أنْ يَكُونَ لَكُمُ العِيرُ لِأنَّها الطّائِفَةُ الَّتِي لا حِدَّةَ لَها ولا شِدَّةَ) .

أثر المسَلَّمة في تقييم التجربة التونسية:

هذا الميل نحو الأسهل، وإرادة الغنيمة وكراهية دفع الضريبة نيابة عن الآخرين، يحكم موافق كثير من الناس وسلوكهم، فهم يريدون التغيير ولا يريدون دفع فاتورته، ويحبون سيادة قيم الإسلام ومبادئه، وان يتنازل الطغاة عن احتكارهم للسلطة والمال، دون أن يمس ذلك ما يحبون من أبناؤهم وأموالهم واستقرار أوضاعهم. وهذا الحرص على جمع ما لا يجتمع دائما تتولد منه كراهية المسارات التي يُؤَدِّي إلى فقدان أي من تلك المحبوبات؛ فحين يكون لدى الإنسان اصرار على التسوية بين تلك المحبوبات، إن لم نقل تفضيل العاجلة على الآجلة، لقول الله تعالى: (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة. وَتَذَرُونَ الآخرة)  ثم يُوضع في وضعية الترجيح بينها، يلجأ إلى الجدل ترويجًا لخياره المفضل ودفعا للوضعية غير المرغوبة، وقد ذكر القرآن كيف لجأ فريق من أهل بدر وهم من أفضل المسلمين إلى الجدل حين وضعوا أمام خيار مواجهة جيش قريش، قال الله تعالى: (كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ). وجدل من يرى وكأنه يساق إلى الموت لا شك أنه سيكون موجَّها بإرادة التخلص من المأزق أكثر مما سيكون موجها بالحجة والمنطق.

فالجدل وما يعبر عنه الإنسان من أفكار يجب ألا يحجب الاحتمال القوي لكون العامل الحقيقي لترجيح الثورة التونسية، قبل الانقلاب، هو كونها لم تصطدم بالدولة العميقة المحتكرة للعنف وللقوة بكل أشكالها.

ثانيا: الإرادة المضمرة وأسئلة التعتيم عن أصل المشكل

أصل الفكرة من القرآن:

في القرآن الكريم نجد سؤال أيَّان يوم القيامة، في قوله تعالى:(بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ  يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) الذي يوحي في ظاهره بالاستبعاد أو التكذيب كما قال كثير من المفسرين ، وهو قد لا يكون في حقيقة الأمر إلا:(تمشيا مع رغبته الإنسان في أن يفجر ويمضي في فجوره، لا يصده شبح البعث وشبح الآخرة) فيكون الباعث على السؤال هو إرادة الاسترسال في الفجور وليس الإنكار أو الاستبعاد، ويكون الجدل حول إمكانية البعث من عدمه نقاشا للتعمية عن السبب الحقيقي الذي هو الرغبة في الفجور، ودرء كل ما يحول دون تلبية تلك الرغبة.

أهمية الدوافع والغايات في تفسير السلوك والموقف عند خبراء التربية:

ما يريد الإنسان بتعبير الآية، ودوافعه وغاياته بتعبير خبراء التربية، هي التي تفسر حقيقة السلوك والمواقف، لذا يقترح جون ديوي البحث عن الدوافع، فيقول:(يمكننا في الحقيقة أن نبدأ ونحن مطمئنون من فرضية أن الدافع والعادة، وليس التفكير، هما المحددات الأساسية للسلوكفي حين يقترح فيكتور هوجو البحث عن الطموحات والتطلعات، ويقول أن:(معرفة الإنسان من خلال طموحاته أضمن من معرفته من خلال أفكاره … من خلال تطلعات الإنسان يمكن التعرف على شخصيته وأخلاقه أكثر مما يمكن التعرف عليها من خلال أفكاره المركبة والعقلانية والمنسقة)، أما عبد الحميد أبو سليمان فيدعو إلى البحث عن (الغاية والدافع الذي هو الجوهر والمحرك).

تنزيل الفكرة على الواقع:

بناء على هذه الفكرة يمكن أن نقول أن أصل جانب من الجدل في تقييم التجربتين التونسية والمصرية قد يعود إلى إرادة الاستقرار النفسي والاجتماعي وكراهية دفع ضريبة التغيير، فالبعض يريد أن يكون مسلما مع الاحتفاظ بأهوائه وأولوياته، ويريد أن يكون مؤمنا شريطة ان تحابيه سنن الله التي لا تحابي أحدا، ( كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)  والتي تقتضي تمحيص المؤمنين قبل محق الكافرين، مصداقا لقوله تعالى: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) .

وحين تفشل أسئلة التعتيم والتعمية عن الإرادة الحقيقية المضمرة تلجأ النفس إلى أساليب أخرى للدفاع عن الذات المنحازة إلى أولوياتها وغاياتها، وللتملص من المبادئ والمسؤولية الأخلاقية في الدفاع عن الآخر وحقه، كأن تحاول إشراكه في المسؤولية على الظلم الواقع عليه.

ثالثا: إشراك الضحية فيما وقع عليه من ظلم وذريعة (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)

أصل الفكرة من القرآن:

في القصة المذكورة في سورة يوسف، لما  أُخرِج الصُّواعُ من رحل بنيامن، لم يسأل إخوتُه الجندَ عن دليل السرقة، رغم علمهم أن الصواع قد يُدَسُّ في رحله كما دُسَّت بضاعتُهم في رحلهم في المرة الأولى، لكنهم حاولوا التخلص من ذلك الموقف بقولهم:  (إِن یَسرِق فَقَد سَرَقَ أَخ لَّهُ من قبل). وفي التفسير أنهم قالوا ذلك تسلية لأنفسهم ودفعا للعار عن خاصتهم لأنهم يرون (إن انتزاع أخيهم منهم – بعد تلك المواثيق التي أكدوها لأبيهم – لداهية تطيش لها الحلوم، … فلم يجزموا بسرقته، لعلمهم بأمانته) .

هل كان ذلك الموقف من إخوة يوسف حرصا على علاقتهم بعزيز مصر التي تمليها الحاجة إلى قوت أبنائهم؟ أم انتقاما من أخيهم؟ أم إبراء للذمة أمام أبيهم؟ الله أعلم.

الأكيد هو أن هذا السلوك راسخ في الثقافة الشعبية لدرجة أنه تُضرب له كثير من الأمثال: منها أن رجلا حضر هو وابنه إلى مكتب القائد، فتثائب الابن فضربه القائد لعدم إبداء الاحترام والتعظيم، ولأن الأب ليس له الجرأة ليحتجَّ على غطرسة القائد، فما كان منه إلا أن ضرب ابنه قائلا له: ألم تجد مكانا لتثائب فيه إلا أمام سعادة القائد؟

تنزيل الفكرة على ثورة مصر:

لكيلا يجد بعض الفضلاء أنفسهم في موقف إخوة يوسف أمام أبيهم وقد فرطوا في بنيامين بعدما أخذ منهم ميثاق الحفاظ عليه وبعد ما فعلوا بيوسف، ويجدوا أنفسهم في حرج أمام ضمائرهم، وأمام الناس، وأمام ما يرفعون من شعارات، أو يجدوا أنفسهم مضطرين للدفاع عن شرعية سلكت مسارا يناقض تصورهم لطريقة التغيير قالوا:

– إن الإخوان حاولوا احتكار السلطة، (رغم أن ثمانية شخصيات من غيرهم رفضت منصب رئيس الوزراء…).

– أو كان عليهم ألا يترشحوا للرئاسة. (ليتركوا للرئيس، الذي سيبتزه الغرب ثم يدعمه،المجالَ لنسف كل المكتسبات كما فعل قيس).

– أو كان عليهم أن يقتدوا بالتونسيين.

– أو كان عليهم أن ينسحبوا من الميدان لعدم اكتمال شروط التغيير، (ليقول لهم الشعب خذلتمونا أيها الجبناء، كما قال بعض المتفرجين للذين انسحبوا من حركة 20 فبراير في المغرب بعد انسداد أفق الحركة).  

– أو كانوا أغبياء وقليلي الخبرة السياسية لأنهم لم يُطهِّروا المؤسسة العسكرية، و(كأن المؤسسة العسكرية حديقة تدخلها متى شئت وتنزع الأعشاب والأشواك الضارة).

– … 

الخلاصة :

النفس تميل دائما إلى السير مع أهوائها ومع الأسهل، ولها دوافع وغايات تتحكم في مواقفها، و(تُجَدِلُ عَن نَّفْسِهَا) دفاعا عن خياراتها وتنقيصا أو تسفيها للخيارات المقابلة، ولها حيل قد تنطلي على صاحبها، وكثير من الأفكار قد لا تكون في الأصل إلا تبريرا لأهوائها، أو دفعا عن غاياتها ودوافعها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق