الزمان السلفي: حفريات في جدل الاتصال والانفصال(عبد العزيز بومسهولي)
بمجرد ما نتساءل عن ماهية السلفية، يطرح سؤال الزمان والكينونة نفسه بشكل جذري، وذلك لأن ما يطويه هذا المفهوم، لا يتضمن فقط موقفا عقديا، يتطابق مع عقيدة السلف، بل يتضمن موقفا زمانيا إزاء الماضي، بما هو ماضي السلف، نقطة انطلاق، نحو الحاضر، والمستقبل. وهذا يعني أن النزعة السلفية هي نزعة زمانية بامتياز، تحمل مشروعا للمستقبل، وبما أن هذا المشروع ينحدر من الماضي، فإن السلفية هي، كذلك، نزعة من أجل الكينونة، على نمط خاص، هو نمط وجود السلف. وبهذا المعنى، فإن السلفية، حسب محمد عبده، هي: “فهم الدين على طريقة سلف الأمة، قبل ظهور الخلاف، والرجوع إلى كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى”[1]. ومعنى ذلك أن السلفية هي بمثابة انكشاف لفهم نمط الكينونة، في أفق الزمان السلفي.
إذن، بأي معنى يمكن أن نفهم أفق الزمان السلفي؟ وما دام أن السلفية، هي نزعة زمانية، إضافة إلى كونها نزعة عقدية، ومنهج للحياة، فهل بإمكاننا الحديث عن الزمان السلفي؟
يقتضي الأمر تحليلا ميتافيزيقيا للزمان السلفي، أي تحليلا يختبره في أفق الأنطولوجيا، وهذا ما يجعل هذا التحليل بحثا في الزمان السلفي.
ورد في اللسان: ” زمن. الزمن والزمان اسم لقليل الوقت وكثيره؛ وفي المحكم: الزمن والزمان والعصر، والجمع، أزمن وأزمان وأزمنة. وزمن زامن شديد. وأزمن الشيء، طال عليه الزمان، والاسم من ذلك الزمن والزمنة ( عن ابن الأعرابي ). وأزمن بالمكان أقام به زمانا؛ وعامله مزامنة و زمانا من الزمن (الأخيرة عن اللحياني). وقال شمر: الزمن والدهر واحد؛ قال أبو الهيتم: أخطأ شمر، الزمان زمان الرطب والفاكهة وزمان الحر والبرد، قال : ويكون الزمان شهرين إلى ستة أشهر؛ قال: والدهر لا ينقطع… وقوله في الحديث: إذا تقارب الزمان، لم تكد رؤيا المؤمن تكذب؛ قال ابن الأثير: أراد استواء الليل والنهار، واعتدالهما؛ وقيل: أراد قرب انتهاء أمد الدنيا. والزمان يقع على جميع الدهر وبعضه…”[2]
بالمقارنة مع الحيز المخصص لكلمة سلف، في اللسان، نجد أن الحيز المخصص لكلمة، زمن، أقل بكثير، وهذا يرجع بالأساس إلى صعوبة المفهوم، كونه يحيل إلى ماهية مجردة لا تدل على شيء بعينه، بقدر ما تدل على استعمالاته، أو تدل على المعنى الذي يرادفه في الذهنية العربية الإسلامية. ولذلك كانت الإشارات للفظ الزمان، مقتضبة جدا، غير أنها بالرغم من كل ذلك، تشكل أفق الكينونة، في تمثلها للمفهوم، وذلك لأن اختبار المفهوم في سيرورته، أي من حيث تطور استعمالاته في المجال التداولي العربي، أو في صيرورته، من حيث التغيرات التي تطرأ عليه كتصور للوجود يعتمد الزمان كتفسير للعالم، إنما يحتفظ ، بنوع من الأصالة التي تكشف الأساس الذي تعبر عنه لغة ما عن الوجود. ومعناه أن فهم أفق تصور الكينونة للزمان، مشروط بفهم ذلك الأساس الذي تحتفظ به لغة ما. وكما هو بين من بعض ما ورد في اللسان، فليس للزمن لفظ واحد، فهو زمن من غير مد، وزمان بالمد، ولا يدل على مدلول واحد، بل هو دال أيضا على الوقت بغض النظر عن الكم والكيف، كما يدل على الدهر، ويطابقه عند البعض، ولا يطابقه عند البعض الآخر، كما قد يدل على مدة محدودة من الوقت، وهو يدل أيضا على أحوال دورة الطبيعة، كما يدل على أوان نضج الأشياء في الطبيعة المحسوسة؛ ومن دلالاته العميقة، كونه تجربة حدسية تنكشف كبعد للمكان، من حيث هو تجربة زمنية للإقامة في المكان، دالة على الوحدة الداخلية بين الزمان والمكان، كما تنكشف كحدس للعلاقة مع الغير، إذ أن التعامل مع الغير، من حيث هو مزامنة، ينتظم للزمان، وتنكشف أيضا كتجربة كشف للزمان، أي كرؤيا واستشراف للمستقبل الذي ينكشف كحقيقة للكائن المؤمن.
في أفق هذه التمثلات للزمان، نشرع في البحث “عن” و”في” الزمان السلفي . أي عن الزمان السلفي، من حيث كونه موضوعا للتقصي الأنطولوجي، الذي يستهدف إمكانية الاقتراب منه؛ وفي الزمان السلفي، من حيث كونه موضوعا للمقاربة الأنطولوجية، التي تستهدف تحليل بعض خصائصه.
ويبدو من الوهلة الأولى أننا إزاء مجازفة فارقة، بمجرد ما نتحدث عن مفهوم الزمان السلفي، وذلك لأن السؤال عن هذا المفهوم المركب لم يطرح بعد، ولهذا يظل مجرد إمكانية، تحتفظ بما يمكنها أن تكشفه من دلالة عن المفهوم الذي نحاول تقصيه في الفكر السلفي، وما يمكنها أن تجلبه لهذا المفهوم في انكشافه الأنطولوجي، كبعد من أبعاد الكينونة الزمانية، أي كبعد من أبعاد الوجود المشترك، وليس فقط، كبعد من أبعاد الوجود السلفي.
ليس البحث عن الزمان السلفي، أينيا، ولذلك سيكون سؤالنا أين هو الزمان السلفي ساذجا، من وجهة النظر الأنطولوجية، إن لم يكن سؤالا من غير معنى، أو سؤالا من غير أساس، من حيث أن هذا الزمان ليس في موضع ما يمكننا العثور عليه، كما لو كنا نبحث عن شيء للتملك يوجد هنا أو هناك، وبعبارة أدق، ليس البحث عن الزمان، من قبيل الموضع، بل هو من قبيل الأثر الذي لا يستقر بأي موضع، الأثر الذي يرشد فقط إلى أساس هو بمثابة إمكانية فقط لوجود، أي هو مجرد شرط لإمكان تحقق الوجود السلفي، وهذا الشرط هو الذي يجعله ممكنا تاريخيا، أي في أفق مستقبل يحمل السلفية على الكينونة بوصفها مشروعا زمانيا للوجود على نمط السلف.
ومع ذلك يقتضي التحليل الأنطولوجي، أن نتساءل عن ماهية الزمان السلفي. إذن ما هو الزمان السلفي؟
نقول إن زمانا ما هو سلفي، ليس لأنه مقتطع من الزمان، اقتطاعا خالصا، بل هو ما ينتمي إلى أفق الزمان الأنطولوجي بعامة، أي أنه ينتمي إلى زمانية أنطولوجية، تطرح نفسها بإلحاح في التاريخ المشترك، كمشروع لتملك الحاضر والمستقبل، أي كإمكانية تجيب عن مطلب غائي للكينونة، يكون في ذات الآن مشاركا للمطالب الأخرى التي تطرح نفسها كحاملة لمشاريع غائية لتحقيق تلك الكينونة. وهذا ما يجعل من السلفية نزعة تاريخية، بغض النظر عن نظرتها الماضوية للتاريخ. وهذا يعني أن ماهية الزمان السلفي إنما تتشكل في عمق التنازع حول الكينونة، معنى ذلك أن السلفية بما هي حركة تنشد المستقبل من بعد الماضي، هي وجهة نظر تظل من حيث المبدأ حركة تعبر عن أزمة الوجود الراهن، كونه عاجزا عن تحقيق المصير التاريخي للوجود العربي الإسلامي، أي أن وجهة النظر السلفية، تقدم نفسها، لا على أنها الأجدر بتحقيق مطلب الكينونة، بل على أنها الأحق وحدها بتحقيق هذا المطلب. وتحقيق الكينونة هو إجراء يقتضي تحيين حاضر، يجلب المستقبل على نحو أحق بالأفضلية، غير أن هذا التحيين للحاضر، مشروط بتحيين تجربة السلف، وهذا هو ما يشكل أفق الزمان السلفي. وهذا يكشف عن أن الزمان السلفي، ليس من السلف، بما هو سلف دال على ماهية وجود تاريخي، في شيء، بقدر ما هو مجرد تمثل لماهية ذاك النمط من الوجود؛ تمثل ينبع عن علاقة بالحاضر تقوم من جهة على عدم الرضى بواقع هذا الحاضر، كما يقوم من جهة أخرى على يقظة وعي ناتحة عن العلاقة بالغير، خاصة على العلاقة بالغرب المهيمن على الحضارة الحديثة والمعاصرة. ولذلك، فنشأة هذا الوعي مقترنة بكيفية التعامل مع هذا التغير الحاصل في الزمن الخاص للكينونة، ومع الزمن الكوني. ومن ثمة تظهر أهمية السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان : لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟[3]
وهذا السؤال على أهميته يوضح لنا، كيف نشأ هذا الزمان الذي نجازف بتسميته سلفيا. أي أنه نشأ في خضم وضع جديد، يشهد فيه العالم العربي الإسلامي انحطاطا غير مسبوق. ولهذا فإن بحثنا عن الزمن السلفي يبدأ في تلك اللحظة التي يشخص فيها الوعي السلفي الوضعية الراهنة للوجود الإسلامي. وفي هذا التشخيص نستكشف ماهية الزمان السلفي. نعثر في ثنايا تفسير رائد الفكر السلفي، محمد عبده، لسورة الفاتحة، على ما يدلنا على ملامح ماهية هذا الزمان، الذي ينكشف بكيفية “أنطو- تيولوجية” لا من حيث هو مطلق عطاء للوجود، بل من حيث هو جزاء لهذا العطاء، كونه تعبيرا عن العدل الإلهي. يطرح محمد عبده، السؤال التالي، في سياق شرحه ل “يوم الدين”: ” ولسائل أن يسأل: أليست كل الأيام، أيام جزاء، وكل ما يلاقيه الناس في هذه الحياة من البؤس هو جزاء على تفريطهم في أداء الحقوق، والقيام بالواجبات عليهم؟ والجواب: بلى، إن أيامنا التي نحن فيها قد يقع فيها الجزاء على أعمالنا، ولكن ربما لا يظهر لأربابه إلا على بعضها دون جميعها. والجزاء على التفريط في العمل الواجب إنما يظهر في الدنيا ظهورا تاما بالنسبة لمجموع الأمة لا لكل فرد من الأفراد، فما من أمة انحرفت عن صراط الله المستقيم، ولم تراع سننه في خليقته إلا وأحل بها العدل الإلهي ما تستحق من جزاء، كالفقر والذل وفقد العزة والسلطة”.[4]
في سياق هذا التأويل يتشكل الزمان السلفي كمنظور لوعي بإشكالية الوجود، من خلال تجربة الفقدان والعجز عن تملك حاضر الكينونة، وتكشف فكرة ” الجزاء” عن عدل إلهي، يكون بمثابة تقويم لزمانية الكينونة المشتركة، أي أن فكرة الجزاء، هي مجرد معيار، لدرجة استحقاق الأمة للوجود، وهو ما يعني أن جدارة استحقاق للكينونة، إنما ترتبط بالاقتدار على صناعة المصير، فليس البؤس بما هو بؤس للكائن، قدرا إلهيا، أي بما هو معطى، مرتبط قبلا وسلفا، بأمة ما، بل هو بالأحرى، جواب عن عجز على الوجود، أي بما هو معطى بعدي ينكشف في الزمان الدنيوي، بوصفه ليس ناتجا سوى عن حالة قصور عن الفعل، بما هو أداء للحقوق والواجبات. إن فكرة العدل الإلهي، ليست مرتبطة بفكرة مشيئة عمياء، تقرر وضعا إنسانيا هو بمثابة قدر خارج عن شرطي الزمان والمكان، وإنما ترتبط بوضعية التجربة الإنسانية، بوصفها تجربة فعل يجري في مكان وزمان ما، بكيفيتين متباينتين: كيفية الاقتدار على الوجود، أي على فعل الوجود المفضي لتأسيس مصير الأمة، أي إلى الكينونة، أو بكيفية العجز على الفعل المؤسس للكينونة، المفضي إلى البؤس الذي يتجلى كفقدان وجودي لخصائص الاقتدار. يقول محمد عبده: ” إذا ضلت أمة سبيل الحق، ولعب الباطل بأهوائها، ففسدت أخلاقها واعتلت أعمالها، وقعت في الشقاء لا محالة، وسلط الله عليها من يستذلها ويستأثر بشؤونها، ولا يؤخر لها العذاب إلى يوم الحساب- وإن كانت ستلقى نصيبها منه أيضا- فإذا تمادى بها الغي، وصل بها إلى الهلاك، ومحي أثرها من الوجود، لهذا علمنا الله كيف ننظر في أحوال من سبقنا، ومن بقيت آثارهم بين أيدينا من الامم، لنعتبر ونميز بين ما به تسعد الأقوام وما به تشقى”.[5] من هذه الوجهة، يمكن اعتبار الزمان السلفي، هو جزء من بنية الانتماء إلى الزمان الأنطولوجي العام، كونه جزء من تصور يندرج في فهم الزمان، كبعد لأنطولوجيا زمانية منتظمة لسنة الوجود. غير أن للزمان السلفي خاصية، تجعله منفردا في طرحه، لمسالة الزمان، وهذه الخاصية هي التي تجعل منه زمانا سلفيا بامتياز، ومنشأ هذه الخاصية إنما يرجع إلى نوع من الفهم، يفسر العجز عن الزمان انطلاقا من موقع ما للتاريخ، أو بالعلاقة مع ماض تعتبره أفقا غائيا للفهم. ومعناه ” أنه لا يمكن أن تعرف حقيقة – الأمة- إلا بعد معرفة تاريخها الماضي، فلا بد من تتبع السواقي والجداول إلى الينبوع الأول الذي هو الأصل”[6]. إن الزمان السلفي زمان مركب، فهو من حيث كونه وعي بتاريخية الموجود، هو زمان أنطولوجي يندرج في أفق مجرى حدوث الزمان الكوني، ومن حيث كونه فهما للتاريخ في بنية الوحي ونهج السلف، فهو زمان اقتطاع يحتفظ من الزمان بسكون الحدث، أي يحتفظ بصورة حدث ساكن في ماضيه؛ و هذا الاقتطاع هو مبدأ لزمانية سلفية تتخذ من التذكر وسيلة ليس لاسترجاع الزمن فقط، بل لتحيين الحاضر، من خلال التقاط العبرة من الماضي، والتمكن من صناعة المصير، وهذا التأويل السلفي للزمان، يمكننا التقاطه في تفسير الإمام محمد عبده للقرآن الكريم، ومن ذلك ما ورد في سياق شرحه للآية 49 من سورة البقرة، ” لا أقول إن هذا الخطاب إيماء أو إشارة للمخاطبين بأن يستحضروا تاريخ أمتهم الماضي ليتذكروا صنع الله تعالى فيهم فيعتبروا بما أصابهم من نعماء وضراء، وسعادة وشقاء، ويتفكروا فيما حل بهم من بعدهم، وما ينتظر أن يخل بهم، وإنما الكلام صريح لا يحتاج إلى تأويل، فالروابط الاجتماعية بين أفراد الأمم وجماعتها كالروابط الحيوية بين أعضاء الشخص الواحد بلا فرق”[7]. ومعنى ذلك فإن ماهية الزمان السلفي، إنما تنتسب للتاريخ بما هو كلي وخاص في الآن ذاته، ولهذا يستحضر هذا التصور للزمان التاريخ كمرشد للكينونة: ” فالتاريخ هو المرشد الأكبر للأمم العزيزة اليوم إلى ما هي فيه اليوم من سعة العمران وعزة السلطان، وكان القرآن هو المرشد الأول للمسلمين إلى العناية بالتاريخ، ومعرفة سنن الله في الأمم منه وكان الاعتقاد بوجوب حفظ السنة وسيرة السلف هو المرشد الثاني إلى ذلك، فلما صار الدين يؤخذ من غير الكتاب والسنة أهمل التاريخ، بل صار ممقوتا عند أكثر المنشغلين بعلوم الدين، فإن وجد من يلتفت إليه فإنما يكون متبعا في ذلك سنة قوم آخرين”[8].
وفق هذا المنظور يتميز الزمان السلفي، بخاصيتين هما: الاستمرارية والحفاظية، الاستمرارية باعتبار وصل الحاضر بالماضي من غير قطيعة أو انقطاع، والحفاظية باعتبارها احتفاظا بصورة حدث أساس، يكون بمثابة جواب عن سؤال الحاضر، أي ذاك الذي يحتفظ بإمكانية حدوث في مجرى تاريخ الكينونة. وهاتان الخاصيتان للزمان السلفي، – من وجهة نظر ميتافيزيقية- ليستا من ناحية سوى تعبير عن مفارقات الزمان، فالاستمرارية، هي الوجه الآخر للانقطاع عن حاضر، تعتبره السلفية منفصلا عن ماضيه؛ وأما الحفاظية فهي الوجه الآخر للإتلاف والإضمار، أي إتلاف علاقة الارتباط بالحاضر، لصالح علاقة ارتباط بالسلف. ومعنى هذا أن منظوراتنا للزمان، ليست زمانية، لأنها من قبيل الزمان، بما هو زمان، بل هي من قبيل الرغبة؛ ولهذا فكل منظور للزمان، إنما يعبر عن انتقائية الرغبة التي نستخلص منها خاصيات الزمان الذي نحثه على الاستجابة لنداء كينونتنا. إذ بقدر ما نلتفت للزمان، بقدر ما تنكشف أولوية للرغبة، بوصفها موضوع انتقاء، يعبر في الآن ذاته عن موقف الكائن من الحاضر. وفق ذلك، تعمل الرغبة على النظر للزمان، إما باتجاه ماض ما للكينونة، ما زال يحتفظ من منظور الرغبة بإمكانية حدوث تنتشلها من واقع حاضر ليست براضية عنه، وإما باتجاه الحاضر ذاته، بوصفه هو عينه الحدث الأصيل للكينونة الذي يعبر عن التحكم في إمكانيات الحدوث الراهن، وإما باتجاه المستقبل، بوصفه منبعا لا ينضب للزمان، من حيث هو المشروع الأصيل للكينونة. و الواقع أن رغبتنا التي تتشكل الزمانية في أفقها، هي حاصل وعينا بوضعيتنا في الزمان، أي هي وعي بلواحق وجودنا، أي وضعية الوجود الذي نكون عليه، سواء في زمن السكون أو العجز، أو في زمن الفعل، أو الاقتدار. والحاصل أن وعي السلفي بالزمان، يندرج في نسق هذه الرغبة في الماضي، ليس بوصفه مطلق الماضي، بل ما تراه رغبة السلفي في كونه ماضيا أصيلا للكينونة، أي في ماض يحتفظ بإمكانية جلب الاقتدار المفقود راهنا، هو ماض بعيد يستقر في نمط وجود سالف، وهذا الماضي وحده، هو الذي يحدد أولوية الرغبة. وهذا ما يعبر عنه وعي السلفي الذي لا يرى من مخرج للكينونة، جدير بالاعتبار، سوى إحياء هذا النمط للعيش، كوسيلة للاقتدار على المصير.” كان سلفنا رضي الله تعالى عنهم يضبطون أحوال من قبلهم من أمور الدين والدنيا بكل اعتناء ودقة… وليست هذه المبالغة مما يؤخذ عليهم فإن الأمة إنما تكون أمة بدينها ولغتها وأخلاقها وعاداتها فإذا لم يحفظ خلفها عن سلفها هذه المقومات بحفظ تاريخها تكون عرضة للتغير بتأثير حوادث الزمان وتقلبات شؤون الاجتماع، مع جهل المتأخر بما كان عليه المتقدم وبكيفية حدوث التغيير الضار للجهل بالتاريخ. بهذا تفعل فواعل الكون بالأمة الجاهلية أفاعيلها حتى تقلب كيانها، وتقوض بنيانها، وتقطع عرى الربط العامة بين أفرادها، فلا يكون لهم عمل إلا المصلحة الشخصية وهي لا حفاظ لها في مجموع الأمة إلا بالمصلحة العامة فإذا أهملت تكون الأمة من الهالكين”.[9]
في سياق هذا
التفسير الذي يستعين بالتاريخ، كوسيلة لربط الماضي بالحاضر، من أجل غاية تتمثل في
إعادة تأسيس الكينونة، أي من أجل مشروع لنهضة الأمة الإسلامية ، يتشكل مفهوم
الزمان السلفي، صحيح أن السلفية ظاهرة عباسية، كما ذهب أغلب المشتغلين على التراث
السلفي.[10] غير أن مفهوم الزمان
السلفي، بمقتضى التحليل الأنطولوجي للزمان، هو ظاهرة معاصرة، لم تنبع في سياق
الصراع الجدلي حول العقيدة، بل نبعث في سياق وعي جديد وحديث بالزمان، وبحدث
الكينونة، وهذا ما ليس حاضرا في النشأة الأولى للسلفية، ولهذا نؤكد على أن الزمان
السلفي، ليس من السلف في شيء، بقدر ما ينتسب إلى منظور السلفي الحديث، للسلف،
كأساس لزمنية، تتخذ من السلف كماض، قاعدة للزمان ككل تنكشف كإمكانية لتجديد الزمان
وإعادة بناء الكينونة وفق نمط وجود سلفي معطى سلفا في ذلك الماضي. ومعنى ذلك فإن
الزمان السلفي يبدأ كتجل لوعي بالزمان، كجواب عن سؤال الكينونة، من حيث هي مشروع
يمكن استعادته كاقتدار على الوجود من جديد، أي كقرار ينحدر من الماضي. أي أنه يبدأ عندما يقرر
السلفي أن العرب والمسلمين لن ينهضوا إلا بمثل ما نهض به السلف في الماضي. ومعناه أن السلف هو قوام ماهية الوجود، وأن
السلفية كنمط وجود، هي أساس وقوام الكينونة كوجود
بماهية أصلية سابقة على كل علاقة في الزمان الأنطولوجي. أي أن هذه الماهية بحسب
فهم السلفي للماهية، متقدمة على أي وجود إنساني، حيث أن العلاقة بين الخالق
والمخلوق “ليست مبتدئة في الزمان، عند اللحظة التي يتم فيها الخلق، بل هي
سابقة على ذلك، وممتدة في الماضي الأزلي، متمثلة في قيام الموجودات العالمية جميعا
في العلم الإلهي، قبل وجودها أعيانا”.[11] ومعناه أن أي مشروع
للكينونة، جدير بالاستعادة والتأسيس، إنما
هو مشروط بالاستجابة للمجرى السلفي للوجود، ففي أفق هذا المجرى تنكشف السلفية
كخاصية للكينونة المقتدرة على بعث الحياة في وجود الأمة ثانية.
1 -محمد عمارة، السلف والسلفية، منشورات وزارة الأوقاف المصرية، القاهرة، 2008، ص، 11-12.
2 -ابن منظور: لسان العرب، باب الزاي، جزء21، دار المعارف، القاهرة، ص 1867.
3 – شكيب أرسلان، لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط 2- 2012.
4 – محمد عبده، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، الجزء الرابع، الطبعة 1 دار الشروق 1993 ص 35.
5_م.س،ص48.
6 – م.س، ص، 170.
7 – م.س، ص169.
8- المصدر عينه، ص 171.
9- م.س، ص 171.
[10]– أنظر محمد عمارة في كتابه: السلف والسلفية، ص 19. وأنظر أيضا بحث بشير، م، نافع: السلفية إشكالية المصطلح، والتجليات المتعددة، ضمن كتاب : الظاهرة السلفية، التعددية التنظيمية والسياسات، الدار العربية للعلوم ناشرون، ومركز الجزيرة للدراسات، الدوحة- بيروت 2014، ص 11.
11- عبد المجيد عمر النجار، الإنسان في العقيدة الإسلامية، 1- مبدأ الإنسان، مركز الدراسات والإعلام، دار اشبيليا، ودار الزيتونة للنشر، الرباط 1996، ص 32.