السببية أم العادة؟ بين الغزالي وابن رشد(رضوان سعدي)
من المعروف في تاريخ الفكر الفلسفي الإسلامي أن الغزالي شن هجوما عنيفا على الفلسفة والفلاسفة الى درجة التكفير، حيث كفرهم في ثلاث قضايا وابتدعهم في سبعة عشر، وتنتمي هذه القضية التي نحن بصدد تناولها الى القضايا الطبيعية التي ابتدع فيها الغزالي الفلاسفة، إنها السببية، التي تشير في دلالتها الفلسفية إلى ” مبدأ يمثل العلاقة بين السبب والمسبب، فهو مبدأ عقلي يراد به أن لكل ظاهرة سببا يحدثها، فما من شيء إلا كان لوجوده سبب أو مبدأ يفسر وجوده” [1].
فما هو موقف الغزالي من موضوع السببية؟ هل رفض السببية نظرا لكونها تتنافى مع مبادئ الدين الإسلامي أم أنه رفض صياغة الفلاسفة لها؟ وكيف دافع ابن رشد عن السببية والترابط الضروري بين الأسباب والمسببات؟ وماهي الحجج التي ساقها كل واحد منهما للدفاع عن موقفه؟
يعد الغزالي من كبار متكلمي الأشاعرة إلى جانب الباقلاني والجويني، الذين يعتبرون أن الاقتران بين السبب والمسبب راجع إلى العادة وليس للضرورة العقلية كما كان يعتقد الفارابي وابن سينا. يقول الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة “إن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما ما يعتقد مسببا، ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئان (أي مختلفان) ليس هذا ذاك، وليس ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمنا لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمنا لنفي الآخر….. مثل الشبع والاكل والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، واسهال البطن واستعمال المسهل، وهلم جرا الى كل المشاهدات من المقترنات: في الطب والنجوم والصناعات والحرف. وأن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه: يخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفوت بل في المقدور خلق الشبع دون الاكل، وخلق الموت دون حز الرقبة، وإقامة الحياة مع حز الرقبة -وهلم جرا – الى جميع المقترنات”[2]. ففي هذا النص تعبير صريح عن انكار الترابط الضروري بين الأسباب والمسببات، وفي ذلك دفاع الغزالي عن المعجزة والإرادة الإلهية، لأن الإقرار بالسببية هو نفي لحرية وإرادة الله، وإنكار للمعجزات من وجهة نظره.
إن رفض الغزالي للسببية يعود الى اعتقاده أن فكرة الضرورة والاقتران الحتمي بين الظواهر، نفي وإنكار للمعجزة وفي هذا السياق يقول أحد الرشديين العرب:” دليل هذا ما يذهب اليه في تهافت الفلاسفة، من أن مخالفة الفلاسفة تعد أمرا ضروريا، إذ ينبني عليها إثبات المعجزات الخارقة للعادة، بحيث أن من سلم بالتلازم الضروري بين الأسباب ومسبباتها فإنه ينفي بالتالي قلب العصا ثعبانا وإحياء الموتى، وشق القمر”[3]. ولتوضيح موقفه هذا قدم الغزالي مثالا على عدم لزوم الاقتران بين السبب والمسبب، يقول ” فلنعين مثالا واحدا وهو الاحتراق في القطن مثلا، عند ملاقاة النار فانا نجوز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق، ونجوز حدوث انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار…. بل نقول فاعل الاحتراق هو الله تعالى”.[4]
ويمكن إجمال النقط التي انتقد فيها الغزالي الفلاسفة فيما يلي:
- ضرورة الاقتران بين الأسباب والمسببات: إن هذا الاقتران ملازم بالضرورة فلا يمكن أن يوجد السبب دون المسبب والعكس بالعكس، فمثلا لا يحترق القطن إلا إذا لاقي النار، والنار لا تحرق إلا إذا لقيت القطن.
- نظام الكون: يعتبر الفلاسفة أن الكون له نظام محكم وقوانين ثابتة، فالله تعالى خلق الكون وجعل له نظاما وهذا النظام هو بمثابة القوانين الكونية وبدونه يصبح الكون عرضة للتغيرات العشوائية، فإذا لم نقل بالنظام والسببية، يصبح من الممكن القول إننا تركنا طفلا في المنزل وعند عودتنا وجدنا الطفل قد انقلب كلبا أو العكس تحت اسم القدرة والارادة الإلهية.
- المعجزة: لقد عمد الفلاسفة حسب الغزالي على تأويل المعجزات، كأن نقول النبي فلان أحيى الموتى والمقصود بذلك، أن الجاهل عندما بث النبي فيه العلم يكون قد أخرجه من الموت(الجهل) إلى الحياة (العلم). اضافة الى ادخالهم المعجزة في سياق الضرورة الطبيعية، والتمييز بين المعجزة الحسية والمعجزة العقلية. وهنا تجدر الإشارة الى تصحيح إحدى المغالطات السائدة لدى بعض المفكرين الذين يحاولون إقامة مقارنة بين المفكر الإنجليزي دافيد هيوم والغزالي، معتبرين أن الغزالي كان له السبق في نقد السببية والاقرار بالعادة. إلا أن الفحص الدقيق لهذا الرأي سرعان ما سينكسر على صخرة نصوص الغزالي وهيوم، فالأول كان ينفي الترابط بين الأسباب والمسببات دفاعا عن المعجزة الإلهية، وأن الله هو الفاعل الوحيد بتوسط الملائكة أو بدون توسطهم. في حين أن الثاني اعتبر أن الترابط بين الظواهر راجع الى العادة، عادتنا في الحكم على الأشياء، فبحكم تعودنا على تعاقب الظواهر اعتقدنا أن هناك رابط ضروري بينهم، هكذا ينفي هيوم السببية دون اللجوء لأي قوة متعالية.
خلاصة القول إن ما يقوله الغزالي هو تكرار لموقف الأشاعرة، الذين يرفضون مبدأ السببية ويقرون بالعادة دفاعا عن المعجزة والإرادة الإلهية، وهذا نص لأحد رجال الاشاعرة ينفي فيه فكرة السببية والارتباط السببي بين الظواهر، يقول” فليس للشرب دخل في الري، بل الري واقع بقدرة الله واختياره، فله أن يوجد الشرب دون الري، والري دون الشرب، وكذلك الحال في سائر الأفعال[5]“.
في المقابل ودفاعا عن العقل والمنطق والنظام، يؤكد ابن رشد أن المعرفة تستحيل دون مبدأ السببية لأنها معرفة بالقوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية، يقول ابن رشد “من رفع الأسباب فقد رفع العقل”[6]، ويعتبر أن الله سبحانه وتعالى خلق العالم وأودع فيه قوانين ثابتة، فليس من عادته أن يخلق شيئا ثم يغيره وهذا ما عبر عنه أكبر فيزيائي في العصر الحديث ألبرت أينشتاين بالقول “إن الله لا يلعب النرد[7]” فقد خلق الكون وأودع فيه نظاما وقوانين ضرورية وثابتة، هكذا فإن نفي السببية سينتج عنه الفوضى و العشوائية في الطبيعة، وهو ما عبر عنه ابن رشد بشكل ساخر بقوله لا يمكن أن نترك طفلا في المنزل وبعد عودتنا نجده قد تحول إلى كلب، ويستشهد بآيات من القران الكريم, مثل قوله تعالى ” ولن تجد لسنة الله تبديلا”[8] وقوله “ولن تجد لسنة الله تحويلا”[9] وهذا دليل شرعي على ثبات الناموس الإلهي والقوانين التي أودعها الله تعالى في الكون. هكذا فإبطال السببية هو إبطال للحكمة الإلهية وللناموس الرباني.
أما ما يعتبره الأشاعرة والغزالي” عادة” يقول ابن رشد أنه أمر غير واضح بذاته يقول في تهافت التهافت “ما أدري ماذا يريدون باسم العادة؟ أهي عادة الله، وهذا محال في حقه لأن العادة ملكة مكتسبة بالتكرار، والله منزه عن ذلك، أم يريدون عادة الموجودات وهذا غير جائز لأن العادة لا تكون إلا لذي نفس، وإذا كانت لغير ذي نفس فهي طبيعة، والأشاعرة يرفضون القول بالطبائع. أما إذا كانوا يريدون بالعادة عادتنا نحن في الحكم على الموجودات فإن هذه العادة ليست شيئا أكثر من فعل العقل الذي يقتضيه طبعه وبه صار العقل عقلا وإذا فهمت بهذا الشكل كانت هي مبدأ السببية… “[10] لكن بماذا سيجيبنا ابن رشد إذا طرحنا عليه السؤال التالي: ما قولك في النبي إبراهيم الذي ألقي في النار ولم يحترق؟ سيجيب ابن رشد في” تهافت التهافت” “فإن الذي يجب أن يقال فيها إن مبادئها هي أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية، فلابد أن يعترف بها مع جهل أسبابها ” [11].
[1] جميل صلببا: المعجم الغلسفي، ج1, دار الكتاب اللبناني- بيروت, 1982, مادة السببية، صفحة .649
[2]عبد الرحمان بدوي، أوهام حول الغزالي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 9 (أبو حامد الغزالي) , ,1988ص : 245_246
[3] محمد عاطف العراقي، تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية، دار المعارف كورنيش النيل- القاهرة، الطبعة الثانية 1974, ص105-104.
[4] ابن رشد، تهافت التهافت، تحقيق محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، الطبعة الثالثة ابريل 2008، صفحة: 503.
[5] الباقلاني: التمهيد ” في الرد على الملحدة والمعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة” ضبطه وقدم له وعلق عليه محمود محمد الخضيري، ومحمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، القاهرة, 1947, صفحة 300.
[6] ابن رشد، تهافت التهافت، تحقيق محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، الطبعة الثالثة 2008, صفحة 505:
[7]مايكل ماهر ” ماذا كان يعني أينشتاين بأن الله لا يلعب النرد”؟، إضاءات, 5دجنبر 2018, (تاريخ الدخول 2 أبريل 2022)، https://www.ida2at.com» einstein
[8] القران الكريم: سورة الأحزاب الآية 62
[9] القران الكريم: سورة فاطر الآية 43
[10] محمد عابد الجابري نحن والتراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي دار الطليعة بيروت، الطبعة الأولى ابريل 1980 صفحة: 249
[11] ابن رشد، تهافت التهافت، تحقيق محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثالثة, 2008, صفحة: 510.