السلطان والفقيه « المعارض » زمن المرينيين:(محمد ياسر الهلالي)_2_
فقهاء « عارضوا » السياسات المرينية
خلصت دراسة سابقة [1] إلى أن عدد الفقهاء الذين « عارضوا » سياسات الدولة المرينية كان قليلا مقارنة مع نظرائهم المتهافتين على أبواب الحكام، الطامعين في امتيازاتهم. وقد تأكدت هذه الخلاصة أكثر بعد الاطلاع على ترجمة أزيد من ثلاثمائة ترجمة لفقهاء عاصروا الدولة المرينية، حيث تبين أن أعداد « المعارضين » لم يتجاوز العشرين. فالغالبية آثرت مهادنة السلطان على ما يبدو. ومن أسماء الفقهاء الذين « عارضوا » السياسة الجبائية، عبد العزيز القوري/ القروي [2]، وأبو الربيع سليمان الأنفاسي [3]، وأحمد القباب [4]، ومحمد بن قاسم العقباني [5]، وأحمد الونشريسي [6]. وممن شككوا في حِلِّيَةِ أموال السلاطين، واعتبروا تصرفهم في تلك الأموال فاسدا، راشد الوليدي [7]. وممن « عارض » سياسة تحبيس السلاطين أبو العباس أحمد البجائي [8]، والشريف محمد العمراني [9]، والشريف المزدغي[10]، وأحمد المزجلدي[11]، وأبو القاسم التَّازْغَدْري [12]. ولم تقف « معارضة » الفقهاء عند تحبيسات السلاطين، بل شملت كذلك تبرعاتهم وهباتهم وصدقاتهم وغيرها، ومنهم من رفض حتى تحبيساتهم على مصالح المسلمين، ويشكل عبد الله العبدوسي خير نموذج في هذا الباب [13].
وعبر فقهاء آخرون عن عدم شرعية أموال رجال المخزن وأملاكهم وصدقاتهم وتبرعاتهم، من جباة وعمال وولاة وكل من كان يشتغل بخدمة السلطة وله علاقة بغصب أملاك وأموال الغير، بما أنهم مستغرقو ذمة، ووجهوا لهم نقدا لاذعا. وممن عبر عن رأيه في أموالهم، محمد القوري [14]. وعن الموقف من تحبيساتهم نجد أحمد القباب [15]، وعبد الله الوانغيلي [16]، وأبو مهدي عيسى بن علال المصمودي [17].
وهناك من الفقهاء من أبدوا تحفظهم من مشروع المدارس المرينية، بل ومن السياسة التعليمية التي اتبعت فيها، وإن لم تكشف المصادر عن أسمائهم فيما يخص المشروع المدرسي الأول؛ فإذا كان بعض الباحثين [18] أدرجوا ضمنهم الفقيه إسحاق بن مطهر الورياغلي (ت. 683 هـ/ 1284 م) [19]، فمن الصعب ربطه بهذا الموضوع، ويجوز ذلك بالنسبة للفقيهين محمد الآبلي (ت. بفاس 757 هـ/ 1356 م) [20] وتلميذه محمد المقري [21] في المشروع المدرسي المريني الثاني، اللذين عبرا عن رأيهما الصريح في هذا الشأن، وإن تم ذلك بأسلوب بيداغوجي أكثر منه سياسي [22].
وقد كشفت بعض النصوص عن « معارضة » بعض الفقهاء، لم تحدد أسماءهم، لبعض سياسات الدولة التي كانت ترمي من ورائها كسب الشرعية، ومن ذلك إنكار الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، والإسراف الذي كان يقع أثناء الاحتفال به، وبعضهم أوردت أسماءهم ممن استنكروا ما كان يلحق ذلك الاحتفال من أنواع المفاسد، أو ما كان يترتب عنها من بدع منهم إبراهيم بن هلال السجلماسي [23].
فهل ثمة صلة ما وحدت مواقف هؤلاء الفقهاء « المعارضين »؟
الغاية من هذا السؤال هو محاولة فهم الخيط الناظم الذي جمع بين هؤلاء الفقهاء « المعارضين » إزاء سياسات الدولة المرينية، إذ يبدو أن التلمذة والمجايلة فعلت فعلها في هذا الإطار؛ فأما التلمذة، فتتجلى في العلاقة التي جمعت بين التلميذ عبد العزيز القوري، والأستاذ راشد الوليدي عبر وساطة أبي الحسن الصغير [24]. وبين محمد المقري، وأستاذه محمد الآبلي [25]. وأخذ ابن مرزوق عن محمد الآبلي [26]، وكذلك فعل محمد القوري عن عبد الله العبدوسي [27]، وعن أبي مهدي عيسى بن علال المصمودي [28]. وتتلمذ إبراهيم بن هلال عن محمد القوري [29]. وأما المجايلة، فتلك التي جمعت بين الفقيه محمد القوري وعبد الله العبدوسي وأبي القاسم التَّازْغَدْري [30]، وجميعهم عاشوا في مدينة فاس، وجمعهم فضاء علمي واحد (القرويين). وبهذا يظهر أن مواقف هؤلاء من السلطة المرينية كانت مبنية، في جزء منها على الأقل، على الصلة التي جمعت بين هؤلاء، وإن كانت المصادر لا تفصح عن ذلك بشكل مباشر.
[1] الهلالي، « « معارضة » الفقيه لسياسات السلطان »، ص. 191.
[2] (ت. 750 هـ/ 1349 م)، وردت ترجمته عند أحمد بن قنفذ، أنس الفقير وعز الحقير، اعتنى بنشره وتصحيحه، محمد الفاسي وأدولف فور، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط، 1965، ص. 24؛ ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 2، ص. 451؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 3، ص. 123-124؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 269-270. التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 1، ص. 289-290.
لا بأس من الإشارة أن عبد العزيز القروي أفتى بعدم اتخاذ السلطان أبا الحسن الركاب من الذهب والفضة، فكان أن تفاعل السلطان إيجابا مع هذه الفتوى، بعدما أفتى بعض العلماء بجواز ذلك، وقال: « “ما لنا وللخلاف” فلم يأمر بعمله بعد ولا ركب به ». ابن مرزوق، المسند، ص. 131.
[3] (ت. 779هـ/ 1377 م)، وردت ترجمته عند ابن قنفذ، أنس الفقير، ص. 74-75؛ ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 2، ص. 516؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 3، ص. 310؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 627-628؛ محمد بن مريم، البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، وقف على طبعه واعتنى بمراجعة أصله، محمد بن أبي شنب، المطبعة الثعالبية، الجزائر، 1326 هـ/ 1908 م، ص. 298-299.
[4] (ت. 779 هـ/ 1377 م)، وردت ترجمته عند مجهول، بلغة الأمنية، ص. 47؛ ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 123-124؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 1، ص. 47-48؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 102-104؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 1، ص. 97-99؛ محمد القرافي، توشيح الديباج وحلية الابتهاج، تحقيق علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1425 هـ/ 2004 م، ص. 33.
[5] (ت. 871 هـ/ 1466 م)، وردت ترجمته عند التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 547-548؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 2، ص. 183-184.
[6] (ت. 914 هـ/ 1508 م)، وردت ترجمته عند ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 156-157؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 135-136.
[7] (ت. 675 هـ/ 1276 م)، وردت ترجمته عند ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 196-197؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 1، ص. 273-274؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 179-180؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 1، ص. 207.
[8] من أهل القرن الثامن هـ/ 14 م، يصعب من خلال التراجم الواردة في “نيل الابتهاج” للتنبكتي أرقام: 61، ص. 94 (أحمد بن عمران البجائي)، 66، ص. 99-100 (أحمد بن إدريس البجائي)، 67، ص. 100 (أحمد عيسى البجائي)، معرفة من هو تحديدا، وإن كان الأقرب ثالثهم بما أن التنبكي ذكر أن له فتاوى.
[9] معاصر لأبي عبد الله محمد العبدوسي (حي بعد سنة 790 هـ/ 1388 م)، وردت ترجمته عند التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 553؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 2، ص. 189؛ القرافي، توشيح الديباج، ص. 164.
[10] (من أهل القرن 8 هـ/ 14 م)، صعب علي معرفة المقصود تحديدا هل هو أبو الحسن علي المزدغي (ت. 726 هـ/ 1326 م)، وردت ترجمته عند ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 2، ص. 473؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 3، ص. 244-245؛ أم أبو عبد الله محمد المزدغي (746 هـ/ 1345 م)؟ وردت ترجمته عند ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 227؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 2، ص. 125.
[11] (ت. 864 هـ/ 1460 م)، وردت ترجمته عند ابن غازي، فهرس ابن غازي، ص. 71-72؛ ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 127؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 1، ص. 86-87؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 1، ص. 119-120؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 124؛ القرافي، توشيح الديباج، ص. 31-32.
[12] (فاس، ت. 832 هـ/ 1428 م أو 833 هـ/ 1429 م)، وردت ترجمته عند ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 239؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 3، ص. 281؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 2، ص. 132؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 494؛ القرافي، توشيح الديباج، ص. 195، 260.
[13] (فاس، ت. 849 هـ/ 1445 م وفق إحدى الروايات، وإلا فإن هناك تضاربا في سنة وفاته)، وردت ترجمته عند ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 2، ص. 425؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 3، ص. 53؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 231-232؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 1، ص. 251-252؛ القرافي، توشيح الديباج، ص. 95-96.
[14] (مكناسة/ فاس، ت. 872 هـ/ 1467 م)، وردت ترجمته عند ابن غازي، فهرس ابن غازي، ص. 65-70؛ ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 319؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 2، ص. 295-296؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 548-550؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 2، ص. 184-185؛ القرافي، توشيح الديباج، ص. 202-204.
[15] (فاس/ سلا، ت. 779 هـ/ 1377 م)، وردت ترجمته عند مجهول، بلغة الأمنية، ص. 47؛ ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 123-124؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 1، ص. 47-48؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 102-104؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 1، ص. 97-99؛ القرافي، توشيح الديباج، ص. 33
[16] (فاس، ت. 779 هـ/ 1377 م)، وردت ترجمته عند ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 2، ص. 424؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 3، ص. 52-53؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 223؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 1، ص. 243.
[17] (فاس، ت. 823 هـ/ 1420 م، وفق إحدى الروايات) وردت ترجمته عند ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 2، ص. 502؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 3، ص. 191-192؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 298؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 1، ص. 319؛ القرافي، توشيح الديباج، ص. 123.
[18] اعتبر عدد من الباحثين أن الورياغلي كان « معارضا » للمدرسة اليعقوبية. محمد القبلي، « قضية المدارس المرينية: ملاحظات وتأملات »، ضمن مراجعات حول الثقافة والمجتمع بالمغرب الوسيط، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1987، ص. 72؛ الحسين أسكان، جوانب من تاريخ التعليم في المغرب الوسيط من القرن 7 هـ/ 13 م إلى القرن 9 هـ/ 15 م، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، السنة الجامعية، 1987-1988، (مرقونة)، ص. 65؛ نشاط، « المرينيون وجامع القرويين »، ص. 30
[19] وردت ترجمته عند ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 164-165؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 1، ص. 207؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 146؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 1، ص. 176.
[20] وردت ترجمته عند ابن خلدون، رحلة ابن خلدون، ص. 40-41، 49-53؛ ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 231، 304-305؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 411-416؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 2، ص. 54-58؛ القرافي، توشيح الديباج، ص. 231.
[21] (ت. بفاس 759 هـ/ 1358 م) وردت ترجمته عند ابن خلدون، رحلة ابن خلدون، ص. 67-69؛ ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 298-300؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 2، ص. 43-44؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 420-427؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 2، ص. 62-67؛ القرافي، توشيح الديباج، ص. 233-235.
[22] التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 414؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 2، ص. 56.
[23] (ت. 903 هـ/ 1497 م)، وردت ترجمته عند ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 97-99؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 1، ص. 196-199؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 66-67؛ محمد بن عسكر، دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر، تحقيق، محمد حجي، مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، سلسلة التراجم (1)، طبعة ثانية مصورة بالأوفسيط، الرباط، 1397 هـ/ 1977 م، ص. 89-90؛ أحمد المقري، أزهار الرياض في أخبار عياض، الجزء الثالث، ضبط وتحقيق وتعليق مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شلبي، صندوق إحياء التراث الإسلامي، الرباط، مطبعة فضالة، المحمدية، 1398 هـ/ 1978 م، ص. 324؛ محمد الحضيكي، طبقات الحضيكي، الجزء الأول، تقديم وتحقيق أحمد بومزﯕو، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2006، ص. 126.
[24] ابن قنفذ، أنس الفقير، ص. 23-24.
[25] ابن خلدون، رحلة ابن خلدون، ص. 68؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 412.
[26] ابن مرزوق، المسند، مقدمة التحقيق، ص. 43.
[27] ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 425؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 232؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 1، ص. 252.
[28] ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 2، ص. 502.
[29] التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 549؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 1، ص. 174؛ الحضيكي، طبقات الحضيكي، ج. 1، ص. 126.
[30] ابن غازي، فهرس ابن غازي، ص. 67.