السلطان والفقيه « المعارض » زمن المرينيين:(محمد ياسر الهلالي)_3_
إحجام السلطة عن معاقبة الفقهاء « المعارضين »
بعد أن تم الكشف عن مختلف المواقف التي عبر من خلالها بعض الفقهاء عن « معارضة » واضحة لبعض سياسات الدولة المرينية، وفق ما جادت به المصادر التي تم الاطلاع عليها، وتم الوقوف على بعض أوجه الصلة التي جمعت الفقهاء الذين عبروا عنها، يحق التساؤل عن الأسلوب الذي اعتمدته هذه السلطة في التعامل مع هؤلاء الفقهاء « المعارضين »، وعما إذا كانت قد استعملت العنف المادي في مواجهتهم من قبيل النفي أو المصادرة أو السجن أو القتل أو غير ذلك مما اعتادت عليه في مواجهة الخصوم؟
يرى أحد الباحثين [1] أن أوجه التعارض بين الحاكم والفقيه في المجتمعات المسلمة قليلا ما كان يمر بسلام، وأغلبه كان عصيبا. ومن هذا الرأي العام إلى آخر خاص مرتبط بمغرب « العصر الوسيط »، ذهب صاحبه إلى أن العلاقة بين الطرفين اتسمت بالصرامة من جهة الحاكم تجاه الفقهاء « المعارضين »، كلما طفت على السطح معالم خطورة « المعارضة »، فيمسي رد الفعل قمعا أو إقصاء، حيث يتم اللجوء إلى تقليم الأظافر « بوسائل مختلفة، تبدأ بالتوبيخ، وتنتهي بالاغتيال » [2]. ومن هذا الرأي الخاص إلى آخر أخص مرتبط بالعصر المريني، رأى صاحبه أنه كلما تفطن الحاكم المريني « إلى أن أحد العلماء يهدد مصداقيته، فإنه كان يسارع إلى مواجهته بشتى الوسائل الردعية بما في ذلك السجن، وذلك دون مراعاة وزن العالم وشهرته » [3]. وأكد صاحب هذا الرأي فكرته بصيغة أخرى، مؤداها أن فقهاء العصر المريني قلما خاضوا في القضايا السياسية، أو أنهم كانوا يغضون الطرف عنها جملة وتفصيلا لخشية محتملة من « الآلة العقابية للسلطة السياسية » [4]. وفي الاتجاه نفسه، جزم أحد الباحثين، بدون أي سند، بأن الحكام المرينيين عندما يتثبتون من جرم الفقهاء الذين ينتقدونهم، فإنهم يسلطون العقوبة عليهم [5]. فهل يمكن التماهي مع مختلف هذه الآراء؟
الحاصل أن الجواب عن هذا السؤال، ومن ثمة فرضية البحث، يكاد يكون بالنفي، وهي نتيجة مفاجئة بالنظر إلى الانطباع العام المتداول عن تنكيل السلط في مغرب « العصر الوسيط » بـ« معارضيها » أيا كانوا، ومنهم الفقهاء، الشيء الذي أدى إلى عكس فرضية البحث.
توحي حادثة سنة 648 هـ/ 1250 م التي قام فيها الأمير أبي بكر بن عبد الحق المريني باغتيال ستة من كبار أهل فاس، إثر تدبيرهم قتل نائبه على المدينة، ومحاولة الرجوع إلى حكم المرتضى الموحدي، بمعاقبة السلطة المرينية للفقهاء « المعارضين » ومن بينهم القاضي محمد المغيلي وابنه [6]، وتعليق رؤوسهم [7]. فالواقع أن هذا الأمر تم في طور الإمارة قبل تأسيس الدولة. وحتى في عهد أبي عنان، الذي اتسم باتساع قاعدة الخصوم المعنفين [8]، وقيل عنه أن » القبر أقرب إلى من تعرض لعتبه على سجنه « [9]، فلم يتم العثور على عقابه لأي عالم « معارض » لسياساته.
كما أن الفقهاء الذين بعثوا برسائل نصح إلى السلاطين، مثل أحمد بن عاشر مع أبي عنان، ومحمد بن عباد مع عبد العزيز، لم يثبت من خلال ترجمتهما أنهما تعرضا لعقاب أو ما شابه من قبل السلطة [10]. والملاحظة نفسها تسري على الفقهاء الذين أصدروا فتاوى مناهضة للسلطة والسلاطين، أمثال الفقيه راشد الوليدي الذي أفتى بعدم جواز الدعاء للسلطان الظالم « بالبقاء والقوة والنصرة » [11]. أو أولئك الذي عبروا عن آراء تنم عن « معارضة » السلطة، مثل القاضي محمد المقري (ت. بفاس 759 هـ/ 1358 م) الذي جاء في معرض فتواه: « أما الملوك (…) إلا من قلّ، وغالب أحوالهـ[م] غير مرضية » [12]. كما لم يثبت معاقبة السلطة للفقهاء الذين رفضوا مقابلة السلاطين [13].
[1] حسن حافظي علوي، « مسؤولية الفقيه في الحفاظ على التوازن بين مطالب الحكام والقدرات المالية للمحكومين: المعونة بين الحكم الشرعي والحكمة »، ضمن السلطة العلمية والسلطة السياسية بالمغارب، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 2012، ص. 181.
[2] مصطفى نشاط، « سجن العلماء بالمغرب المريني بين الشرع والتاريخ »، ضمن التاريخ والقانون: التقاطعات المعرفية والاهتمامات المشتركة، الجزء الأول، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، 2009، ص. 364.
[3] نفسه، ص. 374.
[4] مصطفى نشاط، « الحملات المرينية على بلاد المغرب بين السلطتين السياسية والعلمية »، ضمن السلطة العلمية والسلطة السياسية بالمغارب، تنسيق حسن حافظي علوي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 2012، ص. 174.
[5] المحجوب قدار، النخبة المغربية خلال العصر الوسيط ق 6-8 هـ/ 12-14 م، أطروحة لنيل الدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سايس – فاس، السنة الجامعية، 2017-2018، (مرقونة)، ص. 340.
[6] علي بن أبي زرع الفاسي [؟]، الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، 1972، ص. 77-78؛ علي بن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، 1973، ص. 294-296؛ عبد الرحمان بن خلدون، تاريخ ابن خلدون المسمى، العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، الجزء السابع، ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس، خليل شحادة، مراجعة، سهيل زكار، دار الفكر، بيروت، 1981، ص. 231-232.
SHATZMILLER, « Les premiers Mérinides », op. cit, p. 111.
[7] ابن خلدون، االعبر، ج. 7، ص. 232.
[8] من الخلاصات التي ألح عليها مصطفى نشاط أكثر من مرة في كتابه: السجن والسجناء نماذج من تاريخ المغرب الوسيط، منشورات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ملتقى الطرق، الدار البيضاء، 2012، ص. 44، 110، 112.
[9] ابن الخطيب، الإحاطة، ج 2، ص 20.
[10] عن ترجمة ابن عاشر (ت. 764 أو 765 هـ/ 1364 م) يراجع: ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 153؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 1، ص. 148-149؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 96-98؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 1، ص. 94-95؛ وعن ترجمة ابن عباد (ت. 792 هـ/ 1390 م) يراجع: ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 315-316؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 2، ص. 276-277؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 472-476؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 2، ص. 109-113.
[11] الونشريسي، المعيار، ج. 11، ص. 217.
[12] نفسه، ج. 12، ص. 335.
[13] من هؤلاء أحمد بن عاشر الذي امتنع عن مقابلة أبي عنان. ابن القاضي، جذوة الاقتباس، ج. 1، ص. 153؛ ابن القاضي، درة الحجال، ج. 1، ص. 149؛ التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 96، 97؛ التنبكتي، كفاية المحتاج، ج. 1، ص. 94؛ أحمد بن عاشر، تحفة الزائر بمناقب الحاج أحمد بن عاشر، تحقيق وتقديم، مصطفى بوشعراء، منشورات الخزانة العلمية الصبيحية بسلا، مطابع سلا، سلا، 1988، ص. 56؛ وسليمان الأنفاسي (ت. 779 هـ/ 1377 م) الذي رفض مقابلة السلطان عبد العزيز المريني. التنبكتي، نيل الابتهاج، ص. 628.