السلطان والفقيه « المعارض » زمن المرينيين:(محمد ياسر الهلالي)_5_
سلطان لا يعاقب الفقيه، محاولة في التفسير
1- طبيعة كتب التراجم
لا بأس هنا من التذكير بالخلاصة الأساسية التي تم الانتهاء إليها، المتعلقة بعدم معاقبة السلطة المرينية لجل الفقهاء الذين » عارضوا « بعض سياساتها. وقبل محاولة تفسير ذلك، يستحسن الإشارة إلى العناصر التي أوردتها كتب التراجم بخصوص هؤلاء. فبغض النظر عن تواريخ وفاتهم وأحيانا ولادتهم، ركزت كتب التراجم على أساتذتهم، وتلامذتهم، ومؤلفاتهم، وخزائن كتبهم، ووظائفهم مثل الخطابة والإفتاء والقضاء والإمامة والتدريس والعدالة والسفارة، وذكر معاصريهم من العلماء، وأصحابهم من الفقهاء، ورحلة بعضهم إلى المشرق لاسيما لأداء فريضة الحج، والتنصيص على انقطاع بعضهم للعلم، وشهرتهم فيه… وفي هذا السياق، تنعتهم كتب التراجم بسيل من الألقاب الممجدة لهم، وكذا محاربة بعضهم للبدع، وقليلة جدا هي الحالات التي تمت الإشارة فيها إلى بعض خصالهم الاجتماعية مثل السخاء، وحسن الأخلاق، ونظافة الملبس…، ووضعيتهم الأسرية، ونادرا ما ذكرت بعض الحوادث التي جرت أطوارها مع السلاطين، والأكثر ندرة الإشارة إلى « معارضة » إحدى سياسات الدولة. واللافت للأنظار أن كتب التراجم نصت على “صلاح” بعض هؤلاء، وأشارت إلى تحصيل قلة منهم ملكة في التصوف.
يظهر من خلال هذا الجرد لما ورد في تراجم الفقهاء « المعارضين » لسياسات السلطة المرينية، الصيغة التكرارية للمعطيات الواردة في أغلب التراجم، فالمعلومات الأساسية » هي نفسها تقريبا من ترجمة إلى أخرى (…)، وكأننا أمام استمارة تحمل نفس الأسئلة (…) التي [تتم الإجابة عنها] « [1]. وبتعبير آخر، يبدو وكأن الأمر يتعلق بـ”عبارات جاهزة” تتخلل الغالبية العظمى من التراجم. فلماذا ركزت كتب التراجم على هذه العناصر في ترجمتها لهؤلاء الفقهاء « المعارضين »، بل وحتى غيرهم؟
للإجابة عن هذا السؤال، لابد من فهم التوجه الذي سارت فيه كتب التراجم عند حديثها عن مسار الفقهاء بما جعلها تحجم عن الإفصاح عن عقوبات السلطان للفقيه « المعارض ». هل كان ذلك بفعل رقابة مسلطة عليها؟ ولماذا لم يظهر أثر لمواضيع التعارض بين السلطة والفقهاء في هذا الجنس من الكتابة إلا بصوت يكاد يكون همسا أو تلميحا؟
لا بد من الإقرار أن مؤلفي التراجم أصروا على ترسيخ صورة إيجابية عن المُتَرجَمِ لهم وتضخيمها، فهم في الأصل فقهاء مثلهم، ويهمهم الحفاظ على صورتهم. لذلك، أطنبوا في ذكر الصفات والألقاب التي تمدح المترجم لهم على الصعيدين العلمي والاجتماعي، حتى تصبح تلك الصفات وتلك الألقاب موضع تساؤل [2]، وتتخذ من حيث الشكل طابعا نمطيا. وبدا أن أصحاب كتب التراجم استبطنوا هذا التوجه في وعيهم ولا وعيهم، ما داموا يترجمون لحاملي العلوم الشرعية، وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا إلا ذوي أخلاق عالية وقدوة في مجتمعهم [3]. والأهم، وهو ما يعنينا في موضوعنا، أن المسكوت عنه في أوصاف الفقهاء المُتَرجَمِ لهم أو بعضهم على الأقل كثير [4]، حيث تم إغفال ذكر مشاكل اعترضت المترجَم لهم أو تسببوا فيها، علما أن بعض مؤلفي التراجم كانوا على علم تام بتوجههم هذا، وعبروا عنه بشكل صريح [5]. والغاية هي كتمان كتب التراجم لكل ما من شأنه أن يسيء لصورة العالم [6]. وبناء على ذلك، واستكمالا لتجميل صورة المترجم لهم، كان المُتْرجِمُ يغض الطرف عن تسجيل صفاتهم السلبية، أو أي حدث ولو كان بسيطا من شأنه خدش صورتهم، لاسيما إذا كانت تلك الصورة قابلة للتفسير والتأويل المغرضين، فالهدف هو ألا يذاع بين الناس، بل أن يتم تناسيه [7]. فضلا عن هذا، فأن كشف سلبيات المُتَرْجَمِ لهم وعرضها فيه كشف للعورة وهتك للستر وربما للأعراض، ونوع من الغيبة والنميمة، وكل هذا منهي عنه في الدين، وطعن في أخلاق مرتكبها، في وقت يوصي الدين بستر عيوب الناس. أضف إلى ذلك أن المترجم لهم يكونون في عداد الموتى، وقد ترسخ في ذهنية المسلمين، أنه لا يمكن أن يذكر الميت إلا بالخير [8]. لكل هذا، يبدو أن أصحاب التراجم كانوا في طريقة تأليفهم مدفوعين بتوجهات أخلاقية – تربوية [9]. والنتيجة أن الباحث يحصل في النهاية على صورة ناقصة إن لم تكن مشوهة عن المُتَرْجَمِ لهم، ويتمثل التشويه التاريخي » في عدم إظهار الشيء قصدا على حقيقته الكاملة » [10]. لكن الباحث ما يلبث أن يجد صدى للمسكوت عنه في كتب التراجم في أجناس أخرى، فالشهادات المضادة لا يعدمها الباحث أحيانا، مما يوفر له مادة يستكمل بها صورة الفقيه في مختلف مناحيها [11].
[1] عمر بن حمادي، « كتب التراجم والنخبة العلمية: الوجه والقفا »، ضمن النخب والسلطة السياسية في العالم العربي الإسلامي من خلال كتب الطبقات، أعمال المؤتمر الدولي الأول (تونس 16-17-18 نوفمبر 2012)، جمع النصوص وأشرف على نشرها إبراهيم جدلة، كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، تونس، 2014، ص. 16؛ محمد فتحة، الأحكام والنوازل والمجتمع: أبحاث في تاريخ الغرب الإسلامي من القرن 12 م إلى 15 م، بحث لنيل دكتوراه الدولة في التاريخ، جامعة الحسن الثاني، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، عين الشق، الدار البيضاء، السنة الجامعية، 1995، (مرقونة)، ص. 319.
[2] بن حمادي، « كتب التراجم »، ص. 39؛ محمد فتحة، الأحكام والنوازل، ص. 319.
[3] عبد الأحد السبتي، « قضايا في دراسة التاريخيات »، مجلة أمل: التاريخ، الثقافة، المجتمع، السنة الخامسة، العدد 15، 1998، ص. 21؛ بن حمادي، « كتب التراجم »، ص. 35-36.
[4] فتحة، الأحكام والنوازل، ص. 319.
واللافت للانتباه في هذا الصدد، أن جميع الفقهاء الذين « عارضوا » سياسة تحبيس السلاطين المرينيين كانوا يستقرون بفاس عاصمة الدولة المرينية، بما يفيد أن المعطيات عنهم في هذا الشأن كانت في متناول المترجمين لهم، لكنهم فضلوا السكوت عن « معارضتهم » تلك، لولا أن كتب النوازل عكستها. وعليه، يرجح سكوتهم عن عقوبات تعرضوا لها من قبل السلطة، بسبب آرائهم في موضوع التحبيس.
[5] بن حمادي، « كتب التراجم »، ص. 35.
[6] نفسه، ص. 36.
[7] نفسه، ص. 36-38.
[8] نفسه، ص. 37.
[9] فتحة، الأحكام والنوازل، ص. 319.
[10] بن حمادي، « كتب التراجم »، ص. 37.
يمكن ملاحظة هذا التوجه حتى بالنسبة للعصرين المرابطي والموحدي؛ فبالنسبة للعصر الأول مثلا، أحجمت كتب التراجم عن إيراد أي معلومات، ذات قيمة، عن دور القاضي عياض في انتفاضة سبتة، ويبدو أن ذلك تم عن قصد. محمد المغراوي، العلماء والصلحاء والسلطة بالمغرب والأندلس في عصر الموحدين، الجزء الثاني، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في التاريخ، جامعة محمد الخامس – أﯕدال، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، السنة الجامعية 2001-2002، (مرقونة)، ص. 256. وخلص هذا الباحث إلى أن منهجية كتب التراجم فرضت عليها إسقاط الحديث عن النكبات التي تعرض لها العلماء من قبل السلطة الموحدية، ضمن المعلومات التي أسقطتها خشية أن تحيد عن قصدها. نفسه، ص. 266.
[11] بن حمادي، « كتب التراجم »، ص. 38؛ فتحة، الأحكام والنوازل، ص. 319-320.
من الأمثلة البارزة في هذا الصدد، إحجام كتب التراجم عن الخوض في القصة المشهورة لأبي الحسن الصغير مع سفير ابن الأحمر، والتي كان لها صدى في أجناس أخرى. ابن خلدون، العبر، ج. 7، ص، 318. مما ينهض دليلا على أن الاعتماد على كتب التراجم لوحدها في دراسة علاقة الفقهاء بالسلطة غير كاف.