الشافعي وضبط الاجتهاد الفقهي من خلال حجية الحديث: معتز الخطيب
أوضحت -في مقالي السابق– أن الشافعي كان من أهل الحديث، ولم يوفق بين أهل الرأي وأهل الحديث كما شاع لدى بعض الدارسين. ولإثبات ذلك ناقشت -في ما سبق- مسألتين: السياق الذي ظهر فيه الشافعي، والسياق الذي ألف فيه كتاب “الرسالة” من جهة، وكيفية تلقي كتاب “الرسالة” في زمن الشافعي من جهة أخرى.
وفي هذا المقال سأضيف -إلى ما سبق- مسألة ثالثة للبرهنة على تلك الفكرة، وهي الأهم في الواقع، لأنها المعبر الحقيقي عن عقل الشافعي وفكره، وهي مضمون كتاب الرسالة نفسه الذي شكل ما يشبه الثورة العلمية في زمنه وبعده، والتي يمكن تلخيصها -في رأيي- في الانتقال ضمن دائرة أهل الحديث من مرحلة “السنة” التي كانت تحيل إلى مفهوم واسع للعمل المتوارث إلى مرحلة “الحديث النبوي”، وبهذا لم يخالف فقط أهل الرأي، خاصة من الحنفية، وإنما خالف أيضا من حسبوا على دائرة أهل الحديث كإمام دار الهجرة مالك بن أنس (ت: 179هـ).
يدور كتاب “الرسالة” للشافعي على ضبط الاجتهاد الفقهي من خلال وضع منهجية متماسكة يتحقق لها الانضباط والاتساق، وقد قام الشافعي بذلك من خلال 3 مسائل مركزية تتلخص في: البيان_ تثبيت خبر الآحاد_ ضبط مفهوم الاجتهاد الذي كان واسعا في زمنه ويفتقر -عند الفقهاء السابقين عليه- إلى الاتساق من منظور الشافعي على الأقل.
ومن خلال هذه المسائل المنهجية أمكن لمنهجية الاجتهاد أن تجري على قانون عام وفق عقلية الشافعي المنظمة. ولكن المسائل الثلاث السابقة تدور -في الواقع- حول هدف مركزي ومحدد هو حجية الحديث النبوي الذي يجب أن يشكل عماد التفكير الفقهي، ومن ثم كان الشافعي -في رأيي- أول من “نظر” للقول بحجية خبر الآحاد، وإن لم يكن أول من قال بذلك، وهذه هي الإضافة التي أضافها لأصحاب الحديث الذين انتفعوا بكتابه أيما انتفاع، وعدوه نصرا لهم، كما سبقت الإشارة في المقال السابق.
يستهل الشافعي مقدمة “الرسالة” للتركيز على الدور المحوري والمركزي لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم ودوره في هداية البشرية، وكتاب الرسالة يحاجج لإثبات أن الوحي نوعان: وحي متلو هو القرآن، ووحي غير متلو هو الحديث النبوي، وكلاهما يهديان البشرية ويبينان حكم الله في الأفعال والوقائع. ويمكن أن نرصد رؤية الشافعي لتثبيت حجية الحديث من خلال 4 أفكار مركزية مبثوثة في الكتاب، وهي:
الفكرة الأولى: شمولية نصوص الوحي
فالشافعي يبدو حريصا على بيان اشتمال النص على أحكام تستوعب أفعال العباد وما ينزل بهم الآن ومستقبلا، بحيث لا يعزب عن النص شيء. فسلطان النص يطول كل ما يجد من نوازل، وهو يصرح بهذه الفكرة منذ بداية الكتاب فيقول “ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها”.
وبما أن الحديث -عند الشافعي- وحي مثل الكتاب، “فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه: قبل عن رسول الله سننه، بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه. ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل، لما افترض الله من طاعته”. وقد ساوى الشافعي -بهذا- بين نصي القرآن والحديث في الحجية وكونهما مصدرا للهداية والتقويم من جهة، وأثبت حجية النص الثاني (الحديث) من خلال النص الأول (القرآن) المجمع على مرجعيته من جهة أخرى، وبهذا أغلق دائرة الاحتجاج من خلال مفهوم مركزي هو وجوب طاعة الرسول الثابتة بالنص القرآني، وأن الحديث يمثل شخص النبي صلى الله عليه وسلم في غيابه.
هذه الحجة تمثل -في الواقع- حجة أهل الحديث ضد خصومهم، ومن ثم انبنى عليها اتهام المخالفين بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم أو مخالفة سنته، وللخروج من هذا الاستدلال المغلق نبه بعض فقهاء الحنفية -في ما بعد- إلى ثغرة في مثل هذا الاستدلال وهي أن قول النبي صلى الله عليه وسلم موجب للعلم باعتبار أصله (أي في ما لو سمعناه من فم النبي صلى الله عليه وسلم)، وإنما الشبهة في النقل عنه، وأن النقاش كله إنما يدور حول هذه الأحاديث المروية بالأسانيد.
الفكرة الثانية: نظرية البيان عند الشافعي
صحيح أن الشافعي دافع عن كون النصين وحيا وعن الاتساق فيما بينهما بلا تعارض وعن تساويهما في الحجية، فإن الحديث النبوي سيشكل -عمليا- المرجعية الأوفر حظا في الاجتهاد الفقهي، نظرا إلى الإجمال والإيجاز الواقع في النص القرآني، والطبيعة التفصيلية التي اتسمت بها مدونة الحديث النبوي. وسيتضح هذا من خلال نظرية البيان عند الشافعي، فقد حصر البيان الإلهي في 4 أنواع:
منصوص الكتاب أو القرآن (كالصلاة والزكاة والحج وغيرها).
الحديث المبين لمجمل منصوص الكتاب (كعدد الصلوات والزكاة وغيرها).
السنة الزائدة على ما في الكتاب والتي جاءت بما ليس في نص الكتاب.
ما يجب الاجتهاد في طلبه من خلال النصوص على سبيل الطاعة لله، وليس مطلق الاجتهاد.
ويوضح البيان وفق هذا التصور 3 أمور:
الأول: أن مرجعية الحديث غالبة هنا في وظيفة البيان، بل تتقدم على الكتاب كما هو مذهب بعض الأصوليين في ما بعد، فوظيفة البيان التي تتضمن التفصيل من جهة، والزيادة على نص القرآن من جهة أخرى، جعلت الحاجة إلى الحديث أشد من الحاجة إلى القرآن، ومن ثم قال الأوزاعي “الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب”، وقال يحيى بن أبي كثير “السنة قاضية على الكتاب”. وسئل أحمد بن حنبل عن عبارة “إن السنة قاضية على الكتاب”، فقال “ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكن أقول: إن السنة تفسر الكتاب وتبينه”.
وفسر الإمام ابن عبد البر (ت: 463هـ) قضاء السنة على الكتاب بالقول “يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه”. ومن الواضح أن هذه المقولات تلتقي مع اتجاه الشافعي هنا، كما أن أصحابها من المحسوبين على اتجاه أهل الحديث، فالإمام الأوزاعي (ت: 159هـ) كان محدثا وفقيها، وعده عبد الرحمن بن مهدي ضمن 4 هم كبار أهل زمانه، وهم حماد بن زيد بالبصرة والثورة بالكوفة ومالك بالحجاز والأوزاعي بالشام. وقال فيه الشافعي نفسه “ما رأيت رجلا أشبه فقهه بحديثه من الأوزاعي”، ويحيى بن أبي كثير (ت: 129هـ) كان من صغار التابعين وهو إمام حافظ.
الثاني: محورية “الطاعة” بوصفها قيمة أخلاقية ومعرفية ودينية معا، فالطاعة معناها الامتثال الواجب، وهي حجة متفق على ثبوتها ولا ينازع فيها الخصوم، وهي مسألة تعبدية، لصيقة بفكرة النبوة والقبول عن النبي رسالته.
الثالث: أن الاجتهاد الفقهي مداره على مرجعية النص، ونبذ الرأي بمعناه الواسع الذي كان سائدا في زمن الشافعي، وهذا ينقلنا إلى الفكرة الثانية التي تستحق أن تفرد لأنها ركن من أركان أطروحة الشافعي وليست مجرد تفصيل من التفصيلات.
الفكرة الثالثة: أن العقل لا يمكنه أن يسرح خارج سياج النص
وهذه الفكرة تأسست -عند الشافعي- على الفكرة الأولى السابقة، وهي أن النص لا يعزب عنه شيء من أفعال البشر، ولذلك فإن كل ما يستجد من نوازل ففي النص دليل على حكم الله فيه. ولأجل ذلك وضع الشافعي كتاب الرسالة لضبط عملية الاجتهاد في زمنه التي تراوحت بين اجتهاد سرح خارج حدود النص مع عامة أهل الرأي، واجتهاد آخر سرح في مخالفة النص مع بعض المحسوبين على أهل الحديث كالإمام مالك الذي كان يترك الحديث لمخالفة عمل أهل المدينة أو لقول الصحابة أو لمخالفة الأصل القرآني أحيانا.
بهذا ضيق الشافعي مفهوم الرأي الواسع الذي أوضحت في مقال الأسبوع الماضي أنه كان يشمل 3 أمور (الاستحسان، والقياس، وإعمال العقل)، وقيده بآلية منهجية هي “الاستدلال” فقال “ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلا بالاستدلال… ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق”. والاستدلال هنا معناه طلب الدليل من خلال النصوص بالحمل عليها وهو القياس، ولذلك قال “الاجتهاد القياس”، والقياس عند الشافعي بمنزلة الضرورة، لا يلجأ إليه إلا في حالة انعدام النص الصريح الدال على النازلة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن “الاستدلال” في اصطلاح الشافعي هنا يختلف عنه في اصطلاح أصوليي الشافعية المتأخرين الذين يطلقونه على طلب الدليل من خارج المصادر الأربعة: القرآن والحديث والإجماع والقياس. ولست أرى -كما رأى ابن الرفعة من فقهاء الشافعية الكبار- أن الشافعي أراد هنا التمثيل للاجتهاد بالقياس لا حصره به. والقياس عند الشافعي لا يكون إلا على ظاهر الخبر لا على باطنه، أي هو قياس جزئي وليس قياسا على القواعد الكلية، أو قياس الأصول على طريقة فقهاء الحنفية، وهو قياس لا يقوم على استثناء، ومن ثم فالأحاديث التي تمثل استثناءات ينبغي استبعادها من دائرة القياس، لأنها واردة على الخصوص، ومن ثم كان الشافعي معنيا ببحث مسألة “الخبر الذي يقاس عليه والخبر الذي لا يقاس عليه”.
الفكرة الرابعة: أن الحديث أصل بنفسه
وهذا التعبير يعني 3 أمور:
أولها- أن “الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغني بنفسه، ولا يحتاج إلى غيره، ولا يزيده غيره -إن وافقه- قوة، ولا يوهنه -إن خالفه- غيره”. فههنا وضع الشافعي أصلا معرفيا ومنهجيا معا. فهو أصل معرفي من جهة أن الحديث -بذاته- مصدر للمعرفة، بوصفه دليلا هاديا إلى حكم الله. وهو أصل منهجي من جهة أن الحديث الحجة لا يفتقر إلى غيره لإثبات حجيته، كما أنه لا يؤثر في حجيته أي معارض خارجي، سواء كان عقليا أو نقليا. قال الشافعي “حكم بعض أصحاب رسول الله إن كان يخالف الخبر فعلى الناس أن يصيروا إلى الخبر عن رسول الله ويتركوا ما يخالفه”. وبهذا خالف الشافعي أبا حنيفة ومالكا معا، ممن يترك الخبر لمخالفته القياس أو لمخالفة العمل أو يتركه لأقوال الصحابة أو غير ذلك.
ثانيها- “أن بالناس كلهم الحاجة إلى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخبر عنه” كما قال الشافعي، لأن الحديث مصدر هداية إلى بيان الله لأحكام الواقعات، ومن ثم كان الخبر النبوي متبوعا لا تابعا، ويجب تحريه وتناقله.
ثالثها- أن الحديث الجزئي المعين أصل بنفسه في الدلالة على حكم المسألة، ولا يؤول في ضوء نص عام أو قانون كلي، ويظهر مصداق هذا في فروع الفقه الشافعي. واعتبار الحديث أصلا بنفسه هو أبلغ دليل على كون الشافعي من أهل الحديث.
وبناء على أطروحة حجية الحديث بأفكارها الأربع السابقة، انشغل الشافعي بمسلكين: مسلك “تثبيت” خبر الآحاد من ناحية التنظير له ولحجيته، وفق أسس نصية وحجج نظرية، ومسلك جدلي يعنى بالرد على الخصوم، والإجابة عن إشكالاتهم المتصلة بحجية الحديث وهو ما أسعف به أصحاب الحديث ولم يكونوا قادرين عليه قبله، ويمكن أن نلتمس مظاهر هذا في 3 نواح تتصل:بحجية الحديث_ ومصطلحه_وتأويله.
في الناحية الأولى: دفع الشافعي كل الاعتراضات الواردة على حجية الحديث، وفي هذا السياق رد على 3 فرق: فرقة أنكرت الحديث جملة، وفرقة ردته إلا إذا كان معه قرآن يؤيده، وهنا طرح فكرة استقلال السنة بالتشريع، وفرقة ثالثة ردت أخبار الآحاد، وهنا أثبت أولوية الحديث على السنة (بمعنى العمل)، كما أنه قسم الأخبار إلى نوعين: خبر عامة، وخبر خاصة.
وفي الناحية الثانية: كان الشافعي أول من دون رؤوس مسائل علوم الحديث، وعليه عول علماء مصطلح الحديث فيما بعد، وجمهورهم كانوا من الشافعية، فلعله أول من عرف الحديث الذي تقوم به الحجة (استجابة لطلب عبد الرحمن بن مهدي كما سبق)، وتحدث في ضبط الرواة وغلطهم، والرواية بالمعنى، وقوة الإسناد بتعدده، وحكم الاحتجاج بالحديث المرسل والمنقطع والمدلس، والفرق بين الرواية والشهادة إلى غير ذلك من المسائل الاصطلاحية التي أصبحت من صلب علوم الحديث.
وفي الناحية الثالثة: بحث جملة مسائل تتصل بفهم الحديث وتأويله، كالوظيفة البيانية للسنة، وأنها تحمل على لسان العرب، وأنه يجب حمل الحديث على ظاهره حتى يرد دليل على إرادة غير هذا الظاهر، وأفاض في مقام “السنة مع القرآن” وأنها تبين مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتستقل بالتشريع. وقرر أنه لا يخالف حديث كتاب الله أبدا. وبحث في اختلاف الحديث، وقرر أن كل الأحاديث الثابتة متفقة، وما كان ظاهره التعارض أمكن الجمع بينه.
فأطروحة الشافعي تقوم -إذن- على تثبيت خبر الآحاد وتقديمه على ما سواه من رأي أو قول، وأنه “بيان” للقرآن، وهي وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يمكن معرفة السنة (العمل المتوارث) إلا من خلال الأخبار المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على خلاف ما شاع في فقه المدينة والشام والعراق في زمنه، يقول “ولم يكن أحد غاب عن رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أمر رسول الله إلا بالخبر عنه”، ويقول “إذا ثبت عن رسول الله الشيء فهو اللازم لجميع من عرفه، لا يقويه شيء ولا يوهنه شيء غيره، بل الفرض الذي على الناس اتباعه”.
يمكن القول إن نظرية الشافعي تتلخص في الانتقال من مرحلة “السنة” إلى مرحلة “الحديث” الذي يشتمل على السنة بل ويحددها، فقد تعزز الخلاف قبل الشافعي بين “السنة” و”الحديث”، وقد نقلت في كتابي “رد الحديث” أقوالا كثيرة في هذا المعنى ترجع إلى عصر ما قبل الشافعي، توضح كيف كان سابقوه يقدمون العمل على الحديث (الخبر).