الصحراء المغربية، رؤية حضارية: (عادل بن إدامو) _2_
التطبيع مقابل الاعتراف: الدبلوماسية المغربية تخرج خاوية الوفاض
يأخذ التطبيع في الأساس طابعا الحضاري، وإن على مستواه الغائي الكامن، وذلك ما يجعله تطبيعا كليا مع منظومة متكاملة تشمل الفكري والسياسي والإعلامي والتعليمي والتربوي.. وذلك بهدف إيجاد منظومات وافدة بديلة عن واقع الشعوب، وفقا لما أسميته في مقال سابق بكون التطبيع يتجاوز مجرد التبادل والتنسيق إلى اعتباره حالة من التطبيع الحضاري والإبادة الحضارية التي تقوم على غائيات معرفية تستبطن العقل الصهيوني الماثلة في محو الوجود الفلسطيني-العربي-الإسلامي-الإنساني وإحلال الوجود اليهودي بمبررات دينية للشعب المختار في مواجهة الأغيار.
وعلى الخلاف من ذلك، وفي حالة من “المثالية السياسية”، انطلقت الدول المطبعة كما المغرب من قراءة منقوصة، وذلك بقيامها على فهم أحادي الجانب لعملية التطبيع، وبالتعويل على الإمكانات الدفاعية الأمنية والاستخباراتية لإسرائيل، والتي تعد من قبيل تحصيل الحاصل، فضلا عن الاعتقاد بإمكانية الاستثمار في نفوذ اللوبي الإسرائيلي في كل من أوروبا وأمريكا الشمالية، وفقا للاعتقاد الجازم أن العلاقات المغربية-العربية عموما مع أوروبا والولايات المتحدة الامريكية تمر عبر تل أبيب.
والواضح من خلال مسارات التطبيع مقابل الإقرار بسيادة المغرب على صحرائه، وفي السياق المتصل بمؤشر تصريح الدبلوماسية الإسرائيلية بربط الاعتراف بهذه السيادة باستضافة الرباط لاجتماع النقب الأخير برعاية أمريكية، يبرز جليا مدى الابتزاز الذي تعرضت له الدبلوماسية المغربية، بخاصة في ظل المؤمل الذي لم يتحقق بعد مرور قرابة الثلاثين شهرا على اتفاق الاعتراف بين المغرب وإسرائيل.
ضمن هذا السياق، شكلت قضية الصحراء المغربية ولازالت تشكل فسحة دبلوماسية إسرائيلية، ليستمر التطبيع في الحالة المغربية كما العربية في منحاه الإسرائيلي وبجدارة، فبعد استقرار التطبيع واستتبابه، تماطل الحكومة الإسرائيلية بمنحاها اليميني المتطرف للحصول على المزيد من المكاسب، وإلا فلا مانع ولا سبب منطقي يمنع من تحديد الموقف من سيادة المغرب على صحرائه، إلا بحثا مستجدا عن مستوى آخر من التطبيع، تتجاوز به الانزعاج الدولي من المستوى المتصاعد لعمليات الاستيطان والاقتحام العسكري في جنين في حينه، فضلا عن تداعيات عملية طوفان الأقصى التي أكدت السقوط السياسي والأخلاقي والشعبي للتطبيع، فيما يستمر المغرب الرسمي في التطبيع أمام مشهد من عدم الانسجام مع الإرادة الشعبية، ومن الإبادة الجماعية التي تتعرض لها فلسطين وشعبها، ومن عدم الرضا الذي حصّلته الدبلوماسية المغربية من منحى التطبيع.
وفي إطار من الواقعية السياسية المفترضة، وإلى جانب ما تفترضه من الحسم في الموقف الإسرائيلي من قضية الصحراء، كان لابد من القدر من الجرأة والشفافية للدبلوماسية المغربية في قياس مستوى المصالح بين ما كان منشودا وموعودا في دجنبر 2020، وما لم يتحقق بعد. فضلا عن الموقف المفترض من طموحات الليكود الإسرائيلي من الحق الفلسطيني بالوجود وفقا لذات معايير القانون الدولي المعتمدة في الدفاع عن قضية الصحراء من جهة، والمعتمدة في السردية المعيارية للدبلوماسية المغربية من موقع رئاسة لجنة القدس. ومن ثم نخلص إلى السؤال الجدير بالطرح والمتعلق بصوابية أو لا منطقية التقاء سردية التطبيع وتنامي ديناميته وسردية التاريخ النضالي المغربي من أجل قضية فلسطين. فضلا عما يثيره ذلك من التساؤل حول الطرف المتحكِّم في مسار التطبيع وديناميته وما لذلك من تأثير في الحكم على الحاجة الحقيقية للاعتراف الإسرائيلي وفي مآلات التطبيع التي تمتد إلى الصحراء-المغرب باعتبار ذلك بوابة إلى المزيد من الحضور الإسرائيلي في الفضاء الإفريقي، إن كان لهذا الكيان من مزيد حياة، وإن كان قد ولد ميتا.
إن مجمل هذه الاعتبارات، وبخاصة ما يتعلق منها بالتماطل الإسرائيلي، وخيبة أمل الدبلوماسية المغربية من سقف التوقعات المنتظرة من التوقيع على كل من مرسوم الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء واتفاق التطبيع مع إسرائيل، فضلا عن التحكم الإسرائيلي في دينامية التطبيع بمقتضى التماطل المذكور، وكذا بمقتضى عدد الزيارات الرسمية التي لم تبرمج لمجرد المناقشة لجدية الالتزام الإسرائيلي إلا ما ورد بشكل عفوي وغير ذي أثر من دعم مغربية الصحراء خلال زيارة رئيس الكنيست الإسرائيلي، دفعت إلى نوع من الصحوة المغربية المتأخرة والآخذة في التأخر، والتي زاد منها حالة الإجماع الشعبي حول رفض التطبيع ودعم خيار المقاومة في عملية طوفان الأقصى، هذا الإجماع الذي يشكل معيار الشرعية ومن ثم الفاعلية المفترضة في التمثل الواقعي السلوكي للدبلوماسية المغربية.. دفع كل ذلك المغرب إلى مرحلة طرح السؤال البرغماتي الحاسم المتعلق بالجدوى من التطبيع دون ردة فعل تذكر.
وفقا لما تقدم، وعلى الرغم من الترويج بتحكم المغرب في وتيرة التطبيع بين الرباط وتل أبيب، وأن المغرب يعد الطرف المتحكم في دينامية العلاقات، وأن المغرب الرسمي متحمس للعلاقة مع إسرائيل بفعل ما تشمله من المجالات، وإن كان يعتمد على مؤشرات واهية، فذلك لا يلغي الأصل اللاشرعي للتطبيع من الناحية الشرعية والأخلاقية والسياسية والشعبية والإنسانية وما شئت، فضلا عن كونه يصب لصالح إسرائيل باعتبار أن دينامية العلاقات المغربية الإسرائيلية لم تقدم للقضية الفلسطينية شيئا يذكر على الرغم من التعهدات المغربية بالتوسط لاستئناف مفاوضات السلام، إضافة إلى أنها تخدم السعي الإسرائيلي في الانتقال من العلاقات الثنائية إلى علاقات عربية متعددة الأطراف بدون فلسطين، كل ذلك في مقابل التلكؤ في حسم الموقف من مغربية الصحراء من جهة، ومن الاعتراف بدولة فلسطينية عاصمتها القدس باعتبار ذلك أفقا للدبلوماسية المغربية العربية، والذي يستمر ورقة ضغط تضر بالمغرب وبالأنظمة العربية.
الجدل المتجدد حول الصحراء المغربية: اتجاهات راهنة
من الاتجاهات الراهنة في الجدل حول قضية الصحراء، ما يتأسس على السردية الإدماجية دون الاقصائية الانفصالية، وذلك من منطلق تبني مقولة أمة المغرب المجتمعية باعتبارها حقيقة إدراكية معنوية جامعة لا تلغي الخصوصيات المحلية، بقدر ما تتبنى يقظة ترابية تعتمد على مرتكزات بلدانية ترابية وبشربة وتاريخية جامعة، تتجاوز لحظات الاختلال التاريخية في التمثلات الهوياتية التي تؤدي إلى الصراع، ومن ثم إعادة النظر في مكونات الشخصية الحضارية ومخيالها الجمعي الذي يؤشر على الهوية الترابية السعيدة، المشحونة بكثافة المشاعر الحزينة، والمثخنة بالجراح الثقافية والسياسية الغائرة في الوجدان الجمعي، والتي لا تظهر إلا في ظل تمثلات إيجابية نادرة، في لقاء الشعوب ونخبها على أرض الذات الحضارية الجماعية في مناسبات الرياضة والثقافة والناس، بما تشكله من رغبة انتمائية متجذرة غير قابلة للترويض بتعبير أمين معلوف في الهويات القاتلة، والتي يلزم تدبيرها بالدراسة الهادئة المتعقلة بعيدا عن العسف والاضطهاد.
من هذا المنطلق تسعى مقاربتنا الحضارية لقضية الصحراء إلى استدعاء القوانين الحتمية الحاكمة للاجتماع البشري، وذلك من خلال استدعاء الماضي القائم على الوحدة الأفروعربية، والحاضر الذي يستذكر ذات الوحدة في المصير المستقبلي المشترك بما يستتبعها من وحدة الرؤية والموقف والسياسة. إذ وبالنظر لتداخل الانتماء المجتمعي (العربي)، بالانتماء القاري (الإفريقي)، في تكوين الهوية المغربية المتعددة الروافد، فإن المغرب معني في سياق تأكيد مغربية صحرائه باستثمار التضامن والتواصل العربي الإفريقي، وذلك وفقا لدعوات سابقة متجددة تختبر الأحداث صدقيتها والحاجة إلى تفعليها، ومن ذلك مشروع الأفرابيا للمفكر الكيني الأشهر علي الأمين المزروعي، باعتبار هذا المشروع تجمعا حضاريا ووحدة جغرافية تجعل من شبه الجزيرة العربية جزءاً من القارة، وتؤكد عمق الروابط التاريخية والثقافية والحضارية للعلاقات العربية الإفريقية.
وفي نطاق السعي لحل قضية الصحراء، فإن تأكيد المغرب على هذا الحل ضمن دائرة التضامن العربي الإفريقي، تأكيد على مصير صحرائه في نطاق وحدة المصير المشترك. ولعل ذلك ما تعبر عنه معاهدة تأسيس الاتحاد الإفريقي، التي أكدت على ضرورة التزام الواقعية ووضع الخطوات العملية لتوحيد المغرب العربي، جاعلة ذلك خطوة تاريخية في سبيل تحقيق وحدة الأمة العربية وتحقيق التضامن العربي الإفريقي، بما يخول القدرة على توجيه وترشيد القرار السياسي، نحو العمل على تأسيس علاقات أخوة عربية إفريقية، تدعمــــــها الجغرافيـــا والتاريخ وديمغرافيا المنطقة.
إن التحدي اليوم ليس فحسب في تحقيق التكامل داخل القارة الإفريقية بين عرب الشمال وأفارقة الجنوب، ولكن بين العالم العربي وإفريقيا. كما أنه وفي ظل الظروف والمستجدات الدولية الراهنة، فإنه من الضروري إجراء وقفة ومراجعة شاملة في حل قضية الصحراء ضمن آفاق التعاون العربي الإفريقي ومجالاته وبرامجه، وذلك بإعادة النظر في أهداف هذا التعاون ووضع خطة مشتركة أو استراتيجية طويلة المدى للتحرك الجماعي المطلوب، مـــع دراســة ومراجعة أنشطة وبرامج التعاون ومواءمتها مع المستجدات الدولية الراهنة حتى يمكن أن يستند هذا التعاون على أسس واقعية وموضوعية، وعلى أرضية صلبة تذوب معها خلافات الجوار لصالح العلاقات الجماعية والإطار الجماعي للتعاون والذي يشمل الحل المشترك للقضايا الخلافية.
بناء على ذلك، تتأكد قناعة مفادها أن نجاح السياسة الخارجية المغربية في تدبير ملف الصحراء، وذلك في علاقتها بمختلف الفضاءات، لا يمكن أن يتم وأن يتحقق إلا في ظل تكريس وتفعيل ارتباط مستقبل المغرب ببعده العربي الإسلامي من حيث وحدة التحرر والتنمية العربية، كسبيل لا غنى للمغرب عنه لتحقيق حريته وتجاوز تبعيته وتحقيق ازدهاره في كافة المجالات، وكذلك بالتفعيل الواقعي الدائم لهوية المغرب التي تدور حول الإسلام كمكون حضاري وروحي، وعروبته كمكون ثقافي ومجتمعي -وحدة المدركات الجماعية- بالإضافة إلى ضرورة تفعيل سياسة تستمد شرعيتها من مدى توافق الأهلي/الشعبي والرسمي.
غير أن أداء هذه الاستحقاقات المتعلقة بقضية الصحراء، هو بطبيعة الحال، تحصيل حاصل لمجمل السياسات والمواقف المغربية-العربية-الإفريقية أهليا ورسميا، ولا يمكن أن يتم هذا الأداء إلا بتفعيل متطلباته على المستوى العربي-الإفريقي العام، وحدة رؤية، ووحدة موقف، ووحدة سياسة.