العامية… لتعليم العربية للناطقين بغيرها انتحار حضاري، مَنْ يُوقِفُه؟ (مصطفى أحمد قنبر)
نشطت في الآونة الأخيرة برامج تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها ليس في البلدان التي تقطنها أقليات إسلامية وحدها، بل وفي البلدان العربية التي يفد إليها الناطقون بغير العربية من مسلمين وغيرهم لأغراض شتى.
وقد تعددت المؤسسات التي تعنى بهذا النوع من تعليم العربية، فهناك مؤسسات أهلية خاصة، وثانية حكومية، وثالثة تتبع جامعات أجنبية لها فروع في عدد من العواصم العربية، وتمزج هذه الأخيرة في هيئات تدريسها بين الوطنيين وبين الأجانب، وتخضع هذه الجامعات في نظمها الإدارية والتدريسية للجامعات الأم التي تفرعت عنها.
إلى هنا والأمر لا غبار عليه…! لكن ما لا يُرتضى، ولا يحسن السكوت عليه، بل ولا يجب تغافله، أن تتبنَّى بعض هذه البرامجِ العاميةَ المحليةَ لتعليم العربية للناطقين بغيرها في هذه البلدان، ليس هذا فقط بل وتعمل بأيدي أساتذة عرب ومسلمين على تصميم مناهج للعامية المحلية لهؤلاء الدارسين! بعد أن عملت على تأليف مناهج للعامية الخاصة بقُطر ما من الأقطار العربية!
لسنا نطالب بأن يتبنَّى هؤلاء في تعليمهم فصحى التراث، التي أضحت غريبة على الثقافة العربية المعاصرة، وتمثل صعوبة حتى على متعلمي العربية الناطقين بها أنفسهم، كما لا نريد لهم أن يرتموا في معترك العامية التي تكن العداء للفصحى ليل نهار. بل نطالب بالمنهج الوسطي أو ما يسمى بالفصحى الميسرة أو المعاصرة، التي لا تبتعد كثيرًا عن فصحى التراث، ولا تفتح الباب على مصراعيه للعامية التي تنأى عن الأصالة، وتحدث قطيعة معرفية بين المنجز الحضاري العربي الإسلامي وبين الناطقين بلغة الضاد ومريديها.
وقد لاقت هذه البرامج المشبوهة دعمًا وتشجيعًا لم تحظَ به مثيلاتها، وفُتحت أمامها أبواب المؤتمرات العلمية تحت عنوان (تعليم العربية لأغراض خاصة)، ونال القائمون عليها عضويات الجمعيات والمؤسسات العلمية خاصة الغربية، وقد تباهى هؤلاء ولم يخجلوا بصنائعهم تلك وأعلنوها على الملأ، ووجد أصحاب هذه البرامج الفرصة سانحة للظهور على أنهم من حماة العربية، وأنهم من الجنود المخلصين العاملين على نشر الثقافة العربية، وتعريف غير العرب بالتراث العربي وأثره الحضاري.
وإذا كان هؤلاء القائمون على هذا النوع من البرامج لا يعرفون خطورة ما يفعلون على اللغة وأهلها، وجرمهم الشنيع في حق التراث، وكم الضرر الذي سيلحق بالمنجز الحضاري العربي حين يُنظر إليه من قِبل هؤلاء المتعلمين! ثم مدى ما ارتكبه هؤلاء المعلمون في حق المتعلمين أنفسهم…. فتلك إذن مصيبة، وإن كان لا يعزب عنهم خطورة كل هذا، ومع ذلك يتمادون في فعله؛ لمرام شخصية أو نفعية … فإن المصيبة أعظم، والفجيعة أكبر، والخطر أشد.
إن جناية هؤلاء على اللغة لا تغتفر، حيث يعملون على تقعيد العاميات، وضرب قواعد الفصحى في مقتل، وترسيخ كثير من المفردات الدخيلة والمحرَّفة في مواد المعجم العربي التعليمي الخاص بهؤلاء المتعلمين، وفي مقابل ذلك إقامة جدار من العزلة بين هؤلاء المتعلمين وبين المفردات القرآنية والحديثية وكثير من مفردات التراث؛ مما يؤدي إلى تباعد الشقة بين المتعلم وبين مصادر العربية التي لازالت محفوظة إلى اليوم. وبهذا يكون التراث والثقافة العربية بكل ما تحمل من أفكار … شيئًا غريبا، لا يفهمه هؤلاء ــــــــــ خاصة إذا كانوا من المسلمين ـــــــ وتصبح لغة هذا التراث وأساليبه من التاريخ الغابر كما في اللغات الميتة… التي أضحت أثرًا بعد عين.
أما جناية هؤلاء على المتعلمين، فلا تقل شناعة عن جرمهم في حق اللغة والتراث، فسرعان ما يكتشف المتعلمون أن وقعوا ضحية أكذوبة كبرى، خاصة عندما يستمعون إلى نشرات الأخبار العربية في وسائل الإعلام المنطوقة أو المرئية، أو يمسكون بإحدى الصحف الإخبارية … عندها يدرك المتعلمون البون الشاسع بين ما عكفوا على تعلُّمه وبين ما يسمعون أو يقرأون! وما العمل عندما يغادر هذا المتعلم أو ذاك إلى دولة عربية أخرى، ويظهر له اختلاف عامية هذا البلد عن ذاك؟ كيف سيتعايش مع عاميات المغرب العربي ـــــ مثلا ـــــــ بعد أن تعلم العامية العراقية أو السورية أو الأردنية، هل سيعود ليجلس في مقاعد الدرس مرة أخرى؟
إن الأمر يحتاج من جميع المعنيِّين باللغة عامة والتعليم في بلادنا العربية خاصة إلى وقفة جادة وحازمة مع هذه البرامج، ومع القائمين عليها، والمشتغلين بها… الذين لا بد أن يراعوا الله في عملهم هذا، ويدركون خطورته… فالمعلم رسول، والرسالة أمانة سيسأل عنها: هل حفظها وبلغها أم أهمل فيها وضيَّعها؟… فرق كبير بين التعليم والدراسة العلمية لهذه للهجات التي يتحدثها الناس في الأسواق، وفي كثير من المناسبات الاجتماعية وفق مستوياتها التحليلية، وبيان مدى قربها وبعدها عن الفصحى كما هو الحال في البرامج البحثية في المجامع اللغوية العربية، وفي الدراسات العليا في الجامعات، فهذا النوع من الدراسات له رجالاته وله أدواته وله أيضا أهدافه البحثية المعلنة، أما أن نتخذ من هذه اللهجات مادة لتعليم العربية للناطقين بغيرها فهذا هو الانتحار الحضاري بعينه! نسأل الله التوفيق لما فيه رفعة لغتنا وسؤددها