العدالة الدولية في رسائل النور(إبراهيم القادري بوتشيش)_3_
5_ عدالة تطمس حق الفرد والجماعة :
لا يجد الباحث عناء وهو يتصفح رسائل النور في الوقوف على أكبر ثغرة لاحظها النورسي في عدالة الغرب ، وهي إغماط حق الفرد ونسبها إلى الجماعة باسم القانون ، أو تبخيس حق الجماعة ونسبته إلى شخص واحد وتوهم صدوره منه [1] . ولا غرو فقد انتقدت رسائل النور هذا النوع من العدالة الزائفة انتقادا لاذعا ، واعتبرته ظلما فاضحا لا غبار عليه [2] ، لذلك ناهضت الدساتير الشيوعية التي تغمط حق الفرد و تحرمه من مكتسباته [3] ، وفي ذات الوقت عارضت استبداد النظام الرأسمالي المتوحش الذي تمثله البورجوازية الميركانتيلية في الغرب ، لأنه نظام غير عادل ، يحط من قيمة الجماعة ويؤدي إلى تسلط الفرد[4].
وبالمثل انصب الخطاب النقدي النوري على العدالة الغربية التي يستهدف قانونها معاقبة عدة أشخاص بجريمة ارتكبها شخص واحد ، مستندا في نقده على المرجعية القرآنية التي تحمّل المسؤولية للشخص الذي ارتكب الجناية [5] ، فالقانون الغربي – في المنظور النوري – يقصي هذه القاعدة التي هي جوهر العدالة المحضة ، و (( يفتح سبيلا إلى ارتكاب مظالم شنيعة )) [6] .
وفي الوقت الذي يكشف عن زيف هذا القانون الذي يعاقب الفرد من أجل الجماعة ، أو يعاقب الجماعة من أجل الفرد ، مكرسا بذلك انحرافا خطيرا عن نهج العدالة الحقيقية ، فإنه يقارن عدالة الغرب بعدالة الإسلام التي تمتح روحها من جوهر القرآن ، فتعطي الحق للفرد والجماعة في آن، يقول في هذا الصدد :
(( إن دستور المدنية الدنية الظالم هو : يضحي بالفرد لأجل الجماعة ، ولا ينظر إلى الحقوق الجزئية من أجل سلامة الأمة . وقد فتح هذا الدستور ميدان مظالم شنيعة لم ير مثلها حتى الآن في القرون الأولى ، بينما العدالة الحقيقية للقرآن المبين أنه لا يفدي بحق الفرد لأجل الحفاظ على الجماعة ، فالحق لا ينظر إلى قليله وكثيره ، فهذا هو القانون السماوي والعدالة الحقة )) [7] .
- عدالة مادية تشكل مصدر فقر وقلق معظم دول العالم :
إن قراءة النورسي للحضارة الغربية عموما – بما فيها أنظمة قوانينها – جعله يستشف أنها قد أدارت ظهرها للأديان السماوية ، وصارت مادية براجماتية ، لذلك فإنها – انطلاقا من هذا الموقع المادي النفعي الذي يقصي أي بعد إنساني – تسعى دوما إلى المزيد من الكسب غير المشروع دون مراعاة لأي قيم أخلاقية ، وهو ما يتمخض عنه ارتكاب أنواع من الظلم والغبن والصراعات بسبب انعدام العدالة ، فتصبح الإنسانية في خضم هذا الجو المترع بالنزاع والاضطراب تسير نحو هاوية الفقر [8] .
وبما أن الحضارة الغربية تتبنى قوانين وضعية مادية مناقضة لأسس الدساتير السماوية ، فإن ذلك يؤدي إلى اختلال التوازن في العالم ، لأن الأضرار الناجمة عن تلك القوانين أكثر من فوائدها، لذلك (( اضطرب أمن الناس واطمئنانهم ، وأقلقوا وأسنت سعادتهم الحقيقية )) [9] .
إن عدالة الغرب في تحليل الأستاذ النورسي قد أفرزت عنصرين خطيرين لا يزالان يؤثران تأثيرا سلبيا على العالم ، وهما ازدياد فقر معظم الدول ، واختلال التوازن في العالم ، وظهور القلق وعدم الاستقرار ، بدل التعاون بين الدول وتكاملها .
6_ عدالة منبثقة من روح الحروب والاستعمار :
يقوم الخطاب النقدي النوري لعدالة الغرب على مرتكز أساسي يتمثل في الربط بين الاستعمار والظلم ، فأدبيات رسائل النور لا تدع مجالا للشك في أن النورسي اعتبر كل أشكال الاستعمار تيارات ظالمة [10] . كما أن الحرب التي هي وسيلة للاستعمار – بما في ذلك الحرب العالمية الأولى – ما هي إلا تجسيد للآية الكريمة (( إنه كان ظلوما جهولا )) [11]. فالحرب في نظر النورسي سمة من سمات الظلم ، واغتيال للعدالة الإنسانية ، لأنها تمثل عدوانا للقوي على الضعيف ، ومسّا بكرامته وحريته ؛ و الجهة التي تشن الحرب وتحتل الأرض تسخر قانونها باسم العدالة لتبطش بكل من على الأرض ، وهو ما يجسده نموذج الهند ومصر تحت ظل الاحتلال الإنجليزي . بل إن الحرب الكونية الأولى أسفرت كما يقول الأستاذ النورسي عن ظلم الأوروبيين أنفسهم حيث تجرّع المستضعفون من الشعوب الأوروبية ويلات ونكبات طغمة من المستبدين والطغاة الذين استغلوا الحرب للإضرار ببني جلدتهم تحت ستار عدالة القانون[12] . كما تعرض المسلمون أيضا للكثير من الانتهاكات القانونية والمظالم الشنيعة من قبل الأعداء بسبب هذه الحرب[13] .
وهكذا تصبح العدالة التي يتبجح به الغرب لا تحمل في جوفها سوى الحرب والاستعمار والدمار . ولا أدل على صحة هذه النظرية بما قامت به الدول المشاركة في الحربين العالميين من استعمار للدول الضعيفة وفرض قوانينها الجائرة عليها ، وهو ما يؤكده اليوم الاحتلال الأمريكي للعراق الذي فرض قوانين تخدم مصلحته وداس باسم العدالة أرواح الآلاف من الأبرياء .
تلك إذن بعض الثغرات التي وقف عليها النورسي في النظام الديموقرطي اللبيرالي الذي يزعم الغرب أنه يتبناه كنظام يسعى للحفاظ على توازن العلاقات الدولية ويتماشى مع تطلعات الشعوب، بينما أبان تحليل النورسي أنه نظام يعاني من أزمة مادية و مصلحية تقوم على القوة والحرب والاستعمار والمعايير المزدوجة التي يزن بها حسب أهوائه ، ويحاكم بها كل أنواع السلوك البشري حسب ما تمليه رغباته ، مما يؤدي إلى خلل في العلاقات الدولية .
وفي الوقت الذي تنتقد نظرية النورسي نظام العدالة الدولية والقانون الدولي المليء بالهفوات والسقطات التي ترهق البشرية ، فإنها تقدم البدائل المرتكزة على قواعد العدالة الإسلامية القائمة على الحق والعدالة المحضة والكرامة الإنسانية .
[1] المثنوي العربي النوري ، ترجمة د. إحسان قاسم الصالحي ، دار سوزلر للنشر، (ط1) ، القاهرة 1415هـ \ 1995 ، ص 178-الملاحق ، ملحق أميرداغ ، ص320 .
[2] اللمعات ، ص204 .
[3] الملاحق ، ص 332 .
[4] اللمعات ، ص 257- 258
[5] استند على قوله تعالى : (( و لا تزر وازرة وزر أخرى )) ، سورة الأنعام ، آية 164 .
[6] المكتوبات ، ص342 – ملحق أميرداغ ، ص393 .
[7] ملحق أميرداغ ، ص301 – ملحق قسطموني ، ص172
[8] ملحق أميرداغ ، ص378-379 -380 .
[9] نفسه ، ص377 .
[10] صيقل الإسلام ، ص356 .
[11] سورة الأحزاب ، آية 72 .
[12] ملحق قسطموني ، ص147 .
[13] نفسه ، ص124 .