العدالة الدولية في رسائل النور(إبراهيم القادري بوتشيش)_4_
ثانيا : الطروحات البديلة في نظرية النورسي لبناء نظام عدالة دولية :
يشكل الخطاب النوري منهجا متكاملا لبناء علاقات دولية متوازنة لأنه يصحح منزلقات نظام العدالة الغربي المهيمن في الساحة الدولية من جهة ، و يمتح روحه من الدساتير السماوية التي يسميها (( بدساتير الطاعة والانقياد ))[1] من جهة أخرى . كما أنه موجه بكلياته إلى ما هو إنساني وبشري[2] ، ويقدم أنموذجا لعدالة تتجاوز فعل الحكم والتسلط إلى عدالة تعمل بطريقة فعالة لخدمة البشرية واستمرار حياتها في حرية وكرامة[3].
ومن خلال استقراء نصوص رسائل النور ، تتجلى مجموعة من الأسس التي ارتكزت عليها نظرية النورسي لبناء عدالة دولية تصبو إلى بناء علاقات دولية منسجمة ومتوازنة
1– عدالة كونية متكاملة تقوم على تعاون دولي :
لا شك أن النظرة الانفتاحية التي تميز فكر النورسي ، جعلته يؤمن إيمانا راسخا بقاعدة التواصل الدولي ، وأن هذا العالم أصبح مترابط الأجزاء ، يعيش كقرية واحدة بفضل ثورة الاتصالات ووسائل الإعلام [4]. وبما أن الغرب يحتكر ثمار هذه الثورة التكنولوجية ، فإنه يعمل على الترويج لقيم عدالته المزعومة عبر العالم . و بسبب الأنانية التي يتبناها منهجا وسلوكا ، فإنه يشيع بذلك روح الظلم ، لأن الأنانية تعد في فلسفة النورسي ظلما بشريا فادحا يؤدي إلى استغلال بشع من الطرف القوي للطرف الأضعف [5] ، وتجعل العالم يعيش أزمة روحية تساهم في عذاب الإنسان [6] ؛ لذلك آمن أن هذا العصر هو (( عصر التعاون الجماعي )) [7] أي الدولي ، وأن هذا التعاون ينبغي أن ينصب على تحقيق عدالة إنسانية شاملة ، لأن عقلا واحدا لا يكفي لإدراك كنه العدالة ، وهو ما عبّر عنه بقوله : (( تحتاج الجماعة إلى العدالة في تبادل ثمرات السعي ، ثم لأن عقل كل واحد لا يكفي في درك العدالة واحتياج النوع إلى وضع قوانين كلية )) [8].
وفي سياق الربط بين العدالة والتعاون الدولي ، يشبّه الأستاذ النورسي حاجة البشرية إلى للعدالة بحاجتها للغذاء و الهواء والماء[9] ، بنفس القدر الذي تحتاج فيه أيضا إلى الدين ، منبع التسامح والصفح وترجيح الإيجابيات على السلبيات ، وكلها صفات من صلب العدالة الإلهية التي تستهدف زرع المحبة بين البشر [10] . وللوصول لهذا المبتغى من التعاون الدولي لتأسيس عدالة عالمية تدعو النظرية النورية إلى الأخذ بالشورى منهجا لتحقيق ذلك[11] .
نخلص إلى القول أن نظرية النورسي تربط وجود العدالة العالمية بقبول الشعوب والدول لمبدأ التعاون والتشاور، فتصبح العدالة وسيلة لتبادل المنافع بطريقة ترضي الجميع ، ويتحقق الرخاء المنشود .
2- تطبيق المساواة بين الشعوب ونبذ العنصرية :
لاحظ النورسي أن الدساتير الوضعية تزعم لنفسها السعي نحو تحقيق العدالة المطلقة ، لكنها تناقض نفسها حين تكيل الدول الكبرى التي وضعتها بمكيالين ، حيث تعطي الحقوق لبعض الأطراف ، بينما تتنكر لحقوق الشعوب المستضعفة ، مما يؤدي إلى الإخلال بميزان المساواة بين دول العالم ، وتفشي الظلم والنفاق في العلاقات الدولية [1] ، لذلك دعا إلى المساواة بين الشعوب في تطبيق أجهزة العدل الدولية ، و(( اتخاذ دستور الإنصاف دليلا ومرشدا )) [2].
بيد أن أهم خلل دعا النورسي إلى إصلاحه لبناء عدالة دولية منصفة ، يكمن أساسا في مناهضة العنصرية المنبثقة من القومية . فالعنصرية عنده هي الظلم بعينه ، وأكبر مطبّة تعيق تطبيق العدالة ، وهو عبّر عنه بوضوح في قوله : (( فالعصبية العنصرية الجاهلية ما هي إلا الضلالة والرياء والظلم )) [3] .
والقومية في فكره الفلسفي جزء لا يتجزأ من العنصرية لأنها (( لا تتبع العدالة و لا توافق الحق )) [4] ، ويفسر هذا الأمر من وجهين :
1- إن الحاكم العنصري يفضل بني جلدته على غيرهم من الشعوب ، وهو ما يتناقض مع العدالة الحقّة مثل عدالة الإسلام ، لأن الدين الإسلامي يجبّ ما قبله من عصبية وجاهلية .
2- إن القومية لا تتأسس في سياق رابطة الدين ، وإنما ضمن رابطة شعوبية (( فلا يكون هناك عدالة قط ، وإنما تهدر الحقوق ، ويضيع الإنصاف )) [5] .
ويتبين من خلال نصوص رسائل النور أن منبع آفة القومية العنصرية هو الغرب ، يقول النورسي في هذا الصدد : (( ولقد نظرت من السابق إلى القومية السلبية والدعوة إلى العنصرية نظرة السم القاتل لأنها مرض أوروبي خبيث )) [6] ، مرض يؤثر سلبا على نظام العدالة الدولي، ويؤدي إلى ظهور نزاعات أممية وإلى انقسامات عنصرية بين شعوب العالم [7] ، لذلك يطرح البديل في نبذ العنصرية ، وجعل الديانات السماوية منبع العدالة التي تسوي بين الشعوب ، فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ، داعيا إلى تأسيس قيم حضارية كونية تجعل من العدالة رمزا لكرامة الإنسان ومطلبا حقوقيا جوهريا ، وحاجة من حاجاته الأساسية، لأن الإنسان يحتاج إلى العدالة مثلما يحتاج إلى الهواء والماء[8] ، وبذلك تقفز نظرية النورسي فوق العصبيات والشوفينيات الضيقة ، وتدعو إلى الاندماج في عدالة كونية متكاملة.