المقالات

العمل الاجتماعي وشرط القصد الصارم (طارق بوستا)

من نعم الله تعالى علينا أن هيئ لنا مواطن للخير وجعل لنا فرصا نسعى فيها للغير، خدمة للناس ومدا ليد العون للمحتاج والملهوف ومواساة للمكلومين وسعيا بالخير في كل الأعمال الاجتماعية التي تُنثر في المجتمع من نفوس كريمة وتصدر عن قلوب زكية، نورها الإيمان. وهي من الأعمال التي إن صاحبتها نية وكان لها قصد إلا وغدت في ميزان الغيب راجحة ثقيلة، وإن بدت في ميزان الدنيا بسيطة ضئيلة، كرما ورحمة من صاحب الفضل كله والعطاء كله، الذي أخبر على لسان نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أن “لله عبادا خلقهم لحوائج الناس آلى على نفسه ألا يعذبهم بالنار، فإذا كان يوم القيامة وضعت لهم منابر من نور يحدثون الله، و الناس في الحساب[1]

غير أن نظرتنا إلى مقاصد الشريعة التي بها نزن أعمالنا وأفعالنا، وكل حركاتنا وسكناتنا، جليلها وصغيرها، يجعلنا نعيد قراءة منظورنا للأعمال الاجتماعية الخيرية ومنهجيتنا في تنزيلها، خاصة إن كان يغلب على الظن أن  نتائجها المستقبلية ستكون سلبية ، وأن ثمارها في المدى المتوسط والبعيد حتما ستعارض أصلا من أصول الدين أوستعيق مشروع النهوض والاستخلاف الموعود. وهنا أقصد بالذات كل الأعمال الاجتماعية التي يقوم بها الفرد أو مجموعة من الناس أو الجمعيات والمؤسسات الخيرية، بشكل تلقائي وعفوي، أو بشكل مبرمج ومنظم، لكن، في سياق مبثور عن مسار علمي وعملي مفكر فيه بعناية، ودون إحقاق شروط الإشراك والإحياء والإدراك بمآلات الأشياء.

لذلك فإن تسليط الضوء على مقاصدية الأعمال الاجتماعية الخيرية وآثارها المستقبلية على الفرد والمجتمع وعلى مناهجنا العملية ووسائلنا التنفيذية في الاستجابة لنداء الخير بالتطوع في الأعمال الاجتماعية والسعي فيها، يعد ضرورة علمية ملحة وخطوة استراتيجية في سياق بناء مستقبل النهوض، الذي تتشارك في تأثيله كل الأمة وتسعى في تشييده العامة من الجماهير التي تجعل من تفاعلها الميداني في العمل الاجتماعي لبنة من لبنات الإحياء والنهوض، عوض بث إيحاءات تحرض على التقاعس والقعود.

         لكن كيف يمكن استساغة مفسدة وسلبية الآثار العملية والنفسية المستقبلية للأعمال الاجتماعية الخيرية، وأهدافها العامة هي خدمة الناس ودعم احتياجاتهم؟ بل ألا نتناقض في طرحنا هذا في مقابل أن العمل الخيري هو مقصد من مقاصد الإسلام و أصل من أصوله الذي انقدح في صلب الأمة الإسلامية منذ صدر الإسلام، وسكن القلوب الخفاقة بالخير واستوطن ذاكرة أمة معطاءة محبة للبذل والعطاء، تلبي نادي الإيمان في مساعدة الغير طمعا في فضل الله تعالى ورحمته؟ 

مـــآلات نـــاطــقــة

تحدث علماء المقاصد عن مآلات وعواقب الأفعال والأعمال، وما يترتب عنها في ما يستقبل من الأيام والسنوات، وأن بطلانها وعدم استحبابها يغدوا حكما شرعيا، إن كانت المآلات تنحوا إلى مفسدة أكبر، ولو كان حكمها المبدئي هو الجواز والمشروعية،  ” فكثيرا من الأفعال والتصرفات لا تقف مصلحتها أو مفسدتها عند وقت وقوعها أو وقت الحكم عليها، بل تكون لها مألات وعواقب وأثار مستقبلية، في الزمن القريب والبعيد. فقد يكون الأمر مصلحة في بدايته وحاله، ثم يصبح مفسدة في عاقبته ومآله. وقد يكون عكس ذلك. وقد يكون التغير المآلي في الحجم والأثر لا في الأصل، بحيث يتضاءل ما كان كبيرا، ويعظم ما كان ضئيلا.”[2] 

قد تنحو بنا رؤى الخير وفضائل الأعمال، التي تُشغف القلوب الرحيمة بها، إلى تسخير الجهد والوقت والمال، بغير قصد، في خدمة معالم الضرر، الذي تعاني الأمة العربية والاسلامية من ويلاتها،[3]  وقد تكون أعمال البر والإحسان التي نخرج بها إلى الناس في أحيائنا السكنية وفي ثنايا المجتمع والتي تسعى في تنظيمها الجمعيات والمنظمات الخيرية، عقبة في طريق بناء الأمة،  خاصة إن كانت منهجيتها يحكمها منطق الخدمة والمساعدة المباشرة، التي تعلم الناس القعود ولا تدفعهم للنهوض، أومنطق الإعانة بإطلاقية دون أي قيد تربوي يبث في الناس قيم العمل والمثابرة والمبادرة. فإن كانت الخدمة الاجتماعية مجزية للفرد والمجموعة في مبتدأ الأمر ومعينة لهم، فإن آثارها المستقبلية قد تعود بالسلب على الأمة الاسلامية وبالمفسدة على جسمها وكيانها، حين يغدوا العامة من الناس، خاصة الفقراء والمعوزين والمحتاجين، مرتهنين لمن يعطي فقط، وينتظرون الإعانة تلو الإعانة، ولا يلبون نداء التطوع ولا يبادرون بتلقائية ومسؤولية لخدمة ذواتهم وخدمة المجتمع، وإن كانت بهم خصاصة. وهو ما أتاره التقرير الصادر عن جماعة الاخوان المسلمين، الذي يعد نقدا لخط الجماعة ومشروعها التغييري الذي اصطدم بمحك الثورة الشعبية الطارئة، ثم نكسة الانقلاب على الشرعية وما تلا ذلك من تداعيات اجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية على عموم الشعب المصري، حيث جاء فيه على أن  العمل الخدمي هو التوصيف الجاهز والأسهل لمحور العمل المجتمعي، وأدى ذلك إلى العمل مع شريحة ضيقة جدا من المجتمع، كانت في المعظم من المنتفعين، ولعل هذا أسهم ولو بشكل بسيط في تبريد حدة الاحتجاج والاعتراض الشعبي على نظام مبارك”[4] حيث كان السعي الاجتماعي لأطر أكبر تنظيم سياسي بمصر ينحو إلى خدمة الناس وتقديم العون للفقراء والمعوزين وبسط الأيادي الحانية والرحيمة لعموم المواطنين، برؤية إيمانية دعوية محضة، ومن منطلق أدبي ديني، [5]  جعل كل تركيز الأطر الاجتماعية ينصب على الفئات الفقيرة والمعوزة، التي لا يكون لها في الغالب أي دور كبير في معادلة التغيير، في مقابل إهمالهم لفئات شعبية أوسع كان الأجدر إشراكها في عملية صناعة الخير القيمي، تحميلا للمسؤولية وتربية على الجندية والفعل الإيجابي في المجتمع.

عمل اجتماعي رخوٌ … لا يبني

         دائما ما تمتد الأيادي الرحيمة في الأعمال الاجتماعية إلى الناس بالخير، خدمة للفقراء والمساكين والمحتاجين، وذلك بتقديم مساعدات إنسانية وإعانات مادية وعينية، من كسوة أو طعام أو علاج، لتعين السائل في بضع ساعات فقط من يومه، بمنطق آني ومقصد لحظي، ولتبقى بعد ذلك إلحاحية الخدمة وضرورة المساعدة ملقاة على عاتق المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني، التي تجهد في السعي بين خدمة المحتاج وإعادة خدمته دون قطف ثمار ملموسة، تغني المجتمع من الدوران حول حالة مركبة من الفقر لا تنقضي، وهو التوصيف اللحظي الذي تعيشه سائر الأمة الملزمة بنمط فكري تفاعلي، يكرس الخدمة لغرض الخدمة فقط، ولا يغوص في تفاصيل البناء النفسي والدوافع الخلقية والقيمية للمواطنين.

        وللأسف فأن الإعلام الرسمي والثقافة المبثوثة في الوسط الاجتماعي الاسلامي والعربي والمناهج التربوية والتعليمية، كلها تنحوا إلى ترسيخ تقافة الخير التي تسكنها روح انهزامية ولا تحمل في كيانها رؤية مقاصدية استشرافية ولا قيما إحسانية تقيم صلب المجتمع وتعضده، بل تتجه نحو الفعل الخدماتي المادي، أو العطاء المباشر، الذي يذكي السلبية في الناس، ويربيهم على العقلية الانتظارية والذهنية الاتكالية، فيجتهد المتطوعون من الناس كما الجمعيات في كل مناسبة وفي كل وقت وحين في تنظيم أنشطة خيرية لمساعدة المحتاجين، وتبذل الجهد المضاعف في جزئيات صغيرة، قد تغدو في نظر مجتمع الخير العام للأسف هدفا أو انجازا في حد ذاته، دون النظر في المقاصد الكبرى والاحتياجات المستقبلية الحقيقية، الكفيلة بنهوض الأمة، واستلامها زمام القيادة من جديد. ومثل هذا ما ذهب إليه عالم الاجتماع الفرنسي “جيل ليبوفتسكي” حين ربط بين الاعلام الرسمي الموجه الخالي من القيم وبين العمل الخيري الاجتماعي المتأثر بالصناعة الاعلامية، حيث قال: “حين يُهيمن إعلام الصدَقة، يصبح النشاط الخُلقي نابعا من الحسابات الإعلامية بدل أن ينطلق من المبادئ الخُلقية، فيتزايد تحكم وسائل الإعلام في القضايا التي تنجح في إثارة الأريحية وتوجيهها، وتُمَكِّنُ التكافل من التجذر في الشعب، لكنها في نفس الوقت تُحرر الأفراد من الالتزام. فهي تملك القدرة على التعبئة الخيرية. لكنها تحرر القلوب من الشعور بالذنب وتُساعد على تآكل واجب مدِّ يد العون إلى الآخرين بانتظام[6]، عمل خيري آلي وميكانيكي، لكنه خال من الروح.

      يكون العمل الاجتماعي الخيري الذ يسعى فيه الناس بمنطق لا تقيمه أسس أخلاقية ولا ينبني على قيم عليا ولا تؤسسه رؤية استشرافية قاصدة ، قد أخطأ المدخل إذا، وزاغ عن صميم الأدوار المطلوبة منه في مجتمعاتنا التي تعاني من أمراض موروثة، تكبل الناس في قيود القعود والأنانية والانتظارية، وتكرس في المجتمع سلبية عامة، وتنتج جيلا لا يعطي ، لا يبادر ولا يعرف للتضحية معنى.[7] ولن يسعفنا لتدارك طريق الزحف والبناء إلا منطق يحتويه قصد صارم، نتلمس به واقعنا العملي، بعيدا عن النظرية العائمة، والحكم الشرعي المجرد من سياقاته، وبعيدا عمن لا يحصل في ذهنه تكامل وانسجام بين النص والتطبيق. قال الإمام الشاطبي رحمه الله ” قصد الشارع من المكلف: أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع”[8] “بمعنى أن المكلف حين يعمل بأحكام الشرع، يجب أن يجعل مقصوده في عمله مطابقا ومحققا لما قصده الشارع في حكمه”[9] وهذا يقتضي أن يكون قصد الساعي في العمل الخيري الاجتماعي موافقا لمقاصد الشرع الكبرى، حتى ينخرط فعله في منظومة الأعمال الإحيائية التي تأثل ركني العدل والإحسان وتقيمهما. ولن يتم ذلك ولن يتحقق إن شاب الفكر غموض وشاب النظر زيغ عن لب القصد ولم ينجمع ركني التنظير والممارسة في سلك ناظم متسلسل، لا تنفك عراه قيد أنملة عن علم القصد والغاية.


 : رواه ابن حبان[1]

 : د. أحمد الريسوني، كتاب مقاصد المقاصد، الغايات العلمية والعملية لمقاصد الشريعة[2]

 : كتاب التطوع في الوطن العربي، مشاركة المجتمع المدني في التغيير، طارق بوستا[3]

  [4]  : https://almesryoon.com/story/1053634/أول-مراجعة-للإخوان-ارتكبنا-4-أخطاء-كارثية   تقرير بعنوان : ” تقييمات ما قبل الرؤية.. إطلالة على الماضي ” 2017

 : نفس المصدر[5]  

 : الاسلام والحداثة، عبد السلام ياسين[6]

 :  كتاب التطوع في الوطن العربي، مشاركة المجتمع المدني في التغيير، طارق بوستا [7]

 : الموافقات[8]

 : مقاصد المقاصد، الغاياتت العلمية والعملية لمقاصد الشريعة، د. أحمد الريسوني[9]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق