القانون الدولي كإرادة خاصة: تفكير في ميتافيزيقا الاستدلال والمعقولية والتركيب(يونس الخمليشي)_1_
مقدمة:
إن تعريف القانون الدولي سواء من جهة نظر المذهب التقليدي Traditional Doctrines له أو من وجهة نظر المذهب الموضوعي Positive theory يكاد أن يجمعه تعريف تنكين Tunkin. G. T على اعتباره قوانين وقواعد قانونية أنشأتها دول وفق إرادتها المشتركة لتحكم علاقاتها في عمليات السلم والحرب، وقد تحفظه أثناء الضرورة بالإكراه. وللقانون الدولي سلطة تشريعية وقضائية، لكنه يختلف عن القانون الداخلي المدني الذي ينظم العلاقة بين الأفراد داخل دولة ما، من حيث القواعد والمضامين، ومن حيث الأجهزة، فلا وجود لسلطة تنفيذية للقانون الدولي على سبيل المثال كما يدعى.
يشمل القانون الدولي في مصادره المعاهدات الدولية والعرف الدولي، ويشكِّل لب المعيار القانوني الذي يقوم عليه النظام الدولي وأساسه الأخلاقي والفلسفي بما يفترضه من مبادئ كونية وقيم عامة. وإشكال البحث هنا هو: “هل القانون الدولي -بما يتضمن من مبادئ- هو شأن كوني له الحق في التعميم ومطلقية التطبيق على كل الدول أم إنه إرادة خاصة تُفرَض بالإكراه الناعم على الأغيار؟”
يفترض القانون الدولي الكونيةَ عبر الآتي:
_إنه قانون يقوم على مبادئ كونية وقيم عامة جداً ومؤسِّسات شاملة “اتفقت عليها الأمم المتمدنة” والتي هي العدل والسلم والمساواة (وما ينجم عنها من تطبيقات وتأويلات مثل قيمة “حق تقرير المصير”..). وعن هذه المبادئ صنَّف نفسه على أنه؛
_قانون يضبط العلاقات بين الدول باعتبارها ترتضي التحاكم إليه في السلم والحرب، لأنه؛
_قانون يعبر عن الكينونة الإنسانية الذي تطمئن إلى أحكامه النفوس وترتضيه الأذواق وتقبله العقول وتستحسنه الطبائع.
يسعى القانون الدولي إلى إقامة العدالة، ولاسيَّما أنه يتقاطع بقوة مع الأخلاق الدولية. لكن هذه العدالة لا يتم التقليل من تجريدها وكونيتها بالأخذ في الاعتبار الاستثناءات والشوارد بما يخفف من كونها عدالة معصوبة العينين. وبذلك يضمر كونية مفاهيمه وكونية تطبيقها الذي -أي التطبيق- كان ينبغي أن يجعل خاصاً وممكن التجاوز. ورغم أن مبادئ العدل والإنصاف ليست من مصادر القانون الرسمية إلا أنها مفترَضةٌ في سياقه، فكل قاعدة قانونية عند تطبيقها تفترض
1-العدل
2-وسلاسة التنزيل
3-والتكييف مع الآثار الممكنة المترتبة عن عوامل أخرى دينية وأخلاقية واقتصادية ومعرفية وسياسية.
4-كما تفترض التوافق مع الآثار الممكنة المترتبة عن الذوق العام والضمير الجمعي وحسن الجوار والأعراف العامة والمنطق. فهذه ليست مصادر رسمية للقانون لكنه مؤثثات معنوية لها. وكلها تدور على فلك الكونية التي يفترضها القانون الدولي أو يتغياها في آخر مطافه.
يسعى البحث إلى الحجاج على أن القانون الدولي هو شكل خاص تطور وفق نمط خاص وتجربة خاصة لم تشارك في بلورتها شعوب الأرض الظاهرة. نعم، ربما ليس الانضمام إلى المعاهدات الدولية ملزماً بل رضائياً؛ ولكن الدولة لا تعيش وحدها بل تجاور وتتعامل وتحَدُّ بغيرها…وهذا يلزمها الانخراط في العالم والتعامل وفق قانون ينظم هذه العلاقات الكبرى، وتجد الدولَ المجاورة انخرطت وارتضت ووقعت هذه القوانين. فهو قانون رضائي شكلاً لكنه واقعاً إلزامي، إنه جبر في شكل اختيار.
إن بحثنا يروم التفكير في رصد قوادح كونية هذه القوانين الدولية، والحجاج على أنها إرادة خاصة تفرضُ على الأمم التي لم تساهم في بلورة هذه القوانين وإنشائها وكتابتها وصياغتها، بالانتهاء إلى أن القانون الدولي ليس كونياً، وهذا الرصد له ممرات ثلاثة.
أولا: ميتافيزيقا القانون الدولي؛ التفكير في القانون الدولي تفكير خاص!
إن التفكير الجاد في القانون الدولي يتطلب التفكير فيه قبل صياغته لغوياً وطرحه لفظياً، أي التفكير في مهيِّئات ولادته وشروط تمخضه.
يفترض البحث أن الذهن الذي يبدع أي فكرة أو مَلحَظ أو قيمة يتمركز في وضعية خاصة ينجب من خلالها ووفق شروطها، لأن أسلاك الذهن التي مر منها هي وضعيات خاصة جداً، إذ التذهن Minding هو تفكير خاصٌ جداً ملتصق بالذات المفكِّرة من حيث كم وكيف تجاربها وتكوينها وواقعها وتاريخها. ومن هنا؛ فإن المؤسسين للقانون الدولي والمنظِّرين له أنتجوا هذا القانون وهم يستحضرون ذواتهم فيه، وفيه تؤثر طبائعهم وتجاربهم التي أفصحوا عنها عبره. من هنا يفترض البحث أن القانون الدولي كان مثالاً جزئياً عن البراديغم الفكري الذي ساد في لحظته وبلور الوضع السياسي عبر صيغة قانونية، وهذا البراديغم هو رؤية العالم الرومية-الأروبية، إذ تطور القانون الدولي كان عبر تمخضات معينة في التجربة الأروبية إلى أن انتهى في صيغة ميثاق الأمم المتحدة المشكل من سبعة مبادئ بما يضمن السلام والتعاون. فيَهُمُّ البحث هنا الحجاج على أن الذهن لا يبدع قوانين كونيةً ولا ينتج استدلالاً (إلا الصوريات والمجردات والتحصيلات الحاصلة) عاماً صالحاً لكل زمان ومكان، لأن الاستدلال تاريخ مركب والقوانين تركيم متَنَقِّل. وهنا سيقْتَرِض البحث بعض أدواته التحليلية والنقدية من فلسفة المنطق The philosophy of logic الذي تجعل مفهوم الماقبلي A Priori شأناً تطورياً.