المقالات

الكفايات الثلاث: (خالد العسري)

” اللَّهُمَّ أَشْكُو إلَيْك جَلَدَ الْفَاجِرِ وَعَجْزَ الثِّقَةِ” عمر بن الخطاب رضي الله عنه*

إذا ثبت في الأذهان أهمية القلب في القرآن، وأنه مستقر المعرفة والإرادة الإيمانيتين، وأن العقل خادم لتطلعاته، عجبنا كيف تجعل تنظيمات إسلامية تطبيب القلوب انشغالا من انشغالاتها، وجزء في بحر اهتماماتها، ومفردة كباقي المفردات في معجمها، بل تجد بعضها تعطي أكبر اهتمام للتربية الفكرية أو التدريب الحركي أو التكوين السياسي –وهي كلها أمور لا غنى لتنظيم إسلامي عنها- دونما اهتمام بالتربية الإيمانية وكأنها معطى تابع لغيره، عكس ما وجدنا في الذكر الحكيم أن الكل تابع لها.

وإنما يرجع سبب إعلاء تنظيمات إسلامية لشأن العقل المفصول عن القلب إلى ثقل إرثين تقليديين. فأما التقليد الأول فتمثله تنظيمات نخبوية تأثرت بمفهوم العقلانية الغربية، وهو تأثر له أصوله في الفكر الفلسفي الإسلامي الذي كان يؤمن بثنائية الحقيقة: الحقيقة الدينية التي وسيلتها السمع والتوقف، والحقيقة الفلسفية التي وسيلتها المنطق وإعمال العقل. وقد تمت المزاوجة بين الحقيقتين تحت مقولة أن ” صحيح المنقول لا يعارض صريح المعقول”. وقد أخذت منذ أمد تنظيمات إسلامية تدعو إلى أولوية العقل على الشرع، وأن القلب يجب أن يكون خادما للعقل، وأن برامج الحركة الإسلامية يجب أن تهتم بسؤال كيفية تطوير العقلانية ضمن صفوفها، وقد استتبع ذلك نزعات تشكيك بالسنة النبوية، ودعاوى إلى ضرورة إعادة كتابة الحديث الشريف، وذلك كله حتى تتوافق النصوص مع اجتهاداتهم السابقة على النص، وبذلك أصبحوا ينظرون إلى الكتاب والسنة من تحت كلكل الواقع، ناهيك عن ضمور الحديث عن الآخرة والغيب عموما في كتاباتهم ومحاضراتهم وكأن الأمر صار سُبة، أو كأنه لا علاقة للغيب بعالم الشهادة إلا فيما يخص علاقة المؤمن فردا بربه عز وجل.

وأما التقليد الثاني فتمثله تنظيمات شعبية أوسع انتشارا، تأثرت بالفصل الذي أنشأه الفقهاء بين العقل والقلب، إذ جعلوا وظيفة الأول معرفية بينما حصروا وظيفة الثاني في كونه محل الاعتقاد والنية فحسب، وقد أفضى هذا الفصل “إلى الغلو في “تفقيه” الممارسة الدينية، والمراد بالتفقيه هو التقنين الفقهي لأفعال المكلفين بما يجعل الاعتبار فيها أساسا لظاهر موافقتها للأحكام المقررة مع إهمال المعاني الخُلُقية التي تنطوي فيها والتي لو تصورنا هذه الأحكام مجردةً من إفادتها، لصارت أحكاما لاغية”[1].

لقد قطع سيدنا موسى عليه السلام مع فتاه رحلة مضنية حتى “وَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا” الكهف: ٦٥، وجدا عبدا جمع الله له الرحمة والعلم فصار لقاؤه أعز ما يطلب عند كليم الله عليه الصلاة والسلام. وسيدنا الخضر رجل رحالة ما كانت له السلطة على قوم من الأقوام، لذلك اكتُفي في حقه بأن يجمع بين الرحمة والحكمة؛ عكس من يتيسر له قيادة الجموع كما كان الحال مثلا مع سيدنا لوط على قوم من بني إسرائيل، فلما جادلوا نبيهم في شرعية سلطته عليهم، قال لهم نبيهم: “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”البقرة: ٢٤٧، فجعل الله خاصية البسطة في الجسم -كناية عن القوة- شرطا إضافيا لقيادة الجموع في مسالك الجهاد.

إن كمال التنظيم الإسلامي، وهو كمال يظل في كل الأحوال نسبيا، لا يمكن تحصيله إلا باستجماع كفاياته الثلاث في رأس هرمه وقاعدته: الرحمة والحكمة والقوة. وعندها يتنزل قدر الله على المستضعفين بأن يجعلهم الأئمة ويجعلهم الوارثين بإذن رب العالمين.

إن الرحمة تأليف للقلوب داخل التنظيم الإسلامي وتوحيد لشعورهم، ولا تتأتى إلا بالتربية؛ وتحصيلها يتم باستكمال شروطها.

وإن الحكمة توحيد للتصور بين المؤمنين في كيفية الاجتهاد والجهاد، في كيفية التنظيم وبنائه، في دراية التحرك بين الناس في مجالسهم واجتماعاتهم، في قيادة الشعب من أجل التقدم بالفكر والمشروع الإسلاميين إلى الأمام. ورغم ذلك فإن من أكبر المخاطر التي يتخوف دوما أن تأتي بنيان التنظيم من قواعده هو انفجاره من الداخل بفعل انشقاقات قد لا توقفها محاولات رأب الصدع وإن حسنت النيات. ويحصل هذا التهديد، عاجلا أو آجلا، ما لم يؤسس العمل الإسلامي على فقه شوري متضح المعالم ومشاع في الصف. فقه شوري مجمع عليه، يكون من أهم ما يحسم فيه طبيعة العلاقات القائمة بين مؤسسات التنظيم، والمسطرة المتبعة في اختيار المسؤولين القياديين، وكيفية اتخاذ القرارات إن تشابكت الآراء واختلفت التقديرات.

إن البناء التنظيمي النبوي الجهادي جمع في رافديه ألفة في القلوب؛ وشورى في الصف. قال تعالى يصف هذه الجماعة الأسوة على امتداد تاريخ المسلمين: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” آل عمران: ١٥٩، وانظر إلى المفردات المتسقة المتكاملة في جماعة المسلمين الممدوحة من رب العالمين: رحمة من الله ولين ورفق وعفو واستغفار وشورى وعزم وتوكل. فلا يكون التنظيم إسلاميا إن لم يسع أن تكون كل هذه المفردات هواء يتنفسه أبناؤه داخله. وإنما تنبت مفردات اللين والرفق والعفو والاستغفار في تربة تسقى بماء التربية؛ ويستكمل الغراس بالشورى والعزم الذي يسقى بماء الحكمة. ومن فصل بين هذه المعاني السامية قعد دون الأسوة النبوية، وجاءه النقص من حيث أراد الكمال، والفساد من حيث أراد الصحة، والضعف من حيث أراد القوة.


* نقلا عن مجموع فتاوى ابن تيمية. 28/254

[1] طه عبد الرحمن. سؤال الأخلاق. ص: 153

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق