المثقف وتحدي النهوض (لؤي صافي)
قضية النهضة، وتحديات النهوض، رافقت المجتمع العربي والإسلامي على مدى القرنين الماضيين، وتحولت هذه القضية إلى الهم الذي واكب جهود التحرر من الاستبداد والتسلط الذي رافق ثورات الربيع العربي. في ضوء التراجع الكبير في ثورات العربي وتمكن أنظمة الاستبداد من خلط الأوراق في المنطقة، لا بأس من العودة إلى موضوع النهضة للنظر في عناصرها الأساسية، وفهم دلالات تراجع ثورات الربيع العربي.
بالتأكيد تراجع الثورات لا يعني أن الجهد الذي بذل لم يحرك مجتمعات الربيع العربي خطوات باتجاه الهدف المنشود، بل ثمة تطورات مهمة جرت في الوعي والواقع تصب في اتجاه تحقيق التحول نحو مجتمع ناهض، لكن ثورات الربيع العربي أظهرت وعورة الطريق وتعدد العقبات، وهذا يتطلب فهم طبيعة القصور الحاصل ووضع المجريات الأخيرة في سياق سيرورة النهضة المنشودة.
الموضوع متشعب ومعقد لذلك سأكتفي بالتعرض إلى نقاط رئيسية أربع:
1. النهوض والثقافة الناهضة
2. المشروع التنموي لدولة ما بعد الاستعمار
3. النهوض والدين
4. دور المثقف ومشروع النهضة
النقاط السابقة التي أتطرق إليها في هذه المقالة باختصار، تناولتها بشيء من التفصيل في كتاب الحرية والمواطنة والإسلام السياسي الذي صدر عام 2012، وقمت ببحثها بإسهاب كتاب أنهيته مؤخرا، أرجو أن أتمكن من نشره مع نهاية العام الحالي، وهو بعنوان الفكر والنهوض. الكتاب الجديد يدرس تطور الفكر العربي والإسلامي من خلال قراءة التراث قراءة نقدية، ويبحث في خطوط الاستمرار والانقطاع في الفكر المعاصر. ويمكن لمن يريد التعمق في فهم الموضوع الرجوع إليها.
أولا: النهوض والثقافة الناهضة
النهوض انتقال من حالة اجتماعية تتصف بالجمود والقهر والظلم والتسلط، إلى حالة اجتماعية تتصف بالحيوية والفاعلية والتطور والتعاون والإبداع والمبادرة. هو انتقال من واقع يتصف بالجمود والتخلف إلى حال يتصف بالحيوية والتطور، ومن ثقافة التقليد والخنوع إلى ثقافة الإبداع والنهوض.
الثقافة الناهضة تنضوي على العديد من العناصر، ويمكننا من خلال نظرة مقارنة إلى القواسم المشتركة بين الثقافات الناهضة التي ولدت حضارات شامخة عبر التاريخ أن نميز عنصرين رئيسيين هما:
(1) القدرة على توليد تضامن داخلي يتمثل بتعاون أفراد المجتمع الناهض وتلاحمهم وتكامل جهودهم.
(2) القدرة على تحرير الطاقة الخلاقة المبدعة للفرد والجماعة، وبالتالي تمكينهم من تطوير حياتهم وأدواتهم وزيادة فاعليتهم.
وفي الجهة المقابلة فإن الثقافة الهابطة، ثقافة التخلف، تتميز بخصيصتين:
(1) تشرذم أفراد المجتمع وتشاكسهم وتبدد جهودهم، وغياب كامل للاهتمام بتطوير الإنسان والحياة العامة.
(2) تكبل إرادة أبناء المجتمع وعقولهم بأغلال القهر والاستبداد السياسي والتعسف الفكري.
السؤال الذي يهما هنا هو كيف يتم هذا الانتقال؟ كيف يتحقق التغيير من الناحية العملية والإجرائية؟ كيف يمكن لأفراد متفرقين أن يجتمعوا ويتعاونوا للقيام بالانتقال والتغيير؟
ثمة نموذجان أساسيان لتحقيق التضامن والتعاون والنهوض: النموذج العضوي العقدي ، والنموذج القيمي التعاقدي. الأول يشدد على التشابه العضوي والعقدي للتحقيق التضامن، والثاني يعطي أولوية للالتزام القيمي التعاقدي لأبناء المجتمع. الأول ذو توجه فئوي (قومي أو عرقي أو طائفي)، والآخر ذو توجه إنساني يسعى لخير جميع أفراد المجتمع.
لنبدأ بتسليط الضوء على المشروع التنموي الفئوي الذي قاد جهود المجتمعات العربية خلال القرن الماضي، لننتقل بعد ذلك لتحديد طبيعة المشروع الحضاري البديل الذي يرتكز على القيم الإنسانية التي أكدتها الرسالات السماوية.
ثانيا: المشروع التنموي الفئوي
المشروع التنموي الفئوي أخذ شكلين مختلفين من حيث الأطروحات، ولكنهما متماثلان من حيث النظرة والعقلية المهيمنة: المشروع الحداثي القومي الذي تبنته الحركتين الليبرالية والاشتراكية العربية، والمشروع الإحيائي الديني الذي تبنته الحركة السلفية.
المشروع الحداثي القومي اختار طريقا يقوم على التقليد الظاهري للغرب، والذي ارتكز على استعارة الافكار التي طورها المفكر الغربي وحولها المثقف الغربي إلى مؤسسات وعلاقات وممارسات، واستيراد الأدوات التي طورها العالم والمنتج الغربي. اختار القوميون استعارة نموذج التنمية الألماني/الإيطالي الذي قام على التضامن القومي، والذي انتهى بالدولة الفاشية). واعمدوا كذلك إلى ستيراد البنى والممارسات الاجتماعية والسياسية الغربية، مثل النظام الجمهوري والانظمة الدستورية القائمة على الانتخاب والتنافس بين الأحزاب. المشروع التنموي القومي نقل أشكال الممارسات الغربية واجراءاتها الشكلية، ولكنه عجز عن استحضار روح تلك الممارسات والقيم الكامنة وراءها. التقليد الظاهري ولد بنى اجتماعية وسياسية خالية من الروح. جمهوريات تحاكي في سلوكها الأنظمة السلطانية، وحكومات منتخبة تقوم على المحسوبيات دون الالتفات إلى القواعد الدستورية والقانونية، وانتخابات تكرس الاستبداد، وأجهزة أمنية تزرع الخوف والرعب بين المواطنين.
وبالمثل، نحى المشروع الإحيائي منحا تقليديا فاختار تقليد مفكرين وقادة عاشوا في عصور غابرة، وطوروا مؤسسات وعلاقات وقيادات مناسبة للبيئة الاجتماعية والظروف التاريخية التي واكبت حياتهم واجتهادهم. وكما عجز المشروع الحداثي عن استصحاب روح الحضارة الغربية وتمثل قيمها، كذلك عجز المشروع الإحيائي عن فهم القيم الإسلامية التي حكمت الأشكال السلوكية التاريخية، وبالتالي انتهى إلى تقليد أشكال الحياة القديمة، كاللباس وطريقة الأكل وأنواع الخطاب والوعظ، واعتماد وسائل واساليب التاريخية في التنظيم والخطاب، كما انتهى إلى تقمص النظام السلطاني الذي كرس حكم الفرد، وحال بين تطوير مؤسسات وإجراءات لمساءلة الحاكم وضبط تصرفاته من خلال القانون.
مشكلة المشروع التنموي الفئوي وتحدي النهوض
الخطأ القاتل في المشروع الفئوي هو في اعتماد التقليد والمحاكاة لا الاجتهاد والإبداع. ذلك أن التحول المطلوب فكري وثقافي، لا تحول بنيوي وشكلي، وهو تحول يحب أن يرتكز على الإنسان لا الأدوات والأشياء. التحول الثقافي يجب أن يرتكز على رفع وعي الفرد وفاعليته، وتزويده بالحريات الضرورية للمبادرة والابداع. التحول يحتاج بالتأكيد إلى تغيرات متزامنة بين عدد كبير من أفراد المجتمع يشكل كتلة حرجة. تغيرات في مستوى الوعي وتطوير الأداء الفردي والجمعي. هذا التغير يتعلق بتغيير القناعات وتغيير القيم والعادات السائدة المسؤولة عن حالة التخلف. تغير القناعات والقيم والعادات هو ما نسمية بالتغير الثقافي، لأن الثقافة ليس أمرا آخر سوى هذه العناصر الثلاثة.
التحدي الذي يواجه مشروع النهوض مزدوج، ويتجلى في تحويل المبادئ إلى قناعات تؤثر في سلوك الفرد، كما يتجلى في نوعية الحياة المشتركة، وبالتحديد في تحويل هذه القيم من شكلها الكلي المطلق إلى أشكال اجتماعية جزئية تتعلق بمنطقة جغرافية خاصة وبسياق زمني تاريخي محدد. التحول يجب أن يأخذ منحيين:
1. تحديد مقاصد الأفعال والنصوص، بالانتقال من السياق الجزئي التاريخي إلى المبادئ الكلية، وعدم الاكتفاء بالأشكال والمعاني الظاهرة.
2. تحويل القيم الكلية إلى قناعات وعلاقات ومؤسسات وممارسات.
ذلك أن القيم الكلية يمكن تتحول إلى خطاب حالم طوباوي دون أن يكون لها أثر على الواقع. قدرة القيم الكلية على تغيير الواقع يتوقف على تحولها إلى نماذج عملية، أي إلى علاقات ومؤسسات وآداب وحقوق وعادات. بعبارة مكافئة، تحولها إلى ثقافة حية ناهضة.
هذا لا يعني بالتأكيد أن كل فرد في المجتمع سيتحول إلى إنسان ملتزم بالقيم الكلية المشتركة. هذا غير ممكن وغير ضروري لحدوث تحول ثقافي. المطلوب هو وجود كتلة حرجة داخل المجتمع ملتزمة بتلك القيم ومنافحة عنها.
التغيير يتطلب تولد رؤية حضارية وتزويد المجتمع برسالة إنسانية تفسر مشكلات الواقع القائم وأسبابه، وتقدم تصورا لكيفية الخلاص منه والتحول إلى واقع جديد ناهض، وخلق تضامنات داخلية تسمح بتعاون الأفراد للوصول إلى الواقع الجديد. أهم عناصر هذه الرؤية هي المفاهيم والقيم التي تولد التضامن، مثل قيم التعاون والتراحم ، وتقدير أهمية الإبداع والاختلاف، واحترام الرأي المخالف. هذه القيم كلية مشتركة بين الناس، وهي قيم تؤكدها معظم المجتمعات الإنسانية والديانات السماوية في صيغتها الكلية، قيم التعاون والعدل والحرية والمساواة والرحمة والإبداع.
الدين والنهضة الحضارية
هذا يقودنا إلى الحديث عن طبيعة الرؤية التي تولد حركة النهوض وعلاقتها بالثقافة السائدة، وبالتغيير الثقافي. وهنا يبرز دور البعد الوجداني الديني، وعلاقته في مسألة التغيير.
النهوض الحضاري في جميع الحضارات المنصرمة تأسس على رسالة دينية، وأعني بذلك رسالة سعت للإجابة عن الأسئلة الأساسية المتعالية على الخبرة الحسية: ما أصل الوجود؟ ما معنى وجود الإنسان أو ما هي مسؤوليته؟ وأخيرا ما هو مصير الجهد البشري.
كل حركات النهوض الحضاري التي عرفتها البشري خلال الخمسة آلاف السنة الماضية استندت إلى إصلاح ديني، وسعت إلى إعادة تفسير النصوص المعيارية المرجعية من خلال قراءة جديدة تأخذ بعين الاعتبار التحديات الثقافية والبنيوية المساوقة لمساعي التغيير والنهوض. هذه الملاحظات تكررت عند العديد من المؤرخين وفلاسفة التاريخ، لذلك نجدها في كتابات فلاسفة التاريخ الغربيين، مثل هيغل وشبنغلر وتوينبي وماكس فيبر، كما نجدها في أعمال مفكرين مسلمين مثل ابن خلدون وجمال الدين الأفغاني ومالك بن نبي.
يشكل الدين القاعدة التي تقوم عليها الحياة الثقافية المشتركة في كل المجتمعات، حتى في المجتمعات العلمانية. العلمانية الغربية تعود في جذورها إلى حركة الإصلاح الديني الأوربي، وتولد قناعة لدى المفكرين والمصلحين الدينيين بضرورة فصل الدولة عن الكنيسة لوضع حد للاقتتال بين الكنيسية الكاثوليكية والكنائس البروتستنية الذي استمر لمدة ثلاثين سنة وخلف ملايين القتلى من اتباع الكنيستين. لذلك فإن العلمانية لا تمثل حركة معادية للدين في الدول الغربية، بل رؤية تمنع الدول من فرض دين معين على المجتمع، وتحمي المؤسسة الكنسية من هيمنة الدولة وتدخلها في العقائد الدينية.
جهود الإصلاح الديني أخذت عبر التاريخ الإسلامي شكلين: الأول عقدي حصري والآخر تعاقدي إنساني. الشكل الحصري العقدي تمثله حركات التشدد الديني التي تسعى لفرض معتقداتها وسلوكياتها على أفراد المجتمع باستخدام الدولة، بينما تمثل النموذج التعاقدي الإنساني بتأكيده على وحدة المجتمع بناء على القيم الكلية الإنسانية مثل العدل والمساواة والتعاون والرحمة، وتحويل هذه المبادئ إلى مؤسسات مجتمعية وممارسات عامة. وهو النموذج الذي سمح بالتعايش السلمي بين الأديان والشعوب في فترات إزدهار الحضارة الإسلامية.
دور المثقف والمشروع الحضاري
المثقف هو حامل الثقافة وصانعها، وهو الفرد الذي يدفعه اهتمامه بالشأن العام واستجابته لمسؤولياته الوجودية إلى فهم تركيبة المجتمع وآليات حركته وطبيعة العلاقات القائمة. فهو المفكر والكاتب والصحفي والناشط الاجتماعي والناشط الحقوقي والناشط السياسي. هو الروائي والإعلامي والأديب والشاعر والفنان والمخرج والمسرحي والممثل. هو الذي يمتلك القدرات التحليلية لفهم الواقع، والقدرات التركيبية لتجاوزه انتقالا لواقع أفضل.
التغيير الثقافي يتطلب تراكمات نظرية وعملية تتجلى من خلال مشروع حضاري يساهم في تطويره مفكرو النهضة ومثقفوها. بمعنى آخر يتطلب النهوض أن تتحول جهود المثقفين إلى حركة فكرية تواكبها حركة اجتماعية وثقافية، تسعى إلى تطوير العلاقات والسلوكيات من خلال تغيير القناعات من جهة، وتقديم نماذج ناجعة تحفز الأجيال الجديدة للمشاركة في عملية النهوض والتغيير. المشروع النهضوي هو مشروع حضاري، بمعنى أنه ليس عملاً فكرياً يمكن لمفكر متميز إنجازه ضمن كتاب أو سلسلة من الأبحاث، بل هو عمل شاق متشعب ومديد يتطلب حركة ثقافية واسعة.
جهود الإصلاح والنهوض تتطلب حركة فكرية تعيد قراءة المصادر المعيارية في سياق المجتمع المعاصر، ومن خلال سعي المثقف إلى تطوير الحياة وبنائها على أسس قيمية ترفع من قيمة الإنسان وأداؤه، لا أسس حصرية تميز بين الناس بناء على الشعارات التي يرفعوها والجماعات التي ينتمون إليها.
الربيع العربي أنجز خطوة مهمة في سيرورة النهوض، وذلك بإضعاف دولة الاستبداد، وتحرير شريحة واسعة من أبناء المجتمع، لكن المشوار لا زال طويلا والخطوات عديدة، ولا زالت الغشاوة تحيق بمسار الحركة المستقبلي وشكل المجتمع المنشود. فالنهوض ليس جهدا ينجزه جيل أو جيلين، لكنه سيرورة تتطلب تضافر جهود أجيال عديدة، يضع عبرها الجيل الماضي الجيل التالي في نقطة أكثر تقدما من النقطة التي بدأ هو مسيرته منها. جهود النهضة لن تتوقف بسبب نجاح الثورات المضادة في وقف حركة المجتمع نحو هدفه، ولعل الربيع العربي أظهر قصور مشروع التنمية الفئوي. لكن المضي في المشروع الحضاري سيتطلب حركة فكرية واضحة تواكب حركة المجتمع، وتضيء له الطريق نحو المستقبل الواعد الذي تتنظره الأجيال الفتية وتتعطش لتحقيق المجتمع الناهض والفعال.