المرأة في سوسيولوجيا العوامل الفاعلة (ديرار عبد السلام) ج2
1– تواريخ حاسمة في سيرورة التخلص من الإرث الثقيل:
إلى غاية القرن الخامس عشر كانت Christine de Pisan، رغم سخطها على المكانة المخصصة للمرأة، لا تجرؤ على المطالبة بالمساواة بين الرجال و النساء . و عندما كتبت خلال سنة 1405- 1406 :”مدينة النساء” ، كانت كتابتها مجرد تساؤلات حول قناعات سائدة آنذاك بشكل شاسع مضمونها “قبح” و “شر” و “دونية” و “سلبية”…المرأة، و أجهدت Christine de Pisan نفسها لتثبت خطأ هذه المزاعم، و لم يكن مسعاها يتجاوز رد الاعتبار للنساء، و لم تكن أبدا تبحث عن تغيير لمكانتهن داخل المجتمع.
و في عام 1673 كان لPoullain de la Barre رد فعل قوي تجاه الخطابات حول دونية النساء، و ذلك من خلال نشره لكتابه الشهير. و قد ألح في تقديمه لهذا الكتاب على تفنيده – كدكتور في الفلسفة و قس و مفكر حر معتنق للبروتيسطانتية – للرأي الشائع القائل بدونية المرأة، و بين أنه بعد فحص هذا الرأي، تبين أنه خاطئ و قائم على فكرة مسبقة و تقليد شعبي، و بالتالي يتأكد (بالنسبة لPoullain de la Barre) أن الجنسين متساويين، بمعنى أن النساء هن أيضا شريفات و خاليات من العيوب . و شهد عام 1775 حدثا فكريا بارزا في خندق شق الطريق أمام المرأة بالغرب لولوج عالم المواطنة، و تمثل هذا الحدث في إقدام الفيلسوف السياسي الأمريكي المشهور آنذاك طوما بين ( Thomas Paine) على الكتابة في الدفاع عن حقوق المرأة بشكل مباشر و أكثر جرأة، و في سنة 1787، و في كتاب كان له صدى كبير في عصره دافع كوندورسيه ( Condorcet ) عن الحقوق السياسية للنساء، و وصف حرمانهن منها بالعمل الارهابي .
و قد توالت الأحداث الفكرية المهتمة بمشكل المرأة بوثيرة جد سريعة إلى الحد الذي يجعل من الصعب جدا الإحاطة بها من كل جوانبها . لقد ساهم فيها عالم الاقتصاد و الفيلسوف و الفنان (مسرحي روائي و غيرهما) و السياسي و حتى القس، يجمعهم كلهم الايمان بضرورة تحرر المرأة، و كذا الارتباط القوي بين التقدم الاجتماعي و مسيرة المرأة نحو الحرية و بالتالي اسهامها في صناعة التقدم و التنمية إلى جانب الرجل .
و بالرغم من الصدى الذي كان لكل هذه الأحداث، فإن البنيات الأساسية للمجتمع الغربي آنذاك (أي خلال القرن الثامن عشر و التاسع عشر) لم تكن قد نضجت بعد بالشكل الذي يستجيب لطموحات النساء و النسائيين،أي بالشكل الذي يسمح بتبنين جديد للهياكل الاجتماعية يكون للمرأة فيها موقع المواطن الفاعل، الحاضر و المشارك في مختلف مستويات الحياة الاجتماعية، فإذا كان Poullain de la Barre قد دافع عن المساواة بين الجنسين منذ نهاية القرن الثامن عشر كما رأينا سابقا، فإن الثورة الفرنسية ستبدو أقل انفتاحا اتجاه المسالة النسائية، إذ باستثناء Condorcet، كان كل الدستوريين معارضين لحق المرأة في التصويت خلال الانتخابات . و بالفعل، لم يعترف دستور 1789 بهذا الحق عند اعلانه . و تؤكد Adler Laure أنهم كانوا ناذرين أولئك الرجال الذين ساندوا النساء و حقهم في أن يصبحن مواطنات بالكامل، و أن Condorcet كان الأكثر تألقا من بينهم، إذ منذ ثالث يوليوز 1970 و في العدد الخامس من “جريدة المجتمع 1789” ( Journal de la.société de 1989 )، وضع مشكل انتماء النساء للجماعة المدنية، و عظم Prôner)) المساواة في الحقوق كأساس موحد للمؤسسات السياسية . أما استثناء النساء فينتمي إلى موقف غير مبرر ثقافيا، و غير قابل للتبرير أخلاقيا .
و كرد على إعلان حقوق الانسان و المواطن لسنة 1789، حررت Olympe de Gouges عام 1791 إعلان حقوق المرأة و المواطنة، مدافعة عن الحقوق السياسية للنساء، و ملحة على أن القانون ملزم بعدم التمييز بين المواطنين و المواطنات مما يعني أن النساء يلزم أن يلجن كل الاماكن و كل المناصب و كل الوظائف العمومية، حسب قدراتهن و دون تمييزات إلا ما يخص فضيلتهن و مواهبهن. و قد فشلت Olympe de Gouges في نضالها من أجل الحقوق السياسية للنساء: حين تم اعتماد دستور 1792، لم تستفد النساء أيضا من حقهن في التصويت. و بعد ذلك بسنة تم إعدام Olympe de Gouges.مما يؤكد أن طريق المرأة بالمجتمعات الحديثة اليوم نحو التحرر كان شاقا و أن ثمن انعتاقها كان باهضا، و أن المرأة بالذات هي صانعة و منتزعة هذا الانعتاق .
2- المرأة بالمجتمع الحديث هي صانعة حاضرها:
تجمع معظم الدراسات المهتمة بتاريخ المرأة بالمجتمعات الحديثة على أن معركتها من اجل فرض نفسها كمواطنة (هذه المعركة التي لم تربح بعد بالكامل) تطلبت نضال المرأة ذاتها و تسخيرها لطاقاتها المادية الاخلاقية و الثقافية لولوج ساحة معركة حقيقية و على جبهات متنوعة . إنه صراع مرير صاحبته العديد من أشكال الحرمان و خيبة الأمل و المتاعب و المعاناة أيضا. لقد كانت النساء سباقات إلى التجمع يوم خامس أكتوبر 1789 قبل التوجه نحو فرساي،متبوعات – فيما بعد- بالحرس الوطني . و قد استولت نساء الشعب على الطريق و احدثت الاصطدامات التي تلت تلك التي شهدها شهر ماي 1793 . و هن أيضا اللائي سنصادفهن بين 20 و 23 ماي 1795، صانعات للحدث و محدثات لاضطرابات حقيقية حتى داخل نفوس الثوريين أنفسهم، هؤلاء الذين سارعوا إلى كبح جماح طموحات النساء بوضع نهاية لقبول طلبات هؤلاء للانخراط في الحرس الوطني، و إغلاق نوادي النساء في أكتوبر 1793 و اختيار دستور يحتكر فيه الرجال الحق في الاقتراع. و لابد من التذكير هنا مرة أخرى بإعدام Olympe de Gouges التي كانت لها الجرأة الكافية لكتابة إعلانها الشهير عن حقوق المرأة المواطنة، و هي مثال خالد على أن حركية قضية المرأة و حريتها و مواطنتها كان لها ثمن باهض أدته النساء أساسا .
و تلزم الإشارة إلى أن الدفاع عن حقوق المرأة ترافق – في الغالب- مع الدفاع عن كل المحرومين. فبالولايات المتحدة الأمريكية، ناضلت Sojourner Truth في بداية القرن التاسع عشر ضد الاستعباد و ضد المعارضين لحقوق النساء . و في 1848 نظمت Elizabeth Cady et Lueretia Mott أول جمعية تأسيسية لحقوق النساء. و خلال سنة 1866 أسست مجموعة من النساء كانت – Elizabeth Cady stanton من بينهن- : “Rights Association L’American Equal” التي كرست نفسها للدفاع عن حقوق كل من السود و النساء .إذ لا يمكن فصل حقوق النساء عن حقوق السود. و قد رفضت Flora tristan عزل قضية النساء عن قضية العمال في الاتحاد العمالي (L’Union Ouvrière) عام 1813 و كتبت ما يلي: إن الانسان الاكثر قهرا يمكنه ان يقهر كائنا هو زوجته”المرأة” التي هي بروليتاري البروليتاري(Prolétaire du prolétaire ). إنه نفس المنطق الذي يحكم الجنوب افريقية Frenne Ginwala حول التنمية، إذ تنطلق من نفس الفكرة القائلة بالارتباط القوي بين قضية النساء و قضية الفقراء، بين الرفع من وضعية النساء و التنمية، فهي ترفض أن تنظر إلى التحرر(النسائي) كمشكل اجتماعي يمكنه أن يكون معزولا بشكل من الاشكال عن الحقائق الاقتصادية و السياسية . و بالتالي ف”النضال من أجل حقوق النساء يندرج و يتأطر ضمن نضال أساسي بشكل أكبر من أجل تحرير سياسي و اقتصادي و اجتماعي أيضا”، و التنمية بهذا المعنى عند Frenne Ginwalaيلزمها أن تحول المجتمع لا وضعية النساء داخل المجتمع فقط .
و قد كانت المطالب النسائية في المجتمعات الحديثة اليوم متعددة، فإلى جانب الحقوق السياسية، فقد تركزت – في آن واحد أو بالتناوب – حول الحرية الجنسية، و الطلاق و التبية المشتركة للأطفال، و الأمومة الإدارية، و الرفع من أجور النساء…الخ . إنه الإصرار على خلخلة بنيات محددة و إقامة بنيات جديدة، خلخلة – بل تدمير– بنيات المجتمع التقليدي/ مجتمع القرون الوسطى و إقامة بنيات لمجتمع جديد هو المجتمع البورجوازي الحديث المعروف بالديمقراطية و الحرية و بالضبط، المشهور بكونه صرحا للمواطن و المواطنة و لدولة الحق و القانون الساهر على ضمان كرامة ذلك المواطن و تلك المواطنة .
و قد كانت إحدى أكبر مطالب النساء بالغرب و هو في أوج مرحلة تحولاته الجذرية لينفصل / ليتميز عن بقية العالم، هي مطالبتهن بالمساواة في التعليم . إذ من خلال التربية يمكن للنساء الإفلات من الدور التقليدي الذي كان مخصصا لهن بدرجة المطلق و هو دور ربة البت و الأم. و لم يكن من السهل تحقيق هذا المكسب (المساواة في التعليم) كمل تؤكد ذلك الحالة الفرنسية. فقد عارض نابولين بقوة “التربية العمومية للنساء” ، و نظم قانونGuizot لسنة 1833 التعليم الابتدائي و لكن هذا الأخير لم يخص البنات. و لم تفتح المدرسة لهن إلا مع قانون Falloux لسنة 1850 وقانون Duruy لسنة 1867 ولكن الأمر كان يتعلق بمدارس خاصة بالبنات. و قد اقترح قانون “See” لسنة 1880 تعليما خاصا بالأولاد و آخر خاصا بالبنات علما بأنه هو القانون الذي خلق الثانويات.
و قد كلف اجتياز باكالوريا موحدة بين الذكور و الإناث بفرنسا كفاحا مريرا أيضا. إذ لم تحصل أول فتاة فرنسية على الباكالوريا إلا عام 1861 بمدينة ليون. أما بباريس فكان ترشيح البنات قد رفض لعدة مرات. و في سنة 1919 تم تأسيس باكالوريا للإناث، و لم يتم توحيد البرامج كما لم يتم الاعتراف بمماثلة باكالوريا الذكور لباكالوريا الإناث إلا عام 1924. أما الاختلاط بين الجنسين بالتعليم الثانوي فلم يبدأ العمل به إلا عام 1950 . ألسنا هنا أمام إصرار لهذا المجتمع على إعادة البناء الاجتماعي المكرس لوضعية خاصة للمرأة، و بالتالي للامساواة بينها و بين الرجل؟ هذه الوضعية التي لا يمكن تصور اختراق لها بسهولة و بدون معاناة و بوضع منفعل للمرأة. يتعلق الأمر هنا بانبثاق للمرأة/المواطنة، بولادة عسيرة، تحت آلام مبرحة، بلغة الفلاسفة عند حديثهم عن ولادة الفلسفة و عن الشروط التي ينتج /يبدع فيها الفيلسوف فلسفته. لقد ولدت المرأة المتحررة بالغرب بفعل نسائي نضالي على مختلف الجبهات: السياسية و الفكرية و النقابية…، حرصت المرأة على أن تسمع في كل منها صوت امرأة جديدة رافضة لوظيفتها التقليدية و مكسّرة للتمثلات البالية عنها، و معلنة عن ولوجها الحياة العامة بكل أبعادها .
و قد كانت الشروط العامة للمجتمع الاوربي على الخصوص قد نضجت بالشكل الذي سمح لصوت المرأة الجديد بأن يجد صدى له على مستوى البنيات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، و أن يتفاعل ضمن منطق جدلي مع هذه البنيات (سنرى مثلا بأن التحولات الاقتصادية الكبرى التي شهدتها اوربا خلال القرنين الثامن عشر و التاسع عشر على الخصوص، و بالتالي الحاجة إلى ايدي عاملة إضافة (نسوية على الخصوص) مهدت و تطابقت مع بداية نحت و تكسير الاقتصاد الرمزي الذي يحكم العلاقات بين الجنسين و الموروث عن القرون الوسطى، ذلك الذي يجعل الرجل ذاتا و المرأة موضوعا بلغة عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو) .