المرأة في سوسيولوجيا العوامل الفاعلة (ديرار عبد السلام) ج4
اا- المرأة في المجتمع التقليدي: في سيرورة للتهميش و الاستغلال المضاعف
و الاقصاء:
تبين لنا سابقا أن المجتمعات التقليدية هي كل المجتمعات التي لم تكن مسرحا للأحداث و التحولات الكبرى و الجذرية التي شهدها القرن الثامن عشر على الخصوص و التي ترجع جذورها الأولى إلى القرن الخامس عشر. و هي الأحداث التي مست كل جوانب الحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية بالمجتمعات التي شهدتها، و التي أدت إلى ميلاد مجتمعات جديدة بكل معنى الكلمة. إنها المجتمعات الرأسمالية التي تختلف كلية عن المجتمعات الفيودالية. و قد باتت الرأسمالية تجر أوربا نحو انتشال إقليمي عصري، حر و ديمقراطي رائع يجده المهتمون بالتأريخ للفلسفة يحيل إلى المدن – الدول اليونانية بما اشتهرت به من ديمقراطية سياسية و ثقافية.
إن المجتمع التقليدي إذن، هو كل مجتمع استمرت بنياته في الاشتغال بنفس المنطق التقليدي الموروث عن القرون الوسطى و المكرس لقيم الماضي، خصوصا ما يتعلق منها بتلك التي تحكم علاقة الإنسان بالإنسان. فماذا عن شرط المرأة بهذا المجتمع؟
1- المرأة بالمجتمع التقليدي مورد اقتصادي هام غير منظور:
تشكل النساء بالمجتمعات التقليدية القوة الاقتصادية الأكثر حيوية، و لكن المنظورة بشكل أقل. فحضورهن عام و دائم داخل البيت، إذ غالبا ما تربط ثقافة المجتمع التقليدي ربطا لا يقبل الجدل بين المرأة و أشغال البيت (ينطبق ذلك بدرجة كبيرة على المجتمع المغربي بشكل عام و على قراه بشكل خاص، كما يمكن لكل ملاحظة عادية رصده عاريا تماما ). ثم إن النساء يشكلن بهذه المجتمعات القوة الأساسية لمكافحة البؤس و التخلف، ففي دراسة لمنظمة الأمم المتحدة للتغذية و الزراعة تبين أن 77% من البيوت تديرها النساء باللوسوطو، و 40% بسيراليوني و 30 % بمالاوي، و 21 % بماليزيا و 19% بسيريلانكا و17% باندونيسيا
و 34 % بالجماييك و 23% بالبيرو و 22 % بالهندوراس و 15% بالمغرب و 14% بسوريا…إلخ.(1)، و هذه أرقام جد دالة على جسامة المسؤولية الاقتصادية التي تتحملها المرأة بهذه المجتمعات. و تتضح الصورة أكثر حين نعرف أن النساء بإفريقيا مثلا ينتجن حوالي 80% من المنتوجات الغذائية (2)، و بالمجتمعات العربية بشكل عام، و بمجتمعات شمال إفريقيا بشكل خاص، يبقى حضور المرأة على المستوى الاقتصادي وازنا رغم الغموض و التدبدب الذي يكتنف الإحصائيات الرسمية. و إذا ما أدركنا طابع الإحصاءات كنتاج اجتماعي، تجنبنا استعمالها و كأنها صورة موضوعية محايدة و طبق الأصل عن الواقع الاقتصادي و الاجتماعي للمجتمعات المعنية. فالمسائل التي تتناولها الاحصاءات و المسائل التي تغفلها، و التعريفات المستخدمة للنشاط الاقتصادي و التوزيع المهني و الحالة الاجتماعية، و الطرق و الاساليب المعتمدة في القياس و في بناء المؤشرات، و المتغيرات المعتبرة و غير المعتبرة، كلها تساهم في جعل الإحصاءات أحد حقول انعكاس موازين القوى الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية داخل المجتمع “الموصوف” . و بهذا المعنى فهي إذن مؤشر مفيد عن تلك الموازين بقدر ما هي مقارنة كمية عددية “لوقائع” مادية تبدو بديهية(3).
و بالنسبة للمجتمع المغربي الذي يهمنا بالدرجة الاولى في هذا العمل، فإن حضور المرأة على الساحة الاقتصادية يعتبر مركزيا و على مستويات متعددة. و تؤكد الاحصائيات الرسمية (على علات منطقها الإحصائي و هفواتها المنهجية و تصوراتها المغلوطة عن “النشيط” و “غير النشيط”…) أن معدل نشاط المرأة المغربية و مساهمتها في الدورة الإنتاجية يسير في خط تصاعدي منذ الستينات، إذ انتقل من 6،9% عام 1960 إلى 8% عام 1971 ثم إلى 11،5% سنة 1982 (1). و إذا كان الخطاب الرسمي يؤكد “أن نسبة التزايد مهمة أكثر بالمجال الحضري منه بالمجال القروي” (2)، فإنه سرعان ما يستدرك ضمن خطاب غير واضح بأن الأمر على هذا النحو (أي أهمية تزايد نسبة النساء النشيطات بالعالم الحضري) “لأن المرأة القروية قد مارست دوما نشاطا اقتصاديا ضمن الاستغلالية العائلية”(3). و قد تأكد – حسب آخر دراسة وطنية حول السكان الحضريين النشيطين المنجزة عام 1988 أن معدل النشاط النسوي قد ارتفع إلى حوالي 16%، و أنه إذا أخذنا بعين الاعتبار السكان النشيطين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 سنة و أكثر، فإن هذه النسبة تصل إلى 23،7% (4)، مما يؤكد أن حضور و مساهمة المرأة في النشاط الاقتصادي أصبح ظاهرة فاعلة على مستوى التغير الاجتماعي الذي يعرفه المجتمع المغربي، بل ظاهرة حاملة لتغيرات كبرى داخل هذا المجتمع في اتجاه بعث ديناميكية فيه و تنميته، خصوصا حين يتعلق الأمر بنساء نشيطات شابات في الغالب (5). و يبدو حضور المرأة أكثر وضوحا بالعالم القروي، إذ خلال سنة 1991 نجد أن 40% من ضمن النشيطين بالوسط القروي نساء، كما أن النساء القرويات يمارسن نشاطا مزدوجا لأنهن يقمن بالأعباء المنزلية و يشتغلن في الحقول. و غالبا ما يكون نشاطهن خارج البيت مندرجا في إطار الخدمات العائلية بما أن 8 من ضمن 10 نساء نشيطات هن مساعدات عائلية…و عموما هناك صعوبة التمييز بين النشاط المنزلي و النشاط الاقتصادي (6). إنه حضور قوي للمرأة المغربية على مستوى النشاط الاقتصادي، إنتاجا و تسييرا و تنظيما و تدبيرا لاستهلاك المواد الضرورية لعيش المجموعة (العائلية). إلا أنه حضور لا يجد صداه في الحسابات الرسمية، إذ يتفرد الكثير من الإحصائيين و الاقتصاديين العرب بموقف بادي التعسف إزاء عمل النساء. نفاجأ بأن الإحصائيين العرب ينظرون إلى النساء و يصنفون أغلبيتهن الساحقة في الفئة غير العاملة. و على مستوى القارة الإفريقية فإن الاحصائيين الأفارقة (ساحل العاج، ملغاشيا، بنين، إفريقيا الوسطى، غامبيا، ليبيريا، مالي…) يقدرون معدل نشاط المرأة بأكثر من 40%ن بينما يقدر احصائيو افريقيا العربية معدل عمل المرأة بأقل من 8% (الجزائر:2%، المغرب:8%، تونس:4%، ليبيا:3%، مصر:5%)(1). و المرأة العاملة في المنطق الرسمي هي التي تعمل في القطاع العصري للإنتاج، و في مؤسسات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، إنها فئة جديدة من النساء لم تكن موجودة قبل الحرب العالمية الثانية و ظهرت بعد الاستقلال، أي طبقة نسوية خاصة… أما العمل اليدوي الذي تقوم به المرأة البدوية أو المرأة الفقيرة فهو غير معترف به. و من هنا يمكننا فهم العمى الذي يصطنعه المخططون و كذا التقنوقراطيون إزاء العمل اليدوي النسوي كما تدل على ذلك الإحصاءات و مخططات التنمية(2).
2– المرأة بالمجتمع التقليدي أكثر تعرضا للفقر:
إذا كانت النسا فاعلات أساسيات في الحياة الاقتصادية للمجتمعات التقليدية كما اتضح لنا سابقا، فإنهن الأكثر تعرضا للفقر و تبعاته بهذه المجتمعات. و إذا كان الفقر ظاهرة تمس شرائح عريضة بالمجتمعات الافريقية و السيوية و الأمريكو- لاتينية من بين المجموعات التي يمسها الفقر، تعتبر النساء على رأس قائمة هذه المجموعات لأنهن الأقل حظا فيما يخص الوصول إلى الغذاء و الصحة و التربية و الخدمات الأخرى. و تصاحب الفقر شرور مرتبطة به:سوء التغذية، عدد مرتفع من الأطفال، أمية و حالة صحية سيئة(1).
و الملاحظ أن الأرقام المعبرة عن فقر النساء عبر العالم ككل تثير الفزع: أكثر من 900 مليون امرأة يعشن تحت عتبة الفقر. و إذا كان الفقر عند الذكور قد ارتفع بنسبة 30% منذ 1970، فإنه ارتفع عند النساء بنسبة 50%(2). إلا أنه إذا أخذنا بعين الاعتبار ما توفره المجتمعات الحديثة المهيكلة من آليات للتحكم في هذه الظاهرة و الحد من آثارها ضمن دولة الحق و القانون (التعويض عن البطالة، آليات التضامن العقلاني المهيكل…)، يتأكد أن تلك الأرقام الباعثة للفزع إنما تخص المجتمعات التقليدية أساسا لأن المرأة هنا محرومة من الأرض في الغالب نتيجة التقاليد و العراف و كذا القوانين المنظمة لحيازتها و توزيعها، ثم إنما مقصية من إمكانيات الحصول على القروض التي تخصص للفلاحين و الصناع التقليديين، هذا في الوقت الذي يعترف فيه بأن المرأة أكثر وفاء بديونها من الرجل و أن قدرتها على التوفير أكبر بكثير من قدرته. كما أن النساء لا يمثلن سوى نسبة ضئيلة جدا داخل نظام التعاونيات الزراعية…(3). و هي كلها عوامل تتداخل فيما بينها لتشرط وضعية النساء بمجتمعات العالم
الثالث و تجعل منهن الشريحة الأكثر تعرضا للفقر و تبعاته. و هي المجتمعات التي يسيطر فيها الرجال بشكل شبه كلي، هنا حيث نذرة المواد الغذائية، و سيادة أنماط مختلفة للعنف، و الكوارث الطبيعية،… فالنساء هن اللائي يعانين أكثر كلما كانت هناك معاناة(1).
إنها مفارقة فعلية و بكل معنى الكلمة: أن تشكل النساء أغلبية الفقراء و أن يكن هن اللائي ينتجن القسط الأوفر من المنتوجات الغذائية(2).
و تجدر ألإشارة هنا إلى أن التحليل العلمي لهذه الظاهرة يقتضي وضعها في إطارها الصحيح و ربطها بعواملها الفاعلة فيها، إذ أنها في الغالب نتجت عن ضغط الهيمنة الاستعمارية و آثارها على البنيات الأساسية للمجتمعات المستعمرة،و خصوصا على التنظيمات التقليدية و ما كان يحكمها من علاقات اجتماعية خاصة، و التي تعرضت للتخريب كأحد الأدوات الفعالة التي اعتمدها المعمر للتغلغل و لربط مصير المجتمعات الخاضعة بالمراكز الرأسمالية (سنفصل ذلك ضمن الفصل الثاني من هذا العمل فيما يخص المجتمع المغربي على الخصوص حتى نوضح آثر التدخل الاستعماري على البنيات الأساسية للمجتمع المغربي آنذاك، و موقع المرأة فيها).
أما المجتمعات المتقدمة، فإن تحولات كبرى قد غيرت المشهد الاجتماعي ككل و موقع المرأة فيه، خصوصا تحت تأثير العمل النقدي الجبار للحركة النسائية. و قد سار جنبا إلى جنب و ضع البديهيات التقليدية على نار السؤال و النقد مع التحولات العميقة التي شهدها شرط المرأة. و كان لارتفاع نسب ولوج التعليم الثانوي و العالي، و الانخراط في العمل المأجور، و عبره المجال العمومي، ثم خلق مسافة فاصلة مع المهام المنزلية و وظائف إعادة الإنتاج نتيجة اتساع دائرة استعمال موانع الحمل و تخفيض حجم العائلة…كان لكل ذلك آثاره الواضحة في تخلص المرأة من الفقر و إفلاتها من دائرة مغلقة تجعلها المعنية الوحيدة به و بتبعاته(1).و رغم كل تلك الإنجازات التي تحققت للمرأة بالمجتمعات المتقدمة، فإن باحثة اجتماعية مثل ماري فيكتوار (Marie Victoire) لا تتردد في التأكيد على”أن هذا التضليل الثقافي و السياسي للقرن العشرين يريد أن يجعلنا نعتقد أن العالمية المعلنة لمبادئ حقوق الإنسان تشمل حقوق المرأة أيضا”(2).