المقالاتغير مصنف

المرجعية النهائية، المتجاوزة والكامنة (عبد الوهاب المسيري)

كلمة «مرجع» من «رجع» بمعنى «عاد» . يُقال «رجع فلان من سفره» أي «عاد منه» ، و «المرجع» هو «محل الرجوع» وهو «الأصل» . وفي التنزيل العزيز “إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون” (المائدة ١٠٥) . ومن هنا كلمة «مرجعية» التي تعني الفكرة الجوهرية التي تشكل أساس كل الأفكار في نموذج معين والركيزة النهائية الثابتة له التي لا يمكن أن تقوم رؤية العالم دونها (فهي ميتافيزيقا النموذج) . والمبدأ الواحد الذي تُردّ إليه كل الأشياء وتُنسَب إليه ولا يُردّ هو أو يُنسَب إليها. ومن هنا، يمكن القول بأن المرجعية هي المطلق المكتفي بذاته الذي يتجاوز كل الأفراد والأشياء والظواهر وهو الذي يمنح العالم تماسكه ونظامه ومعناه ويحدد حلاله وحرامه. وعادةً ما نتحدث عن المرجعية النهائية باعتبار أنها أعلى مستويات التجريد، تتجاوز كل شيء ولا يتجاوزها شيء. ويمكننا الحديث عن مرجعيتين: مرجعية نهائية متجاوزة ومرجعية نهائية كامنة.

١ ـ المرجعية النهائية المتجاوزة:

المرجعية النهائية يمكن أن تكون نقطة خارج عالم الطبيعة متجاوزة لها وهي ما نسميها «المرجعية المتجاوزة» (للطبيعة والتاريخ والإنسان) . هذه النقطة المرجعية المتجاوزة، في النظم التوحيدية، هي الإله الواحد المنزَّه عن الطبيعية والتاريخ، الذي يحركهما ولا يحل فيهما ولا يمكن أن يُردَّ إليهما. ووجوده هو ضمان أن المسافة التي تفصل الإنسان عن الطبيعة لن تُختَزل ولن تُلغى. فالإنسان قد خلقه الله ونفخ فيه من روحه وكرَّمه واستأمنه على العالم واستخلفه فيه، أي أن الإنسان أصبح في مركز الكون بعد أن حمل عبء الأمانة والاستخلاف. كل هذا يعني أن الإنسان يحوي داخله بشكل مطلق الرغبة في التجاوز ورفض الذوبان في الطبيعة، ولذا فهو يظل مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي. كما أنه يعني أن إنسانية الإنسان وجوهره الإنساني مرتبط تمام الارتباط بالعنصر الرباني فيه. ومع هذا فبإمكان النظم الإنسانية الهيومانية (التي لا تعترف بالضرورة بوجود الإله) أن تجعل الإنسان مركز الكون المستقل القادر على تجاوزه ومن ثم تصبح له أسبقية على الطبيعة/المادة.

٢ ـ المرجعية النهائية الكامنة:

يمكن أن تكون المرجعية النهائية كامنة في العالم (الطبيعة أو الإنسان) ، ومن هنا تسميتنا لها بالمرجعية الكامنة. وفي إطار المرجعية الكامنة، يُنْظر للعالم باعتبار أنه يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللجوء إلى أي شيء خارج النظام الطبيعي. ولذا، لابد أن تسيطر الواحدية (المادية) ، وإن ظهرت ثنائيات فهي مؤقتة يتم محوها في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، ففي إطار المرجعية الكامنة لا يوجد سوى جوهر واحد في الكون، مادة واحدة يتكون منها كل شيء، وضمن ذلك المركز الكامن نفسه (ومن هنا إشارتنا أحياناً إلى «المرجعية النهائية الكامنة» باعتبارها «المرجعية الكامنة المادية» أو «المرجعية الواحدية المادية» ) . ونحن نذهب إلى أن كل النظم المادية تدور في إطار المرجعية الكامنة، ومن هنا إشارتنا إلى المادية باعتبارها وحدة الوجود المادية.

وفي إطار المرجعية المادية الكامنة، فإن الإنسان كائن طبيعي وليس مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي، وإنما هو مُستوعَب تماماً فيه، ويسقط تماماً في قبضة الصيرورة، فتسقط المرجعية الإنسانية وتصبح الطبيعة/المادة هي المرجعية الوحيدة النهائية.

ويذهب دعاة المرجعية المادية الكامنة إلى أن رغبة الإنسان في التجاوز رغبة غير طبيعية، ومن ثم غير إنسانية (باعتبار أن الطبيعي والإنساني مترادفان) ، وإلى أن الأجدر بالإنسان أن يذوب في الكل الطبيعي بحيث يظهر الإنسان الطبيعي. وبهذا المعنى، فإن المرجعية الكمونية المادية تشكل هجوماً على الإنسان ككيان حر مستقل عن الطبيعة/المادة وعلى مركزيته في الكون.

وقد وُصفت الوثنية بأنها محاولة إنزال الآلهة من السماء إلى الأرض (وإدخالها في نطاق المرجعية المادية الكامنة) بحيث تخضع لقوانين الأرض الطبيعية/المادية، ومن ثم يخضع الإنسان هو الآخر لهذه القوانين، إذ كيف يمكنه تجاوزها إذا كانت الآلهة نفسها خاضعة لها؛ مستوعَبة تماماً في الواحدية المادية الكونية؟ (والنزعة الوثنية لا تختلف في هذا عن النزعات العلمانية المادية الطبيعية التي ترجع كل شيء إلى الطبيعة/المادة وتنكر أي إمكانية للتجاوز الإنساني) . أما الديانات التوحيدية، فهي نوع من محاولة الصعود بالإنسان إلى الإله في السماء (وإدخاله في نطاق المرجعية المتجاوزة) . فالإنسان، بما فيه من رغبة في التجاوز، له قانون خاص ووجود مستقل عن المادة وعن الطبيعة. ومن ثم تُطرح أمام الإنسان إمكانية أن يعبِّر عما بداخله من طاقات غير مادية (ربانية إن شئت) ، وأن يتجاوز قوانين الطبيعة والمادة ويحقق القانون الإلهي (أو الجوهر الإنساني) المختلف عن القانون المادي الطبيعي.

الرد (رد إلى)

«ردَّ الشيء» أي «حوَّله من صفة إلى صفة» ، و «ردَّ الشيء إلى الشيء» «أرجعه إليه» . والرد في اصطلاح الفلاسفة إرجاع الشيء إلى ما نتصور أنه عناصر أساسية وتخليته من العناصر الغريبة عنه. كأن نقول “رد المذهب إلى نقاطه الأساسية”. وفي إطار المرجعية المادية الكامنة يتم رد كل الظواهر إلى المركز الكامن في الكون وهو الطبيعة/المادة وهو ما يؤدي إلى هيمنة الواحدية المادية، على عكس المرجعية المتجاوزة إذ لا يمكن رد الإنسان في كليته إلى شيء كامن في الكون، فهو يحوي داخله النزعة الربانية. وأية عملية تفسيرية تحليلية تتضمن عملية رد، إذ تُردَّ التفاصيل الكثيرة الظاهرة إلى الوحدة الكامنة غير الظاهرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق