المعارضة التركية والامتحان العسير(حسن العزاوي)
إذا كانت أحزاب المعارضة الستة المعلنة، أو الستة زائد واحد المضمرة قد تحالفت فيما بينها، فإن تحالفها- بعد أن كان متصدعا قبل انتخابات 14 ماي- فإنه زاد تصدعا بعد هذه الانتخابات. ذلك أن حسابات حزب الشعب الوصي على التحالف، وخاصة رئيسه كالجدار ودائرته المقربة ومعها عموم الغرب، كانت هي إبعاد الرئيس الحالي طيب رجب أردوغان عن المشهد السياسي التركي. في حين كانت حسابات الأحزاب المتحالفة الأخرى هو أساسا كسب ممثلين في البرلمان عن كل حزب، مع تلافي حاجز العتبة.
وبناء على حسابات كالجدار جاء التحالف في ظاهره كمن تحقق الإجماع حوله من قوميين ويساريين وإسلاميين، مع التعويل بشكل خفي على “الميميين” و”البكاكيين”. وهذا الخليط غير المتجانس، بل والمتناقض، هو ما جعل السيدة أكشينار-الرافضة أصلا لترشيح كالجدار- تنتفض وبسرعة طفا على سطح تحالف المعارضة خطاب “التخوين” و”الاستقالات” والأدهى والأمر اتهام الطاولة السداسية بأنها تحولت إلى “طاولة قمار تحت ظل الإرهاب” كما نقل عن مسؤول في حزب الجيد. أما وقد أُعلنت النتائج البرلمانية فإن قواعد الأحزاب المتحالفة مع الحزب الوصي أصبحت في حل من أمرها خلال الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية حتى وإن بقيت القيادات ظاهرةفي رأس الهرم.
لكن لابد من تسجيل أمر غريب تجلى في كون قادة الأحزاب الثلاثة المحافظة -حزب السعادة سليل الفكر الأربكاني، وحزب المستقبل ومعه حزب الديمقراطية والتقدم سليلا حزب العدالة والتنمية الحاكم- لم يحركوا ساكنا وحافظوا على انضباطهم أمام زعيم “الطاولة” السداسية لعلها تتحول إلى “مائدة” يغنمون منها مناصب برلمانية وربما سياسية طمعا في الوعود السائلة التي ما فتئ يطلقها كالجدار. لم يحتجوا وهم يسمعون ويرون طوق التصريحات الاستراتيجية من طرف الحزب راسم السياسات يلف أعناقهم، تصريحات تتناقض مع المبادئ والغايات التي سطرتها سياسات الدولة التركية الجديدة بقيادة أردوغان بمشاركة أحمد داوود أغلو وعلي بابجانقبل انسحابهما. وهذا ينطبق أيضا على حزب السعادة الذي يعتبر الأقرب لا سيما فيما يخص “السياسة الخارجية وقضايا الاستقلال الوطني” حسب المراقبين.
التصريح الأول: التراجع عن العمق التاريخي لتركيا المتعلق بجيرانها في الخليج والعالم العربي، خصوصا وأن هذا الأخير يعتبر حلقة وصْلٍ مع أفريقيا؛
التصريح الثاني: التركيز على إبعاد اللاجئين السوريين، واستغلالهم ورقة انتخابية. هذا من شأنه تفسير تهرب الاتحاد الأوروبي وحليفته أمريكا من التعاون مع حكومة أردوغان في هذا الملف، سواء برفضهم إحداث منطقة آمنة كما اقترحتها تركيا للحد من دخول اللاجئين، أو بعدم تقديم المساعدات الكافية لهم تخفيفا عن الميزانية التركية. وفي هذا إصرار على صب الزيت على أزمة اجتماعية يراد لها أن تقدم للمعارضة لتوظيفها انتخابيا، بعد أن أجرت عليها مجموعة تسخينات لتبريزها في السابق. والأمر يتضح أكثر مع أحد مسؤولي المعارضة حين يعِدُ بأن وصول كالجدار إلى الحكم سيجعله “يتقاسم عبء إعادة اللاجئين السوريين مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة”؛
التصريح الثالث:”تعميق علاقات تركيا الدفاعية مع “إسرائيل” وأوروبا”. هذا مع العلم أن الصناعات الدفاعية التركية حاليا هي وليدة خبرات محلية خالصة، وقد اشتد عودها وشبَّت عن الطوق، حققت بها تركيا الجديدة استقلالها العسكري بشكل جد متقدم، فضلا عن كونها مكنتها من مراقبة حدودها بأداء مبهر، ثم إخما د مجموعة من التوترات سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، ومن نافلة القول فإن الصناعات الدفاعية تعتبر من أسرار الدولة فكيف يقبل إفشاؤها؟
التصريح الرابع: الارتماء في أحضان الغرب بالكلية، كقول أحد مستشاري كالجدار: “سنذكر روسيا أن تركيا دولة أطلسية”. ولعل هذا يعكس قصر النظر فيما يتعلق بالنظام العالمي الذي هو آخذ في التحول إلى نظام متعدد الأقطاب، وهو ما يؤكد فرضية أحد المتخصصين في الشأن التركي من أن يكون كالجدار ومن معه “ضحية مشروع أمريكي جديد بعدما خسرت واشنطن المنطقة برمتها”.
خلاصة:
إن ما ذكرناه، بالإضافة إلى الحملة الإعلامية والسياسيةالغربية المناصرة لكالجدار
والطاعنة في رئيس تركيا الحالي أردوغان، ليعبر بوضوح تام عن استهداف
ما حققته تركيا في العشرين سنة الأخيرة من استقلال في قرارها السياسي، ونموها الاقتصادي، وتطورها الصناعي المدني والعسكري، وانفتاحها العالمي، وصلحها مع تاريخها وقيمها الحضارية الأصيلة.
فإذا كانت بعض الرموز في الداخل التركي تساير هذا الاستهداف الخطير، عن وعي أو عن غير وعي، فإن على الأحزاب الثلاثة المحافظة، قيادات وقواعد، أن تراجع مواقفها بعيدا عن العناد السياسي الذي أكسبها ضعفا بعد قوة ، مراجعة واعية تخدم تركيا المستقلة وتحميها من كل الأطماع، مراجعة تؤجل الاختلاف إلى حين نضوج الشروط لتعود المياه إلى مجاريها كما هو أمل مئات الملايين من المسلمين وغيرهم من خارج تركيا.