المعرفة والكتب: شيخ ومريد.. أم ثقة في أذواق؟(عبد الهادي المهادي)
(1)
سألني صديقٌ عزيزٌ قائلا:
هل يصوغ، وتحت أي ظرف ولأي سبب كان، أن ننصح الناس بعدم قراءة كتب معينة أو الاكتفاء بكتب من نوع معين؟
والسؤال ـ كما ترون ـ يشي بأن صديقي سبق له وأن مرّ من تجربة سيئة في هذا المجال.
لهذا ألحُّ أن ننسى مثل هذه التجارب، وأن لا نُشَخْصِنَ النقاش، لأن مداخلَ الموضوعِ ومخارجَه احتمالاتٌ عديدة.
البداية بالسؤال في حد ذاته، فهناك صيغ مختلفة بحساسيات مختلفة:
ـ هل يحق لأحد أن يفرض عليّ نوع مقروآتي؟
ـ هل يحق لأحد أن يوجّه مقروآتي؟
ـ هل أستمع لتوجيهات من أثق في ذوقهم، وألتزم باختياراتهم؟ وما حدود ذلك؟
(2)
لا ينبغي لنا ذلك، ولكن مقتضى الحوار يفرض علينا أولا أن نخلي من الطريق منطقا يصعب على أهل الزمان استيعابه والامتثال لمتطلباته؛ وأقصد منطق “الشيخ والمريد”، وإن كان عندي معتبرا في هذا المقام.
هذا المنطق يقتضي من الإنسان المبتدئ في عالم القراءة أن يكون تلميذا مطواعا لمن قطعوا أشواطا في العلم والمعرفة، وأن يستشيرهم، ويلتزم بنصائحهم، في انتظار أن “يرتقي في مقامات القراءة”. الشرط هنا: أن تثق في أذواقهم.
ومرجعنا هنا تجربة الإمام الغزالي؛ فعندما أصابته أزمة روحية، واقتنع بضرورة تغيير مسلكه في التعامل مع الله عز وجل ونفسه وعلمه والعالم، تتلمذ على معلّم، كان من أوّل ما أمره به أن يفك الارتباط النفسي والروحي مع معارفه السابقة، وأن يطلّق كتبه، بل وأكثر من ذلك: أمره أن يتوقف عن قراءة القرآن الكريم !!! سيضج العالم استنكارا: أوَ أَمَرَهُ بذلك … !! نعم.. والغزالي التزم، ولن يستطيع أحد أبدا أن يزايد على الغزالي في دينه؛ فهو الفقيه، والأصولي، والمتكلم، والفيلسوف… وقل ما شئت من الألقاب ولن تبالغ. وإني على يقين تام بأنه لو لم يلتزم الغزالي بما أمره به شيخه لما كتب “إحياء علوم الدين” و”المنقذ من الضلال”، ولَبحث العقلانيون العرب ـ من ثَمَّ ـ عن مشجب غيره يحمّلونه مسؤولية تعطل العقل العربي وتأخره.. !!
تجربتي مريرة مع بعض الناس، ومنهم أصدقاء؛ حاولت معهم مرارا، ووجهتم تكرارا، فلم أتلق في أغلب الأحيان إلا الصدّ؛ حالهم كان يصفعني قائلا: “طريقي أعرفها جيدا”… فتركتُ الخلق للخالق.
أما من جهة تَلمذتي؛ فأفضال أصدقائي عليّ لا يحصيها العد؛ فكم من مجال معرفي لم أكن أطيق فتح كتبه، وكم من تحف معرفية وعلمية كانت غائبة عن بالي، وكم من رواية استمتعتُ بجمالياتها، وكم من مفكر لم أكن أعرف حتى اسمه … وكم وكم !! تعلمتُ أن العلم يؤخذ صغيره قبل كبيره، هذا أولا، ثم لا بد من موجّه حتى لا نتيه في دروبه المتشعبة.
(3)
ونحن نخاطب الكبار، نقول: مبدئيا، لا يحق لأي كان، وتحت أي سبب أن يفرض عليك قراءة كتاب أو مجال معرفي، أو منعك من قراءة آخر. وحتى لو فعل فمن كامل حقك أن لا تلتزم. ولك بعد ذلك اختيارك في التعبير عن هذا الرفض: إما بالمداراة أو بالوضوح التام.
بعض من يضع نفسه موضع الأستاذ (والحديث هنا إذا كان من أهل الميدان: تربويا ومعرفيا، وليس لمجرد ممارس المشيخة) يعزّ عليه أنا يرى من يعتبره في مقام التلمذة يتيه بين شعاب الكتب، فيحاول بشتى الطرق أن يثنيه عن قراءة كتاب، أو يلحّ عليه في قراءة آخر، وقد ضربتُ بذلك مثالا: كتب محي الدين ابن عربي؛ فقد تشتت في فهمها العقول الكبيرة، فكيف سيكون معها حال المبتدئ؟
المشكلة العظمى تقع داخل التيارات الفكرية والسياسية والحركية؛ فبعض مسؤوليها والقائمين على شؤونها يحاولون أن يحصروا مقروآت الأعضاء في كتابات مُنظّر الجماعة، ومفكّر الحزب، وكتّاب المدرسة والتيار… وإن توسّعوا فينصحون بمكتوبات الأشباه والنظائر… وهذا ـ لعمري ـ هو عين الخطأ.
التوجيه مطلوب، ولكن التعصّب والتحجير على عقول الناس ممجوج مرفوض.