المقاومة الفكرية لتحرير المسجد الأقصى (علي زلماط)
تدل كلمة المقاومة على معنى اعتراض على إرادة شخص أو أشخاص كثر، وعدم التسليم بمقاصدهم. وهو معنى يحمل في طياته القوة والرد بالقوة، حيث الاعتراض وعدم التسليم بما يرنو إليه من خلال عدوانه، لا يكون إلا بالقوة. إذ تكون هذه المقاومة في الغالب مقاومة جسدية، وكما تكون أيضا، وحسب الظروف والممكن والمتاح، مقاومة ثقافية فكرية وحتى سياسية، وذلك حينما ترتبط المقاومة برد عدوان استعماري احتلالي، كان يهدف إلى استذلال المستعمَرين واضطهادهم، بل ونفيهم قطعا عن أرضهم وجلائهم. لأن؛ وفي حالة اختلال توازن القوة بين المستعمر المحتل والوطني المقاوم، بتفوق الأول عسكريا وتكتيكيا وعجز الثاني عن مواصلة المقاومة مؤقتا وربما لظروف ترتبط بإعادة ترتيب أوراق المقاومة، تتغير حركة جبهات المقاومة تكتيكيا وحسب الممكن نحو اللجوء إلى أساليب أخرى لمقاومة المحتل، ريثما تسترجع المقاومة قوتها العسكرية أو تطورها، وحتى لا تموت فكرة المقاومة ومن ثم الاستسلام لأمر الواقع، حيث تلجأ الأطراف المعنية إلى تبني أشكال أخرى من المقاومة، تكون موازية للعمل العسكري، إذا ما استمر، والتي تتمثل في المقاومة السياسية والثقافية والفكرية والفني، تكمن المقاومة السياسية في التعريف بالقضية في مختلف المحافل السياسية الدولية، والبحث عن الداعمين لأطروحة التحرر، على المستوى الحكوماتي، وعلى مستوى المجتمع المدني، والكيانات السياسية غير الحكومية، القادرة على تشكيل قوة ضغط، للدفع بالملف نحو تبنيه عالميا، وهي مهمة تتطلب حنكة سياسية للغاية. أما المقاومة الفنية والثقافية بشكل عام فإن معالمها تتجلى في إبداعات الفنانين على مختلف مشاربهم وتخصصاتهم الفنية في سبيل الدعوة إلى التحرر ومقاومة المحتل إما غناء أو مسرحا أو شعرا أو رسما أو فيلما أو سينمائيا أو غير ذلك….أما على المستوى الفكري، فتلك قضية أخرى، إذ مكانها الجامعات والمعاهد الأكاديمية ومراكز الأبحاث والدراسات، وهي المسئولة عن تأطير وتكوين مفكري المستقبل، وهي المسئولة أيضا عن الانتاج الفكري، الذي يراد منه الإسهام في تحضر الشعب وتطويره، والأخذ بيده نحو مصاف التقدم والتحضر، وفي علاقة هذه المؤسسات بالمقاومة فالمهمة الموكولة إليها هي بيان وتوضيح زيف ادعاء المستعمر المحتل، وخاصة إذا كانت أطروحته الاستعمارية، أطروحة استيطانية، تتأسس على أساس الدين أو التفوق العرقي أو الأحقية التاريخية.
والاستكبار الإسرائيلي الصهيوني واحتلاله للأراضي الفلسطينية، يختلف عن أشكال الاحتلال التي عانت منها الشعوب الأخرى، والتي كانت تتميز بتوسيع رقعة النفوذ، والرغبة في الاستفادة من موارد هذه الأراضي، وجعلها سوقا لمنتجاتها، فيكون احتلالها احتلالا عسكريا صرفا، بينما هذا الاحتلال هو احتلال إحلالي استيطاني، يستند في مشروعه هذا على تصور ديني وعلى عقيدة دينية ممثلة في عقيدة أرض الميعاد، أي الأرض التي وعدوا بها من قبل النبي إبراهيم عليه السلام، فطردوا وأخرجوا منها، من جهة أخرى هو حلقة وصل وامتداد للإمبريالية الغربية التي ما فتئت تخرج من أراضي المسلمين إلا وهي معدة لعنصر دخيل يربك حسابات الأمة، تنشغل به عن قضية الاتحاد والوحدة، فهو بذاك لا يعبر سوى عن وجه الصراع الحضاري غير المباشر بين الحضارتين الغربية والشرقية (الإسلامية). ومن جهة أخرى أيضا جاء هذا الكيان إلى الوجود بعد أن استغل أيما استغلال التحول السياسي والديني والعقائدي في الغرب تجاه اليهود واليهودية، فاستثمر دعاته هذه الأوضاع لصالح الأطروحة السياسية الصهيونية، والتي ظهرت مع مؤسس الصهيونية “تيودور هيرتزل”، الذي أصبغ على دعوة إنشاء وطن قومي لليهود، صبغة دينية عقائدية، من أجل إقناع اليهود واستمالتهم، والتي تقول بضرورة عودة الشعب الإسرائيلي إلى أرض الميعاد، الأرض المقدسة حيث هيكل سليمان بمدينة أورشليم، الذي خرب أكثر من مرة، آخرها كان سنة 70 للميلاد علي يد الإمبراطور الروماني “تيطس”، ومن أجل نزول المسيح للمرة الثانية، وهي عقيدة تتوافق وعقيدة البروتستانت من المسيحيين، الذين يعتقدون من شرط نزول المسيح للمرة الثانية قيام دولة إسرائيل، وإفسادها في الأرض من أجل تعجيل ظهوره، قياسا على المرحلة التاريخية (حسب الرواية الإنجيلية) التي ظهر فيها السيد المسيح، مما حدا بآباء الصهيونية اليهودية استغلال هذا التصور العقدي، الذي يسيطر على المجتمع الأمريكي والبريطاني، وخاصة الساسة منهم، من أجل مشروعها الاستكباري التخريبي بمنطقة الشرق الأوسط.
إن الكيان الصهيوني كيان قائم على نصوص دينية تزعم أحقية وجود الشعب الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، وملكية مدينة القدس والمسجد الأقصى، حيث أنقاض هيكل النبي سليمان عليه السلام، حسب زعمهم، وهي عقيدة راسخة؛ وظفوا في سبيلها النص التوراتي المحرف والوضع السياسي والاجتماعي الذي كان يعيشه اليهود، ضمن المجتمعات الأوربية لقرون خلت حتى غدت تشكل الحركة الصهيونية.
فهذه العقيدة تعتبر مدينة القدس، أورشليم بلغتهم، عاصمة الأبد لدولة إسرائيل، ومحور وجودها، بل لا يمكن تصور قيام دولة إسرائيل من غير مدينة أورشليم (مدينة القدس)، ولا مدينة أورشليم من غير الهيكل، وهكذا فبناء الهيكل مرتبط بقيام دولة اليهود واستحكام السيطرة، وعلامة قيام الدولة اليهودية هو بناء الهيكل على أنقاض مسجد الأقصى، أو إعادة بنائه كما يزعمون، وهذا يفيد أن المعركة لا تزال مستمرة ولم تتوقف بعد ولن تتوقف حتى يحكموا السيطرة الكاملة على مدينة القدس (أورشليم) والأقصى بالخصوص، ومن ثم هدمه وبناء الهيكل، ولن تتوقف المعركة أيضا إلا بعد إعادة بناء إسرائيل الكبرى، التي تمتد على طول الأراضي الموعودة، والتي تشمل ما بين نهري النيل المصري والفرات العراقي، بمعنى آخر أنهم يعملون على تنزيل نصوص التوراة المحرفة على أرض الواقع، وفي سبيل ذلك يجندون حتى الأطفال عقائديا، بتلقينهم بالمدارس العقيدة التالية “ها إريتس إسرائيل منيل لفرات” “أرض إسرائيل من النيل حتى الفرات”، وقد وظفوا في سبيل ذلك أيضا الأبحاث التاريخية وبعض نتائج الحفريات (الأركيولوجية)، ومراكز الأبحاث والدراسات المنتشرة بمختلف دول العالم المتقدم، بما في ذلك الجامعات العالمية، والإعلام بمختلف أنواعه، كل ذلك من أجل تزوير الحقائق التاريخية وتقديمها على أساس حقائق لا تقبل الشك، وأن الحق معهم وأن هذه الأرض أرضهم منذ أزيد 3000 ألف سنة، فقط أنهم طردوا منها، كما استغلوا قانون معاداة السامية لكبح ومضايقة وتهميش كل من يحاول كشف زيفهم بالدول الغربية.
إذن فوظيفة العلماء وأهل الفكر من المفكرين والأساتذة والباحثين هي كشف زيف هذا الادعاء على مستويات عدة، وبشكل رسمي ومنظم، ذلك أنه إذا كانت المقاومة العسكرية تتطلب عملا جماعيا ومحكم التنظيم، فإن المقاومة الفكرية هي الأخرى تتطلب العمل الجماعي والتنظيم والمحكم، حتى لا تذهب جهود المفكرين سدى، وحتى يكون العمل واضحا، فكما يعمل الكيان بشكل منظم عبر مختلف مراكز الأبحاث لإقناع الرأي الدولي وبالأخص الساسة والطبقة المثقفة بأطروحته الإحلالية، كذلك نحن معشر أهل الفكر في حاجة إلى التنظيم، والاستمرارية، بمختلف الجامعات ومعاهد العالم الإسلامي، سواء من حيث التأطير أو من حيث النشر أو من حيث الندوات والملتقيات أو من حيث المادة العلمية التي ينبغي تدريسها للطلاب، حتى يكون الطالب على علم بقضية جوهرية تهم الأمة بأكملها وليس العرب فقط، لأن طالب اليوم هو المسئول غدا في مجتمعه، وهكذا وبالاستمرارية يأتي ذاك الجيل الذي سيحرر القدس، وتكون الأمة مستعدة للتضحية في سبيل هذا العمل الشريف، ولنا في التاريخ عبرة، حيث أسهم الشيخ عبد القادر الجيلاني وشيخ الإسلام ابن تيمية وحجة الإسلام إمام أبو حامد الغزالي في تكوين جيل صلاح الدين الأيوبي، الذي حرر المسجد الأقصى من قبضة الإفرنج، فلم لا يكون لنا مثل هذا الاستشراف؟ وأصر على أن العمل ينبغي أن يكون على مستوى الأمة الإسلامية كلها، لأن المسجد الأقصى والقدس وقف إسلامي، ولأن القدس أولى القبلتين، فلا يمكن عقلا وشرعا، أن نضيق القضية في خانة العرب وفي خانة الصراع العربي الإسرائيلي، وإني أرى أن القومية العربية ما زادت القضية إلا انتكاسة على المستوى العربي، وذلك مرمى الكيان الصهيوني نجح فيها، إلى أن أصبحت القضية قضية شعب فلسطين، وأن الصراع هو صراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وقولنا بضرورة العمل الجماعي، ينطلق من أهميته وفوائده، فبدل أن ينشغل كل باحث بقضايا متعددة طيلة حياته، وربما لن ينجز إلا البعض منها، تنجز هذه القضايا كلها في وقت وجيز بالعمل الجماعي، حيث كل باحث يهتم بقضية أو بجزئية معينة، وهكذا حتى على مستوى القضية التي نحن بصدد الكتابة من أجلها، وبهذا تجاوزنا الكيان الصهيوني والغرب المسيحي، إذ إنهم يشجعون هذا النمط من العمل الأكاديمي، ومراكز الأبحاث والدراسات خير دليل على ذلك، شخصيا قد سبق لي أن طرحت على زملائي الباحثين فكرة عمل أكاديمي مشترك، يضم باحثين متخصصين في مجالات علمية مختلفة، يتناولون قضية القدس كل من زاويته المعرفية، فلم أجد سوى التنويه والتشجيع، دون الإشراك معتذرين، لكونه مشروعا كبيرا له تأثيرات سياسية، ولكونه أيضا مشروعا يتطلب دعما ماليا، ولا زال هذا المشروع قائما، ولا زلت أحتفظ به، وإن أثيرت بعض قضاياه فقهيا بعد توقيع صفقة القرن، وتوقيع اتفاقية السلام والتطبيع بين الإمارات والكيان، إيمانا مني بأهمية العمل الجماعي في مثل هذه القضايا.
وهذا لا يدفعنا بالضرورة إلى إنكار هذه الجهود الفردية، بل نثمنها، بل هي نبراس لنا في أي عمل مشترك وجماعي في المستقبل، فقد أجهد هؤلاء المفكرون والباحثون أنفسهم وعلى مختلف تخصصاتهم في سبيل الدفاع عن قضية القدس، إذ تنوعت دراساتهم بين دراسات تاريخية، ودراسات نقدية للنص الديني اليهودي، التوراة بالخصوص، وبين دراسات أركيولوجية حفرية. كل هذه الدراسات تثبت زيف الادعاء الصهيوني، والتي يمكن إجمال أهم ما توصلت إليه في النقط الآتية:
1: إن ما يعرف بالتوراة الآن، والتي يعتمد عليها الكيان الصهيوني في أطروحته السياسية الإحلالية الاستيطانية، قد تم تدوينها بعد موسى عليه السلام، بحوالي عشرة قرون على الأقل، ببلاط الإمبراطورية الأخمينية (إيران حاليا). ويؤكد الباحثون المدققون على ضرورة التفريق بين بني إسرائيل؛ القبائل التي بعث إليها النبي موسى عليه السلام، وبين اليهود، الذين لم يشتهروا بهذا الاسم إلا إبان الحكم الأخميني، وبالضبط مابين القرنين الثامن والخامس قبل الميلاد، إضافة إلى كون أغلب يهود اليوم من أصل خزري، من قبائل آسيا الوسطى.
2: التأكيد على فلسطينية القدس من حيث التاريخ، جاء بناء على الكتابات التاريخية القديمة، أهمها “تاريخ هيرودوت”، المؤرخ اليوناني الذي عاش ما بين 483 و425 قبل الميلاد، والذي ذكر في تاريخيه مدينة القدس تحت اسم “كاديتس”، وأوضح أن هذه البلدة كانت بلدة سورية كبيرة على مقربة من “مجدولوس” أي “تل المتسلم”. وبين حينما كان يتحدث عن التقسيمات الإدارية للإمبراطورية الإخمينية الفارسية أن المنطقة الساحلية التي امتدت من سورية حتى مصر شكلت مقاطعة إدارية ضمت كل المدن الفينيقية، وذلك الجزء من سورية الذي يعرف باسم فلسطين، وهو إشارة وتأكيد على أن في المائة الخمسة قبل الميلاد لم تكن مقاطعة اليهود قد ظهرت بعد إلى الوجود.
3: الاعتقاد بأن القدس ليست هي أورشليم التوراتية، إنما هو استنتاج دارسي نصوص التوراة، وبالأخص النصوص التي تتحدث وتصف أورشليم، دراسة جغرافية متفحصة، والتي توصلوا بموجبها إلى أن لا علاقة جغرافيا بين أورشليم، المدينة التوراتية، ومدينة القدس عاصمة فلسطين. فالنصوص التي تشير إلى أورشليم في “سفر يهوديت” (7: 8 و 4: 5-7) و”سفر المكابيون الأول”(6: 62) و”نبوءة حزقيال” (47: 1-13 و14: 8). كلها تحدد موقع “أورشليم” على جبل منيع وحصين جدا، يجاور ويطل على صحراء كبرى، وينبع منه نهر كبير، نصف ينحدر شرقا نحو البرية والنهر الشرقي، والنصف الآخر ينحدر غربا نحو النهر الغربي.
4: أن نتائج الحفريات التي أجريت بالمنطقة أثبتت بأن أقدم أسماء فلسطين هي أرض كنعان، كما هو مكتشف في حفريات تل العمارنة التي يرجع عصرها إلى خمسة عشر قرنا قبل الميلاد، والتي كانت تشير بهذا الاسم إلى البلاد الواقعة غرب نهر الأردن، كما تثبت النصوص المكتشفة لملك “نبوخذ نصر” أن هذا الملك لم يستول على مدينة القدس، ولم يدخل فلسطين، ولم يكن هناك سبي لليهود من فلسطين إلى بابل، وفي سنة 1997 عقد في مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية اجتماعا لعلماء الآثار، حيث قال البروفيسور الإسرائيلي “دافيد أوسيشكين” من جامعة تل أبيب، والذي شارك قبل 46 عاما في كشف أحد قصور الملك سليمان، أنه يتفق مع تفسير فنكلشتاين الباحث الإسرائيلي وعالم الآثار من جامعة تل أبيب ، والذي أكد هو بدوره أن المكتشفات الأثرية التي أرجعت لفترة داوود وسليمان عليهما السلام في القرن العاشر قبل الميلا، بنيت على ما يبدو بعد ذلك بمائة سنة، ويشكك كذلك في وجود أي صلة لليهود بالقدس جاء ذلك خلال تقرير نشرته مجلة “جيروزاليم ريبورت” عدد شهر غشت 2000. وفي سنة 1930 أصدرت لجنة دولية مكونة من وزير خارجية سويدي سابق وعضوية سويسري وآخر هولندي تقريرا ـــــــــ إثر الاعتداء الصهاينة على حائط البراق ــــــ يقول:” إن للمسلمين وحدهم ملكية الحائط الغربي، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه يؤلف جزءا لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف، وللمسلمين أيضا تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة لكونه موقوفا حسب أحكام الشريعة الإسلامية”.
إذن؛ لو استثمرت هذه النتائج وغيرها، على المستوى الأكاديمي بنطاق واسع، فإنها وبكل التأكيد ستعطي للقضية دفعة قوية، وخاصة في حالتنا اليوم حيث تنامي القوميات المحلية، والدعوات المتزايدة للتطبيع مع الكيان، وذلك ليس من خلال الاقتصار فقط على عقد المؤتمرات والندوات الموسمية، كإجراء نوعي للتعريف بمشكل القدس، وإنما الانتقال إلى مرحلة إدراج قضية تحرير القدس كمادة أكاديمية ضمن مقررات مختلف الشعب، التي تدرس بجامعات العالم الإسلامي، مثلا: الدراسات الإسلامية بكلية الآداب، وكلية الشريعة، شعبة القانون وبالأخص القانون الدولي وما يمثله من حل لهذه القضية، شعبة التاريخ، الآداب من الشعر والنثر آداب الرحلة …، الجغرافيا، وحتى الفنون الجميلة والهندسة المعمارية…وهذا الإجراء لا بد من التفكير فيه؛ لأن تغييب قضية القدس، سيشكل فهما خاطئا وغير سليم للقضية، وخاصة في ظروف انتشار اللامبالاة بين شباب الأمة، وتزايد وتنامي القوميات المحلية، التي تدفع قصدا إلى الاقتناع بأن قضية القدس وفلسطين، قضية محلية تهم الفلسطينيين وحدهم، ولا دخل لنا نحن في ذلك، وهم اليوم الذين يجاهرون بضرورة التطبيع، ويزينون فوائده، بل أكثر من ذلك يدفعون بالقول إلى أنه من حق اليهود العودة إلى بلادهم التي هجروا وطردوا منها، ويخلق نوعا من التعاطف معهم، بكونهم شعبا عاش تاريخا كله اضطهاد وتشرد وشتات، بل تجد من يقول بهذا الأمر ممن ينتسب إلى الإسلام تدينا، ويقول بأن هذه الأرض كانت لبني إسرائيل، بعد أن وعدهم الله بها، وأن الصخرة حق لليهود اغتصبه المسلمون، بناء على تأثرهم بالروايات الإسرائيلية، التي غزت التراث الإسلامي، دون تمحيص أو تدقيق، ولأنهم لا يفرقون بين بني إسرائيل كقبائل بائدة وبين اليهود كجماعة دينية ظهرت بعد النبي موسى عليه السلام بقرون، والقرآن واضح في هذه المسألة، وتأثير هذا النوع من الفكر، أقوى من التأثيرات الأخرى، لأنه في ثوب ديني قصصي، والعامي أو المقلد ليست له القدرة على التمييز بين الرواية الصحيحة والرواية الإسرائيلية المندسة.
وإذا كانت وظيفة أهل الفكر، هي قيادة الأمة حضاريا، فإن الوسيلة الفضلى لبناء هذا المشروع الفكري، هي المدرسة وقطاع التعليم، من حيث المقررات والبرامج الدراسية، بحيث يجب أن تدرج ضمنها مواد تدافع عن القدس الإسلامية، وفق ما يناسب كل مرحلة من مراحل التعليم، الابتدائي والإعدادي ثم الثانوي، حتى يكون وجدان المتعلمين مرتبط بقضية الأمة، ألا وهي القدس المحتلة، وحتى لا يقع عرضة التطرف الديني خارج أسوار المؤسسة، نتاج الحماسة الدينية الزائدة وغير المنضبطة لقواعد الشرع الحنيف. وسيكون الأمر حسنا إذا أدرجت دروس عن القدس ضمن مادة التربية الإسلامية، لكونها قبلة المسلمين الأولى ولكونها وقف إسلامي، ولكونها تمثل التجلي الأمثل لروح تسامح الدين الإسلامي مع أتباع الأديان الأخرى، وضمن مادة التاريخ، من حيث كونها تعرضت للغزو الإفرنجي أيام الحكم الإسلامي، والاحتلال البريطاني الذي مهد لاستيطان الصهيوني اليهودي، فضلا عن المواد الأدبية والتفتح الفني. ونضيف كذلك أن بإمكان أهل الفكر-وهذه وظيفتهم- تزويد أهل الإعلام بمواد فكرية، تُحول فيما بعد إلى مواد إعلامية، تذاع وتبث بين الفينة والأخرى، وخلال مناسبات ذكرى الاحتلال والنكبة وإعلان دولة إسرائيل ومجزرة صبرا وشاتيلا والانتفاضة الفلسطينية …كل ذلك من أجل أن تصبح القضية قضية الرأي العام الإسلامي، آنذاك يمكن أن نتحدث عن إمكان تحرير القدس.
ختاما نقول إن قضية تحرير القدس الشريف والمسجد الأقصى من تدنيس اليهود والصهاينة، لا تحتاج إلى حماس فارغ يخبو بمجرد العودة إلى المنازل، ذلك أن الحماسة إذا كانت ضرورية في العمل العسكري الذي بدوره يعتمد التنظيم المحكم والعمل الجماعي المنظم، فإنه غير مجد وغير نافع في عملية بناء الوعي، إذ أن الوعي يبنى بالفكر، والفكر لا يبنى إلا إذا فسح المجال لأهله المتخصصين، مع الدعم والاهتمام.