المقاومة..حتى لا تتحول فلسطين لأندلس ثانية(محمد الطوالي)
لم يكن الهجوم الأخير الذي شنه الكيان الصهيوني على مخيم جنين، بِدعا من الهجمات التي دأب الكيان الغاصب على القيام بها منذ زرعه في فلسطين قبل عقود طويلة، حيث تبقى الميزة الأساسية والمشتركة التي تطبع كلا منها، هو التمرد على البشرية والأمة الإنسانية جمعاء، من خلال الإنتهاك السافر والواضح للقانون الدولي، والعُدوان على شعب أعزل يُسلب كل شيء، حتى من حقه في المقاومة، هو عدوان يسائل الدول العربية والإسلامية قبل غيرها من مكونات المجتمع الدولي، ويثبت أنه لا خيار غير المقاومة.
الكيان الصهيوني والتمرد على الأمة الإنسانية:
في جميع الهجمات العدوانية الصهيوينة على بلاد الأقصى المبارك، حيث أولى القبلتين، وثالث الحرمين، لا يخلو الأمر من اغتيال الأطفال والنساء والمدنيين العزل، وقصف المناطق الآهلة بالسكان المدنيين وهدمها على رؤوس ساكينيها أمام أنظار العالم، وشن الهجمات غير المتناسبة وغير المميزة، واغتيال الفئات المحمية بشكل خاص كالصحفيين، والذين كانت أبرزهن الصحفية شيرين أبو عاقلة، وتدنيس الأماكن المقدسة، والهجمات المختلفة على المسجد الأقصى المبارك، والتي كان أبرزها عملية الحرق لعام 1969، ومحاولات التقسيم الزمني والمكاني، وأعمال الحفر والنبش وطمس المعالم التاريخية، المستمرة لحدود اليوم، إلى غيرها من الإنتهاكات السافرة لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وبروتوكولاتها الملحقة لعام 1977، ومختلف الصكوك الأخرى الخاصة بالنزاعات المسلحة، والتي تشكل بما لا شك فيه، جرائم حرب، بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كما تنص على ذلك المادة 8 منه.
أكثر من ذلك، تمثل أعمال الكيان الصهيوني، انتهاكا لمجمل صكوك القانون الدولي، وعلى رأسها ميثاق الأمم المتحدة، وقرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن، خاصة ذات العلاقة منها بالقضية الفلسطينية مباشرة، والتي كان من أبرزها القرار رقم 194 الذي دعا إلى حق عودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم، والقرار 3236 الذي اعترف بحق الفلسطينيين في السيادة على أراضيهم، والقرار A/RES/72/87 الخاص بالممارسات الإسرائيلية التي تمس بحقوق الإنسان للشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والقرارA/72/438 الخاص بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وقرار مجلس الأمن 2334 الخاص بإدانة المستوطنات الإسرائيلية التي لازلت مستمرة في التوسع والإنتشار لحدود اليوم، وما إلى ذلك من القرارات.
ازدواجية للمعايير وكيل بمكيالين:
لا يمثل هذا التجاهل للقانون الدولي، والإنتهاكات الصهيونية السافرة له، إلا التمرد على الشرعية الدولية التي تمثلها الأمم المتحدة، فهي انتهاكات كان الأولى أن تحمل هذه المنظمة على طرد إسرائل منها، واتخاذ إجراءات عسكرية صارمة ضد هذا الكيان الإرهابي من قبل مجلس الأمن، كما ينص على ذلك الميثاق، حيث تنص المادة السادسة منه بصريح العبارة، على أنه إذا أمعن عضو من أعضاء “الأمم المتحدة” في انتهاك مبادئ الميثاق جاز للجمعية العامة أن تفصله من الهيئة بناءً على توصية مجلس الأمن، إضافة إلى مختلف بنود الفصل السابع، لكن أيا من ذلك لم يحصل، بما يعني إئتمارا دوليا واضحا من قبل القوى المسيطرة على القرار الدولي، على الحق الفلسطيني، ودعما دوليا لا مشروط للإرهاب الصهيوني في بلاد الأقصى.
فغير بعيد التدخل العسكري لحلف الأطلسي في ليبيا في أعقاب الثورة، بحجة حماية المدنيين والمناطق السكنية التي تواجه تهديدا، والذي لم يعدُ أن سوى عاليها بسافلها، ونهب ثرواتها، حيث كانت كل قنبلة أو صاروخ يتم إطلاقه من قبل الدول المتدخلة تحت غطاء شرعية قرار مجلس الأمن 1973، يتم احتسابه بملايين من الدولارات تقتطع من الثروة النفطية، وغير بعيد التدخلات في العراق، كتلك التي تمت بحجة حماية الأكراد والشيعة تحت غطاء قرار مجلس الأمن 688، والتي لم تكن إلا الخطوة الأولى لغزو العراق وتدميره بمن فيه من قبل أمريكا وحلفائها.
في هذا السياق، لا تمثل كل الإنتهاكات التي اتخذ منها مجلس الأمن ذريعة للتدخل في الدول المذكورة، حتى عشر العُشر مما يقوم به الكيان الصهيوني في فلسطين على مدار عقود طويلة، وكل ذلك أمام أنظار العالم موثق توثيقا عالي المستوى، حيث تداهم إسرائيل مثلا المناطق الآهلة بالسكان المدنيين وتعيث فيهم قتلا وتخريبا، وتهدم الأحياء السكنية المدنية على من فيها من مدنين ونساء وأطفال، لكنك لا تجد لمجلس الأمن ركزا، ولا للأمم المتحدة التي تمثل الشرعية الدولية صوتا، اللهم من التنديد البارد بعض الأحيان.
وإن هذا ليوضح بجلاء، حجم الإفلاس الذي يعاني منه النظام الدولي الحالي الذي يعتبر حقوق الإنسان من مقوماته الأساسية، وفشل مؤسساته، اللهم من خدمة المصالح الحصرية للقوى المسيطرة، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، كما يعني من جهة أخرى، أنه على الفلسطينيين وكل المعنيين بقضية المسجد الأقصى، ألا ينتظروا شيئا من هذا النظام، فلا سبيل غير المقاومة حتى تتحقق العدالة على الأرض وتعود الحقوق لأصحابها.
الأقصى تحت وطئة الخذلان الإسلامي:
ليس الغريب التنكر الدولي للقضية الفلسطينية، فماذا يُنتظر مثلا من الولايات المتحدة الأمريكية التي توفر دعما لا محدودا ولا مشروطا للكيان الصهيوني المغروس في قلب الشرق الأوسط، أو من المملكة المتحدة التي كانت أول من غرس شوكة الإرهاب الصهيوني في العالم الإسلامي، ولكن يُستغرب بشدة، بل ويستنكر، الخذلان التي تتعرض له بلاد الأقصى، حيث أولى القبلتين وثالث الحرمين، من قبل البلدان ذات الشعوب الإسلامية.
هو خذلان يترجم طُغيان المصالح الخاصة للأنظمة الحاكمة، ضدا على إرادة الشعوب التي تحكمها، وعلى المصالح العليا للمسلمين، وضياع البوصلة، بل ويمثل، تنكرا لما سبق والتزمت به هذه الأنظمة على نفسها قانونيا، قبل ذلك.
فعقب جريمة إحراق الأقصى عام 1969، أنشأت الدول الإسلامية لغايات شتى، منظمة التعاون الإسلامي، وأخذت على نفسها بحماية الأقصى، وتوفير كل ما يلزم لتحرير ليس فلسطين، بل كل بلد عضو إسلامي يتعرض للاحتلال، حيث نصت في الميثاق الأساسي للمنظمة بالحرف، على دعم كفاح الشعب الفلسطيني، وتمكينه من الحصول على حقوقه غير القابلة للتصرف، والحفاظ على الطابع الإسلامي والتاريخي لمدينة القدس والمقدسات فيها، ومساعدة الجماعات والمجتمعات المسلمة خارج الدول الأعضاء، والسعي لاستعادة السيادة الكاملة ووحدة أراضي أي دولة عضو خاضعة للإحتلال.
كان هذا ما أخذت به الدول الإسلامية على نفسها عندما أسست المنظمة قبل أكثر من خمسين عاما، لكن استدار الزمن، فتنكرت لكل هذا، بل وأصبحت العديد من الدول ذات الشعوب الإسلامية تعترف بشرعية الكيان الصهيوني في الوجود كدولة، بل وتوثق علاقاتها معه وكأنه دولة عادية، بما في ذلك العلاقات الأمنية والعسكرية، لم تخل من ذلك حتى تركيا التي تتميز بالديمقراطية، وبوجود حزب ذي خطاب إسلامي في سدة الحكم، وتتوجه إليها أنظار المسلمين شيئا ما كأمل وتجربة، وهو الوضع الذي يشي بالخطر، فلا أخطر من اعتبار الكيان الصهيوني دولة عادية في المشرق الإسلامي، ولا أخطر من أن يترسخ الإعتقاد لدى المسلمين دولا وأفرادا وجماعات، بكون إسرائيل دولة عادية، ولا حرج في التعامل معها كأي دولة أخرى.
إن هذا القبول بإسرائيل، وخاصة الذي تعبر عنه دول تحكمها أحزاب تروج لنفسها على أنها إسلامية، وتمثل شعبها الإسلامي تمثيلا ديمقراطيا، هو خطر كبير جدا غير مسبوق على مستقبل القضية الفلسطينية، فكيف يقبل مسلم بوجود إسرائيل التي تحتل الأقصى وتعيث قتلا في مسلمي فلسطين؟
إن هذا يمثل في عمقه تحولا في العقلية السياسية الإسلامية، وهو التحول الذي يخدم ترسيخ إسرائيل، ويمهد لإستواء الوضع لها، أكثر من أي شيء آخر، فقبل عقود نجح الكيان الصهيوني وأربابه في اختراق العقلية السياسية العربية، فتغيرت المواقف العربية في كامب ديفيد وأوسلو إلى مهادنة إسرائيل والإعتراف بها، في مقابل ذلك بقي العقل السياسي الإسلامي لا يقبل بأي شكل بوجود إسرائيل، ويدعو لجهادها بالنفس والنفيس، لكن هذ التحول الذي بدأ اليوم، وتعبر عنه دول تحكمها أحزاب ذات واجهة إسلامية كتركيا، يمثل خطرا غير مسبوق على قضية الأقصى، وانحرافا خطيرا في الممارسة السياسية الإسلامية لا يجب أن يترسخ، بل يجب أن تُكشف خطورته ويتوقف.
المقاومة الخيار الذي لا يقهر:
أمام الخذلان العالمي وشيئا ما الإسلامي لقضية الأقصى، والسير الممنهج للقضاء عليها، واعتبار إسرائيل دولة عادية يتم التعامل معها بكل أريحية، فإنه لا يبقى من سبيل غير سبيل المقاومة لوأد الخطر الصهيوني، والذي حتما سيشمل غير فلسطين إن استوى له الأمر فيها، فالكيان الصهيوني يمثل في حقيقته مشروعا استعماريا، يستهدف إبقاء العالم الإسلامي ممزقا وخاضعا للقوى الغربية أساسا، تسيطر عليه وتنهب ثرواثه، حيث يقول عالم الإجتماع الدكتور عبد الوهاب المسيري في هذا الصدد، “إنه يمكن القول بكثير من الاطمئنان، إن الإستراتيجية الغربية تجاه العالم الإسلامي منذ منتصف القرن 19، تنطلق من الإيمان بضرورة تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيه، وهذا التصور للشرق الأوسط ينطلق من تصور أن التاريخ متوقف تماما بهذه المنطقة، وأن الشعب العربي سيظل مجرد أداة بيد معظم حكامه الذين ينصاعون انصياعا أعمى للولايات المتحدة، ففي إطار هذا التقسيم، تصبح الدولة الصهيونية الاستيطانية، المغروسة غرسا في الجسد العربي، دولة طبيعية بل قائدة، فالتقسيم هو في واقع الأمر عملية تطبيع للدولة الصهيونية التي تعاني من شذوذها البنيوي، باعتبارها جسدا غريبا غُرس غرسا بالمنطقة العربية”.
فأمام هذا الوضع، لا يمكن القول أن المقاومة هي الخيار الأفضل، بل هي الخيار الوحيد، والخيار الصواب، فلقد أثبت التاريخ أنه دائما ما كانت أنوف المحتلين، تتمرغ صاغرة أمام عناد المقاومين وتضحياتهم، ولقد كانت المقاومة الضارية هي السبيل الذي خلص أغلب دول العالم الإسلامي من الإحتلال العسكري المباشر على الأقل.
ولما كان لا يمكن انتظار الشيء الكثير من حكومات العالم الإسلامي، التي أظهر بعضها الإنحراف، وسار في مسار التطبيع وتوثيق العلاقات مع كيان الإرهاب الصهيوني، هو المسار غير الرشيد الذي نتمنى أن تعود عنه مُدبرة بأقصى سرعة، استجابة لإرادة الشعوب الإسلامية، وإعلاء لمصالحها، وعرقلة للمخططات الصهيوينة والإستعمارية التي تروم إخضاعها كلها وتمزيقها شر ممزق، فإنه يقع على كل المسلمين، أفرادا وجماعات، وخاصة الأغنياء منهم وأصحاب الخبرات والتأثير الإعلامي والعلمي، دعم المقاومة الفلسطينية بكافة الطرق، والتي يجب أن تكون مقاومة تتميز بالإستمرارية، والوضوح في الرؤية، حيث لا مكان للكيان الصهيوني أبدا في المشرق الإسلامي كله، فلا حدود 67 ولا غيرها، فكل الأراضي العربية يجب أن تتحرر من سطوة هذا الكيان الإرهابي الذي يمثل شوكة مسمومة في قلب العالم الإسلامي، وهذه هي العقيدة التي ستضمن النصر للمقاومة، فالتنازلات أثبت الزمن أنها لم تجد شيئا، ولن تحقق أي نفع، فهي فقط توهن الكيد، وتشتت الصف الداخلي للمقاومة التي يجب أن تتوحد حول فكرة القضاء التام والمبرم على الكيان الصهيوني، وتحرير بلاد الأقصى كاملة.
إن المقاومة المستمرة والصارمة، تمثل الخيار الوحيد حتى لا تتحول فلسطين إلى أندلس ثانية، حتى لا نرى إسبانيا جديدة في المشرق الإسلامي كما وقع في غربه.