الممارسة الحزبية بالمغرب ورهان الانتقال الديمقراطي (1)…علي المغراوي
(1) مظاهر أزمة العمل الحزبي بالمغرب
تلعب الأحزاب السياسية وقوى المجتمع أدورا مهمة في سيرورة بناء الديمقراطية، حيث لا يمكن تصور نظام سياسي ديمقراطي بدون أحزاب سياسية وتنظيمات مدنية فاعلة ومستقلة، كما لا يمكن الحديث عن أحزاب سياسية فاعلة وفعالة إلا إذا كانت تجعل من الديمقراطية منهجية لا محيد عن[1] .
وفي هذا الصدد يقول ماكس فيبر:
« Les partis politiques sont les enfants de la démocratie du suffrage universel, de la nécessité de recruter et d’organiser les masses »[2]
وترجمة هذه العبارة للغة العربية معناها ، بأن الأحزاب السياسية تعتبر بمثابة أبناء ديمقراطية الاقتراع العام، وهي ضرورية لتعبئة الجماهير وتنظيمها.
والسياسة الحديثة قائمة على تأسيس أحزاب سياسية، يتم من خلالها وعبرها ممارسة الصراع حول السلطة. فالحزب هو شكل من أشكال عقلنة المشاركة السياسية كما أنه يعبر عن علاقات اجتماعية تقوم على أساس من الانتماء الحر[3]“.
وارتباطا بدور الأحزاب السياسية، يرى فيبر أن الحزب يمثل “المِكْروبوليتك” « Micropolitique » فهو صورة مصغرة عن السياسة العامة في الدولة. ذلك أن المنتمين للحزب ومن داخله يسعون إما لسلطة الحزب أو للتأثير في توزيع السلطة بداخله. كما أن الحزب السياسي هو مجموعة من الأفراد يجمعهم الإيمان والالتزام بفكر معين[4].
وفي نفس السياق، يرى هارولد لاسويل، أن الحزب تنظيم يقدم مرشحين باسمه في الانتخابات[5]. في حين أن سلزنجر يحدد مفهوم الحزب في مظهر واحد من مظاهره وهو هدف الوصول للسلطة، ويعتبره أنه تنظيم يسعى للوصول إلى السلطة في الأنظمة الديمقراطية[6].
ويبقى التعريف الأوسع والمنطبق على كل أنظمة الحكم، ما ذهب إليه جيمس كولمان، بأن الحزب له صفة التنظيم الرسمي هدفه الصريح والمعلن هو الوصول إلى الحكم إما منفردا أو مؤتلفا مع أحزاب أخرى[7].
وانطلاقا من كل ما قيل، يمكن أن نقول: أن الحزب هو تنظيم ذو طابع سياسي يضم مجموعة من الأفراد يحملون مشروعا واحدا، وله صفة العمومية، غايته الوصول إلى السلطة، ويشير موريس دوفرجيه إلى أن نمو الأحزاب السياسية ارتبط تاريخيا بنمو الديمقراطية واتساع مفهوم الاقتراع العام والشعبي[8].
وبناء على هذا التأسيس النظري لمفهوم الحزب، ولدور الأحزاب في نمو الديمقراطية، نتساءل ما هو واقع الأحزاب السياسية بالمغرب ؟ وما تأثير أزمة هذه الأحزاب على رهانات الانتقال الديمقراطي؟
مظاهر أزمة العمل الحزبي بالمغرب
يعاني العمل الحزبي بالمغرب من مجموعة من الأعطاب التي تعيق عمل الأحزاب السياسية، وتكبح وظيفتها الأساسية في المشهد السياسي المغربي لتصبح مجرد هياكل بدون روح، وبنيات لتأثيث المشهد، في غياب تعددية حقيقية، وغياب أحزاب ديمقراطية قوية ذات تمثيلية مقدرة، وغياب امتلاكها لمشروع مجتمعي يروم التغيير، ويمكنها من أداء سياسي معتبر، مما يخولها ممارسة السلطة الفعلية ومن هذه الأعطاب والمعوقات نذكر ما يلي:
أولا: أزمة الديمقراطية الداخلية:
من أبرز الملاحظات على العمل الحزبي بالمغرب، افتقاد الأحزاب السياسية للديمقراطية الداخلية، مما يفقدها مصداقيتها، إذ لا يمكن الحديث عن أحزاب سياسية فاعلة وفعالة، إلا إذا كانت تجعل من الديمقراطية منهجية لا محيد عنها[9] ويسجل على الحزب السياسي المغربي انغلاق بنيته التنظيمية، وتفشي أسلوب الإقصاء والإقصاء المضاد، وعدم تقبل الرأي المخالف، وضعف التعددية الفكرية، الأمر الذي يترك تأثيرا سلبيا على إنتاج الأفكار والمفاهيم[10].
ويتناقض هذا الوصف مع مطلب الديمقراطية، التي تطالب بها بعض الأحزاب السياسية، فكيف يستقيم أن تطلب شيئا وتأتي بما يخالفه، ففاقد الشيء لا يعطيه، وهو ما عبر عنه الأستاذ عبد الحي مودن بالقول أنه لا يمكن رفع شعار الدولة الديمقراطية بدون أن تسود الديمقراطية الفاعلين السياسيين، ولا يمكن مطالبة الدولة باحترام القانون في الوقت الذي لا تحترم فيه التنظيمات السياسية نفسها قوانينها[11]، وفي هذا المضمار يفسر الأستاذ عبد اللطيف أكنوش غياب اعتماد الأسلوب الديمقراطي لتدبير الخلافات الداخلية إلى هيمنة الثقافة المخزنية على سلوك قياديها[12].
ومن إفرازات هذا الواقع، أن أصبحت الأحزاب السياسية، بنيات معطوبة تنتج أنماطا من التعاطي البيروقراطي والديماغوجية، والاستئثار بالرأي، وتعمل من أجل الهيمنة والحفاظ على الوضع الاجتماعي القائم[13]، وتنتج قيما خطيرة متشبعة بثقافة الولاء والنصرة حول القيادات، التي تحتكر المنافع المادية والرمزية داخل الحزب[14].
وقد كان لهذه الممارسات تأثيرا على تمثلات المواطنين لمفهوم السياسة والعمل الحزبي، فأصبحت ممارسة السياسية ترتبط بصيانة الامتيازات المادية وباحتكار المؤسسات الحزبية باسم الشرعية التاريخية، وعقدة الزعيم الغير القابلة للحل إلا بوفاته، أو بالانشقاق عن الحزب الأم بسب الجمود التنظيمي، فمن يوجد في القواعد السفلى لا يصل إلى الأجهزة القيادية إلا في حالات نادرة[15].
وقد جعل هذا الواقع الأحزاب السياسية تفتقد للجاذبية، وتنفر المواطن من العمل السياسي، وتشكل عائقا أمام المشاركة السياسية، وتفشل في إنتاج خطاب حزبي يرتكز على واقعية سياسية من شأنها التأثير على المواطن المهتم بمتطلباته اليومية الباحث عن تلبيتها[16].
إن الأحزاب السياسية المغربية مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى للقيام بمراجعات جذرية، تستهدف ترسيخ الممارسة الديمقراطية الداخلية وتعزيز معركة التغيير الديمقراطي الذاتي[17]، واعتماد برنامج للتأهيل السياسي، ورفض مفهوم المواطنة الامتيازية للقادة وتقرير حالات التنافي بعدم الجمع بين المهام، وتجذير المراقبة وتطوير آليات التخليق[18]، لتشكل بذلك مدرسة للتأطير والتكوين، وبناء ثقافة سياسية قائمة على المواطنة ونكران الذات وإنتاج الأفكار والتصورات والبدائل والمبادرات وإنتاج النخب الجديدة، حتى لا يبقى الآلاف من المناضلين محكوم عليهم بالبقاء في الظل، وهو الأمر الذي يتسبب في تعطيل كفاءاتهم وقدراتهم، وهوما يعتبر خسارة للدولة والمجتمع ككل وليس للأحزاب فقط[19].
ثانيا: إشكالية التعددية الحزبية المفرطة:
تبنى المغرب بشكل مبكر مبدأ التعددية، إلا أنها ظلت على امتداد تاريخ الممارسة الحزبية والسياسية المغربية تعددية شكلية، لا تعكس تعدد المشاريع السياسية والمجتمعية المغربية، فرغم العدد الهائل للأحزاب، إلا أن التعددية الحزبية بالمغرب حسب الباحث محمد ضريف، ظلت تتميز بطابعين: الطابع التسيبي والذي يلمس من خلال تعدد عدد الأحزاب، والطابع الوهمي لهذه التعددية[20].
والملاحظ من خلال التجربة الحزبية المغربية، أن الولادة العددية للأحزاب، لم تكن استجابة لحاجة مجتمعية، بقدر ما هي نتيجة لصناعة السلطة سواء عبر إنشاء أحزاب جديدة، أو بسبب الانشقاقات الحزبية، التي لا تعبر عن ردود فعل اجتماعية تخضع للقوانين الاجتماعية[21]، فكان تناسل العديد من الأحزاب، لا يعبر عن تعددية في المشهد السياسي، لأن ما يجمع أغلبية الأحزاب المغربية هو فئوية الممارسة وشعبوية الخطاب، إذ يوجد تشابه بين خطابات الأحزاب وبرامجها[22]، بعيدا عن التعددية الحزبية، ونظرا لتقارب الأفكار والبرامج لعدد كبير منها[23].
وارتباطا بهذا الموضوع، فإن التعدد الضروري للبناء الديمقراطي والمفيد للتنمية والتقدم هو الذي ينطوي على تعدد حقيقي في الاجتهادات والتصورات السياسية، بحيث يكون الهدف من تأسيس حزب جديد، هو تقديم برامج واقتراحات جديدة مغايرة لما تطرحه الأحزاب القائمة، وهذا يدخل في إطار التنافس المشروع الذي يعطي أفكارا جديدة، ويشجع على الابتكار ويخلق الدينامية التي تفتح باب التطور[24].
تلعب النخب السياسية المؤهلة دورا رائدا ومحوريا في إنجاح التفعيل الحقيقي للمؤسسات الدستورية، نظرا لامتلاكها لأدوات الفعل السياسي وللوعي المؤسساتي الذي اكتسبته داخل مدرسة الحزب، لكن الملاحظ من خلال تشريح واقع العديد من الأحزاب السياسية المغربية، أنها تعاني أزمة نخب، نظرا للأعطاب التي تعاني منها .
وفي هذا السياق، تعيش بعض الأحزاب السياسية بالمغرب، مجموعة من الاختلالات المرتبطة بتجدد النخب، بسبب ورقة الشرعية التاريخية، التي تلوح بها النخب القديمة وتهميش الأساليب الديمقراطية كلما تم الاقتراب من مراكز القرار داخل الهياكل الرئيسية للحزب، ومن خلال فرض منطق التزكية والتعيين والوراثة واستقطاب الأعيان خلال الانتخابات، وعدم استحضار الكفاءة وتغييب الآليات الديمقراطية في تدبير قضاياها واختلافاتها الداخلية، مما أدى إلى تأزم العلاقة بين قيادات عدد من الأحزاب وحركاتها الشبيبية، وأسهم في مغادرة عدد من الطاقات الشابة للأحزاب[25].
وكما أسلفنا القول، فإن إنتاج النخب السياسية بالمغرب، يجب أن يخضع بداية لمجموعة من المعايير، أولها ممارسة الديمقراطية داخل الحياة الحزبية، لأنه لا يمكن رفع شعارات الدولة الديمقراطية، دون أن تسود الديمقراطية داخل هذه الأحزاب[26] التي هي في حاجة إلى العقلنة والديمقراطية، وإضفاء الشفافية على تشكيلة هياكلها وتسييرها وتمويلها.
ويعتبر موضوع إنتاج النخب وتجديدها أمرا ضروريا ومحوريا في مسار بناء دولة المؤسسات، ولتعزيز أجرأة الهيئات الدستورية قصد مواكبة التحديات الراهنة المطروحة في الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وقصد مواكبة تحديات العولمة.
وسيظل هذا الموضوع مطروحا على كافة الأحزاب الوطنية لضرورة تجاوز جميع مظاهر القصور التي تعاني منها، وذلك عن طريق تعزيز بنيات الاستقبال للكفاءات داخل الأحزاب، وخصوصا الطاقات الشابة، وضرورة الانفتاح على مكونات المجتمع، واستقطاب وإدماج الأطر والكفاءات، التي ستغرر الصرح التنموي للبلاد[27].
رابعا: افتقاد الأحزاب للمشروع المجتمعي:
إن نجاح الانتقال الديمقراطي رهين بوجود أحزاب سياسية، تمتلك مشروعا مجتمعيا متكاملا، لأن الانتقال نحو الديمقراطية يقتضي تغيير الإنسان والسلوك المجتمعي، فهو عملية تاريخية واجتماعية متعددة ومتداخلة الأبعاد والمداخل، إذ يصعب ترجيح أولوية المدخل الاقتصادي على المدخل الاجتماعي والمدخلين معا على المدخل السياسي، بالنظر لتكاملها البنيوي لإنجاز تصور شمولي يقطع مع التصورات الإصلاحية الجزئية أو القطاعية[28]، فالمشروع المجتمعي يعتبر بمثابة البوصلة التي ترشد خطط العمل ومجالات النشاط والتوجهات، والتي تحدد كذلك الأهداف، وبدونه تبدو المشاريع جميعها جزئية متقطعة ودون خط رابط[29].
وارتباطا بمجال هذه الدراسة الذي نحن بصدده، نؤكد أن النقاش بالمغرب بهذا الخصوص، مازال بعيدا عن فكرة تنافس مشاريع مجتمعية حقيقية تعبر عن منظومة فكرية وقيمية، وتسعى لتحقيق التغيير في كل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من أجل الخروج من الأزمة[30].
وإذا كان الرهان الرئيس لدمقرطة الحياة السياسية يتمثل في إرساء آليات جديدة لاشتغال النسق السياسي على أسس أكثر حداثة، ومن ثم إدخال اعتبارات جديدة في العلاقة الرابطة بين الدولة والمجتمع[31]، فإن هذا يفرض امتلاك الأحزاب السياسية لرؤية استراتيجية، يتداخل فيها المدخل الدستوري، مع بقية مداخل الإصلاح.
لكن ما يلاحظ أن الأحزاب السياسية المغربية بعيدة عن هذا المنطق، وحتى الأحزاب الوطنية التي كانت تمثل توجها مجتمعيا، وتميزت بمشاريع إصلاحية في أدبياتها، ووثائقها وأرضيات مؤتمراتها حين كانت في المعارضة، جعلت من مسألة الإصلاح السياسي مدخلا لأي إصلاح اقتصادي واجتماعي، إلا أن هذه الأولوية اختفت من خطابها بمجرد مشاركتها في الحكومة، وكانت من جملة الانتقادات الموجهة إليها فصلها بين مسألتي الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي[32].
ونتيجة لذلك، أصبح الأداء السياسي للأحزاب السياسية يتسم بالضعف، بعيدا عن المبادئ والأفكار التي بنيت عليها هذه الأحزاب، مما أدى إلى إضعافها وتلاشي بنياتها، وانخفاض شعبيتها أمام الجمهور، وبالطبع سيؤثر ذلك مستقبلا على قوة النسق السياسي، وشرعية النظام السياسي، الذي سيجد نفسه يوما وجها لوجه مع حركة الشارع[33]، في غياب لهذه الوسائط التقليدية، التي تلعب دور الوساطة بين الدولة والمجتمع.
ولذلك ننبه أن دور الأحزاب السياسية مصيري ومحوري مهما كانت طبيعة النظام السياسي، لأن الأحزاب السياسية تشكل العمود الفقري للبناء الديمقراطي بحيث لا يمكن الحديث عن الديمقراطية الحقة في غياب أحزاب سياسية، تنافس بشرف ببرامجها وأفكارها، ومواقفها على الاستقطاب والتأطير، وصناديق الاقتراع محليا وإقليميا ووطنيا[34].
ويتضح مما سبق أن العمل الحزبي بالمغرب، تعترضه مجموعة من المعيقات الدستورية والقانونية والسياسية والتنظيمية، علاوة على الثقافة السياسية السائدة، مما يستوجب إصلاحا بنيويا حقيقيا للنهوض بالعمل الحزبي.