المنهج المقاصدي في نقض خطاب اللاهوت السياسي … محماد رفيع
بسم الله الرحمن الرحيم
لا شك أن الاستنجاد بالنظر المقاصدي في الواقع السياسي المعاصر عموما مسلك رشيد ومنهج سديد يهدي للتي هي أقوم زمانا ومكانا وحالا، خصوصا وأن القضايا السياسية وتفاصيلها اليومية وإشكالاتها الملتوية في عالمنا العربي والإسلامي محل أنظار ومناهج متعددة ومختلفة إلى حد الاضطراب والتناقض، ويزداد الأمر غموضا والتباسا حين يستدعى النظر الشرعي في قضايا الواقع السياسي العربي المعاصر ليؤصل لما يجري من تفاصيل سياسية كنازلة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وشرعية الانتخابات التي تنظم في العالم العربي، ووجوب المشاركة في تلك الانتخابات، إلى غيرها من النوازل السياسية. والشيء العجاب أن هذه المقاربة ” الشرعية” التي تستدعى لتأصيل تلك المسائل السياسية تسقط كل مرة في حالة من التخبط المنهجي والخلط المعرفي على نحو مسف غير معقول، وذلك بتهريب النقاش إلى التأصيل المجرد والتعميم المبكر، وقد تتبعت خطاب هذه المقاربة بمختلف تلاوينها فألفيت الخلل راجعا إلى جملة أمور منها:
أولا: التفاصيل السياسية في الواقع العربي ليست في وقوعها ولا في مآلاتها ولا في حجمها سواء حتى ينظر إليها نظرة واحدة فيحكم عليها حكما واحدا فاختلاف الظروف البيئية والسياسية والاجتماعية بين الأقطار العربية موجب كاف في اختلاف التقدير والحكم وانتفاء التعميم، وهذا الذي قرره أهل الأصول من “جواز تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال وغيرها”، فلا يسوغ أصوليا ولا مقاصديا أن نتحدث على سبيل المثال عن وجوب المشاركة في الانتخابات على الإطلاق والعموم دون تحديد السياق العيني المقصود.
ثانيا: موضوع النقاش ومحل الإشكال هو بيان سياق التنزيل الزمني والسياسي المحلي بشروطه وإكراهاته التفصيلية لأصل المشاركة وليس البيان التأصيلي للمشاركة نستدعي لها النصوص الشرعية والقواعد الأصولية والفقهية العامة، فالاختلاف قد لا يحصل في التأصيل لكنه حاصل وبقوة في التنزيل، فلم الخلط بين الأمرين؟
ثالثا: لزوم التمييز بين المشاركة السياسية والمشاركة الانتخابية، فالأولى عامة والثانية خاصة فانتفاء الخاص لا يترتب عليه انتفاء العام، إذ من المجانب لمقررات العلوم السياسية أن نختزل المشاركة السياسية في المشاركة الانتخابية.
رابعا: مبنى تقرير المشاركة من عدمها في اللعبة الانتخابية على المصلحة المعتبرة الراجحة شرعا وعقلا حالا ومآلا، وذلك في تقدير خبراء الواقع السياسي المحلي وعلماء الشريعة معا.
خامسا: تقدير المصلحة والمفسدة في المشاركة الانتخابية وجودا وعدما ترجيحا وموازنة حالا ومآلا اجتهاد مأجور عليه وإن أفضى إلى سوء تقدير، لكن ما لم يكن إصرارا على الخطأ وتماديا في النهج نفسه رغم مرور الزمن الطويل وانكشاف حقيقة الأحوال وظهور المآلات الفاسدة رأي العين. خامسا: المقرر الثابت في الوعي الجماعي في المجتمعات العربية خصوصا ومعظم المجتمعات الإسلامية عموما، بنخبهم وعوامهم أن أصل البلايا في تلك المجتمعات وعلة عللها وكلي فسادها الاستبداد التاريخي الذي اتخذ لنفسه نظاما مركبا لحماية نفسه وضمان ديمومة وجوده، ومن وسائل الحماية عنده بناء نظام صوري للديمقراطية من انتخابات ومجالس منتخبة وحكومة، وغيرها من أجهزة يتنفس بها، بحيث تخفي الوجه الحقيقي للبلاء، فهل يجوز في هذه الحالة أن نتوسل بتلك الانتخابات الصورية للقيام “بإصلاحات” جزئية هي من أعراض البلاء الأصلي ومقتضى طبيعته، ونعرض عن مقاومة أصل البلاء فينا حسب وسعنا واجتهادنا في ابتكار مختلف وسائل الضغط السلمية على الاستبداد ليتنازل عن استبداده ويكف عنا فساده فيستقيم حينها النظر الجزئي في المصالح الجزئية، وإلا فمن أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه كما قال الشاطبي.
سادسا: مقتضى فقه التوسل والتقصد أن نختار الوسيلة المفضية قطعا أو ظنا راجحا إلى المصلحة المعتبرة إما حالا أو مآلا أو هما معا، وبعد التجريب وتبين الأحوال وانكشاف المآل يكون التقويم ونستبدل الوسائل بغيرها بحسب الجدوى ودرجة الإفضاء، ولا نجمد على وسيلة استعملناها لسنوات ذوات العدد لم تفض إلا إلى ما يراه الناس ويعيشونه من مآسي وخزايا أحصتها وتحصيها الأجهزة الرسمية العربية والمؤسسات والمنظمات الدولية في الصحة والتعليم والاقتصاد والاجتماع والسياسة وحقوق الإنسان وغيرها، ومعلوم مقرر أن الوسائل تتغير وتتبدل بحسب خدمتها للمقصد، فحكمها حكم ما أفضت إليه، لأن اعتبار الوسيلة مشروط بعدم عودها على المقصد بالإبطال كما قرر أهل المقاصد.
سابعا: لا جرم أن نجتهد في إصلاح واقعنا السياسي حسب وسعنا وتقديرنا، لكن شرط الاجتهاد الحرية في الاختيار، بحيث إذا ظهر للمجتهد خطأ تقديره أعلن رجوعه ولا يبالي، فالرجوع إلى الصواب خير من التمادي في الخطأ، فهل يستقيم استعمال مفهوم الاجتهاد في مواصلة المشاركة في العملية الانتخابية في المغرب على سبيل المثال؟ فهل يملك حزب من الأحزاب السياسية المشاركة في العملية الانتخابية القدرة والاختيار في الخروج من العملية؟ تلك هي القضية المفصلية التي يضمرها أهلها كمدا إن صدقوا ولا يجرؤون على التلميح بها بله التصريح، وعليه فالأمر قد يكون اجتهادا في الابتداء أما في الانتهاء فلا أراه إلا استسلاما للأمر الواقع المكروه.
ثامنا وأخيرا: لعل من شروط الإصلاح لفساد قديم مركب أن تلتمس له وسائل إنهائه على المدى الاستراتيجي البعيد المتدرج ابتداء بالإعراض عن مده بأكسجين الحياة لإطالة عمره. تلك هي معالم النظر المقاصدي الذي أراه في قضايا الواقع العربي عموما والمغربي خصوصا والحمد لله رب العالمين