المهدي بن عبـــــود أو حيّ بن يقظان المعاصر (البشير لسيود)
إن الحديث عن الفقيد المرحوم الدكتور المهدي بن عبود، هو حديث عن رجل نموذج، فهو المحارب ضد الاستعمار، والطبيب بواشنطن، وطبيب الفقراء بالرباط، وممثل المغرب في الامم المتحدة، وأحد مؤسسي حزب الاستقلال، والشاعر الفحل، والأديب المرهف، والحافظ لكتاب الله، والأستاذ الديبلوماسيّ الهادئ في مادة علم النفس بجامعة محمد الخامس بالرباط، جمع بين أناقة الكلمة وأناقة المظهر والروح، ودماثة الأخلاق، فلا تراه إلاّ مبتسما وناصحا، يشحن الأمل والطموح في صفوف طلبته.
لذلك سأتعرّض إلى شخصيّة الرجل من خلال كتابه “عودة حي بن يقظان”، فلماذا اختار أستاذنا الجليل هذا العنوان لكتابه، هل هو هروب من الواقع والتفكير في العودة الى العيش في احضان الطبيعة والحنين إلى الغزلان والفيافي حيث نشأ ابن يقظان كما تحكي الرواية؟ أم محاكاة لقصة الشيخ الرئيس ابن سينا “حي بن يقظان” الذي كان أوّل من طرح هذه الرواية خاصّة وأنّ بين ابن سينا وبن عبود شراكة معرفيّة من خلال اختصاصي الطبّ والفلسفة؟ أم أنّ “حي بن يقظان” هو أستاذنا بن عبود ذاته الذي يعبر النهر الفاصل بين مدينتي الرباط وسلا يوميّا وما يوحيه مشهد القصب والأشجار المحيط بالنهر من تشابه بين وضعيّة الطفل حي بن يقظان العائم في الماء ووضعيّة بن عبود الذي يشكو “صواعق الفوضى الشاملة، النابعة من قطع الصلة بين الحقّ والخلق” كما ورد في الصفحة الثالثة عشر من كتابه؟
طائفة من الأسئلة تطاردنا مشحونة بالكثير من الحسرة، لأنّ تواضع أستاذنا أخفى عنّا قيمته العلميّة والتاريخيّة، فهو لم يكن شاهدا على الاستقلال وعلى العصر بل كان فاعلا فيهما، دون أن يتكلّم، لذلك لم نتشبّع أكثر من غزارة علمه وثراء تجربته، وفوّت علينا نهل المزيد من معرفته.
“عودة حي بن يقظان” استدارة في الزمان، ورسالة للإنسان، واضحة الاستبيان، كلباس “حي بن يقظان”، المتأزّر بفرو الحيوان، فهو خال من التجزيئات، معفى من الأحاديث والآيات، لا مراجع ولا إحالات، سلس في لغته، كبير في همّته، إذا قرأت جزأه كفاك كلّه، وإذا قرأت جلّه أدركت المعاني كلّها، لم يوظّف صاحبه القرآن، واكتفى بمعاني البيان، فهو أشواق وترجمان، لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، دون تكبّر أو طغيان، أو زيغ أو نسيان، محذرا من العربة التي تجرّ الحصان.
أيّها القارئ الودود، لا تنسى كتاب بن عبود، ففيه “لا تترك الحكمة العليا فراغا في الوجود”، فعليه تستند، وإليه تعود، قبل أن يضمحلّ الوجود، فهو للفوضى مقاتل، ليس له من منازل، فوضى الأرواح، التي أصبحت كالألواح، فوضى القلوب، التي صارت للمال كالجيوب، وفوضى العقول، التي رمت بمعاني القرآن وأحاديث الرسول، وفوضى الأفكار، التي خلت من التسابيح والأذكار، وفوضى الكلام، الذي تحول إلى لغو وخصام، وفوضى الحركات، في الملاهي والممرّات، وفوضى النفوس، لجفاف المعاني وضعف الدروس، وفراغ الرؤوس، وشحن العقول، لا بالفكر، بل بالكؤوس.
أيّها القارئ الحكيم، عليك بفهم التنزيل، فالحقيقة عليا لا يدركها إلا العالمون، وللأرض وارثون، لا بالباطل كما يظنّ الجاهلون، وفي ثناياه تائهون، كما في الصفحة السادسة بعد العشرين، هكذا ورد في الكتاب، لمن سعى إلى فصل الخطاب، وتعلّق بالحقّ ورغب في الصواب، فاحذر روح السامري، وخُوار العجل الذهبيّ، كما قال بن عبود، اذ أصبح لهم معبود، فهذا من اليمين، وذاك من اليسار، وثالث ماسك بذنبه كالحمار، فتساءل هل من سبيل إلى توجيه الرياح إلى الفلاح؟.
أجاب صاحب الشيم، عليكم بشحذ الهمم، يا أهل العزم والقيم، بنشر الأخلاق العالية، وترك الأفكار البالية، فحذار من العدمية، والهروب من المسؤوليّة، فألزم طريق العلم، بالكتاب والقرطاس والقلم، فالفكرة صيد، والكتابة قيد، لإنارة الشريعة السمحاء، والنجاة من الرمضاء، بالسنة الفيحاء، الواردة من السماء، فالدنيا مليئة بالنيام الواقفين، فلا تكن من الغافلين، واسجد حتى يأتيك اليقين، وارحم الضالين، واصبر على المسرفين، وانصح التائهين، حتى يكونوا من التائبين والصادقين الناجين. فلا تكن كصاحب النظر الأعشى، والقلب الأعمى، والبصر الأحول، بل كن من الأبطال، محاربي الفتنة والضلال، فلا تسقط في الاتباع، لأهل الأشياع، الساعين إلى قلب الحقائق والأوضاع، فتلك فئة رعناء، تدّعي المدنيّة العوراء، أرجلهم في الماء، وأنوفهم في السماء، كالدهماء في الليلة الظلماء، وكالبدر المنير ليلة الثلاثين، فلا تثّاقل إلى الأرض، وتنسى الفرض، وتبايع بالعرض.
أيّها المهديّ، سلام عليكم، سلام على روحك، سلام عميق، من طالب وصديق، فأنت وديعتنا عند إله رحيم، هداك إلى الطريق المستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.