الهوية واللغة في مواجهة المد الفرنكفوني وإعصار العولمة(إبراهيم القادري بوتشيش)_2_
2- إخفاقات المقاومة التعريبية :
من البديهي أن تفرز هذه الموجة الفرنكفونية الرامية إلى اقتلاع جذور اللغة العربية مقاومة من قبل الغيورين على الهوية المغاربية . وقد وعت الحركة الوطنية المغربية منذ الثلاثينيات من القرن الماضي بالإستراتيجية الفرنسية الاستعمارية ، فأعلنت المقاومة والرفض للظهير البربري الذي سعى إلى شق الوحدة الوطنية . ولم تتوان عن إنشاء المدارس الحرة للدفاع عن اللغة والهوية العربية الإسلامية لمواجهة إكراهات الفرنسة المفروضة على المغاربة في النظام المدرسي الفرنسي [1] .
وفي سياق الوعي بخطورة المدّ الفرنكفوني ، كتب الأستاذ علال الفاسي أحد زعماء الحركة الوطنية البارزين ما يلي : (( نجد في تاريخ المغرب القديم صراعا مستمرا بين نفوذي العائلة اللاتينية والعائلة التي تسمى اليوم بالعربية …ولكننا نجد أن النصر كان دائما حليف هذه الحضارة العربية التي تكوّن الأصل الأصيل لحضارة البحر الأبيض المتوسط)) [2] . بيد أن إيمانه بحتمية الانتصار على الغزو الفرنكفوني ، لم يثنه عن الوعي بخطورته على مسار الهوية المغاربية ، لذلك خلص إلى الاستنتاج أن (( الاستعمار الثقافي – الفرنكفوني – هو أخطر استعمار )) [3] .
لقد اعتبرت الحركات الوطنية في دول المغرب العربي أن الدفاع عن اللغة العربية جزء لا يتجزأ من الدفاع عن الهوية المغاربية ، لذلك فإن كل العرائض والمطالب التي كانت تقدمها لسلطات الاحتلال الفرنسي كانت تصب في هذا الاتجاه ، وتخصص حيزا هاما في بنودها لطرح إشكالية اللغة العربية باعتبارها حجر الزاوية في الهوية التي تدافع عنها تلك الحركات . وقد قدّم كل من علال الفاسي والحسن الوزاني وغيرهما من رواد الحركة الوطنية بالمغرب العربي دورا بارزا في الدفاع عن اللغة العربية ، فعملوا على إنشاء المدارس الحرة التي كانت تعنى بتدريسها وتلقينها لأبناء المغرب العربي كرد فعل مقاوم ضد هيمنة اللغة الفرنسية .
وبالمثل ، وظف الوطنيون أقلامهم لنشر فكرة ارتباط المغاربة بهويتهم ولغتهم العربية فأصدروا مجلة ” المغرب ” Le Maghreb لتحسيس الرأي العام الفرنسي بمطالبهم اللغوية ، بل وظفوا كذلك قرائحهم الشعرية ، فنظموا قصائد تعلن الرفض للاجتياح الفرنكفوني الذي يعمل على تدمير الهوية المغاربية وإقصاء اللغة العربية . ونورد في هذا السياق بيتان شعريان لهما ارتباط وثيق بالموضوع ، نظمهما الأستاذ علال الفاسي رحمه الله جاء فيهما :
نحن للضاد ولا نرضى سواها مازغ آخى عليها يعربا
قد ورثنا عنهما نحن فــداها ما بقينا أبدا لن تنكبـا
وبعد الاستقلال ، أولت الحكومات في دول المغرب العربي عنايتها لمسألة التعريب ، خاصة حكومة الجزائر في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين ؛ ولكن هذه الحكومات ظلت مترددة ، وبقي طابع الاحتشام يشوب خطوات التعريب . ومن تجليات هذا التوجه الخجول نحو إقرار اللغة العربية كلغة في المعاملات الإدارية ورد الاعتبار للهوية المغاربية ، نسجل الخطوات التي اتخذتها الحكومة المغربية في الثمانينيات إبان تولي حزب الاستقلال حقيبة وزارة التعليم ، حيث أصدرت عدة مراسيم في هذا الشأن دون تطبيق فعلي. كما أن الجزائر اتخذت مبادرات مماثلة ، حيث صدر قانون تعميم استخدام اللغة العربية في الجزائر بتاريخ 5/7/ 1998 بتوقيع الرئيس الجزائري الأمين زروال ، وذلك بعد سنوات من تجميد قانون سابق لتعميم اللغة العربية كان قد صادق عليه البرلمان الجزائري سنة 1990 . كما أسست في الجزائر أيضا هيئة تعنى باللغة العربية ، أطلق عليها اسم (( المجلس الأعلى للغة العربية )).[4]
وفي تونس ، أولى القانون التونسي في مجال التربية والتعليم أهمية للهوية واللغة العربية فنصّ في أحد بنوده على واجب (( تمكين المتعلمين من إتقان اللغة العربية بصفتها اللغة الوطنية )) ، حتى يترسخ الوعي بالهوية الوطنية التونسية ، وينمو لديها الحس المدني والشعور بالانتماء الحضاري وطنيا ومغاربيا وإسلاميا [5] .
بيد أن هذه الإجراءات الحكومية لم تكن تمتلك الجرأة الكافية أثناء مرحلة التطبيق ، لذلك ظلت معظم الإدارات في دول المغرب العربي تستخدم اللغة الفرنسية باستثناء بعض القطاعات كالقضاء ووزارة العدل . ولم يقم المجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر بالدور المنوط به ، فتعرض لانتقادات المدافعين عن اللغة العربية [6].
بات بديهيا في ظل إخفاق مقاومة حكومات المغرب العربي ، أن تتولد مقاومة المجتمع المدني المتمثل في الأحزاب والبرلمانات المغاربية .
في هذا السياق ، كثيرا ما أثار البرلمان المغربي مسألة تهميش اللغة العربية في مجال التعليم [7] . وفي الجزائر أيضا ساءل النواب الجزائريون – خاصة المنتمون منهم للتيار الإسلامي والوطني المعادي للتيار العلماني الفرنكفوني – حكومتهم حول عدم التزام بعض المؤسسات الإدارية باستعمال اللغة العربية في معاملاتها [8] .
أما في موريتانيا فقد رفض أحد النواب البرلمانيين عن حزب التحالف الشعبي التقدمي التوقيع على عقد اتفاقية مع الصين بسبب أن الاتفاقية المذكورة كتبت بلغتين : إحداهما اللغة الصينية عن الجانب الصيني و الأخرى اللغة الفرنسية عن الجانب الموريتاني ، دون ذكر لأي جملة بالعربية في نص الاتفاقية . كما انتقد البرلمانيون الموريتانيون تنظيم الدورات التكوينية التي تجري للمسؤولين الموريتانيين في اللغة الفرنسية ، دون تخصيص ولو دورة واحدة في اللغة العربية[9] .
وفي نفس المنحى ، انعكست مقاومة المجتمع المدني الموريتاني في إصدار بيانات حزبية تطالب فيه حكومتها باستعمال اللغة العربية ، وحسبنا البيان الذي أصدره حزب الصواب الموريتاني ، ويتضمن انتقادا شديدا لرئيس اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات على إلقاء كلمته باللغة الفرنسية ، معتبرا ذلك مسّا بالهوية الموريتانية ، ومؤكدا في نفس البيان أن اللغة العربية (( هي الحارس الأمين للهوية الموريتانية )) [10] .
ولم تقتصر مقاومة المدّ الفرنكفوني وتهميش اللغة العربية التي هي ركن الهوية المغاربية على البرلمانات والأحزاب السياسية ، بل تعدتهما إلى القوى الجماهيرية التي نظمت حركات احتجاج ضد استعمال اللغة الفرنسية وإقصاء اللغة العربية في الندوات و الملتقيات[11]. كما انعكست هذه المقاومة الشعبية للمدّ الفرنكفوني في تراجع شعبية التلفزيون الفرنسي في دول المغرب العربي ، و لا غرو فقد كشفت دراسة سنوية نشرها مكتب الدراسات المتخصصة في دول المغرب الثلاث ( المغرب ، الجزائر ، تونس ) ، وهي دراسة موضوعية ومعززة بالأرقام ، عن تراجع شعبية محطات التلفزة الفرنسية في دول المغارب الثلاث لصالح محطات عربية[12]، وهي إشارة إيحائية ، تنم عن رفض شعبي واحتجاج رمزي ضد الهيمنة الفرنكفونية .
وفي سياق المقاومة ضد الفرنكفونية ، أثبتت دراسة أخرى وإن كانت خاصة بتونس فحسب ، أن الطلبة التونسيين رغم استعمالهم اللغة الفرنسية ، فهم متشبثون بروح الهوية الجماعية العربية ، وأن الشاب التونسي يحدد هويته من خلال الاختلاف مع الثقافات الأخرى ، خاصة الثقافة الغربية[13].
وعلى الرغم من كل هذه الأشكال المجسدة لمقاومة المدّ الفرنكفوني وإعادة الاعتبار للهوية المغاربية التي اضطلعت بها الحركة الوطنية المغاربية إبان الحقبة الاستعمارية ، والمبادرات الخجولة التي قامت بها الحكومات المغاربية في عهد الاستقلال ، والمقاومة السلمية التي شنتها البرلمانات والأحزاب السياسية وحركات الاحتجاج الشعبية ، فإن الموجة الفرنكفونية لم تهدأ ، ولم ينجح التعريب إلا في قطاعات محدودة جعلت المقاومة التعريبية تكون أقرب إلى الإخفاق منها إلى تحقيق الأهداف ، بل ثمة أحيانا تراجعات عن المكتسبات المحققة -على ضآلتها- ؛ فالتعليم الأصلي بالجزائر الذي كان مشروعا تعريبيا يتوخى بناء الهوية الجزائرية ، ألغي بقرار تعسفي من أعداد العروبة [14] . كما فشلت سياسة تعريب الإدارات العمومية في كل من تونس والمغرب وموريتانيا . ورغم إسناد وزارة التعليم لحزب الاستقلال في المغرب ، وهو الحزب المعروف بدفاعه المستميت عن التعريب ، فإنه لم يسجل تحولا ملحوظا في هذا الاتجاه . ولحد الساعة ظل إنشاء أكاديمية محمد السادس للغة العربية مشروعا لم ير النور بعد ، رغم صدور قانون إنشائها الذي صوتت عليه كافة الكتل البرلمانية سنة 2003 ، وذلك بسبب ضغوطات اللوبي الفرنكفوني الذي يتحرك من خلف الستار .
ونستند في تحليل هذا الإخفاق الذي لحق بالمقاومة التعريبية إلى بعض الدراسات الإحصائية والتحليلية التي أبانت أن معيقات التعريب بتونس تعزى إلى غياب إرادة سياسية بنسبة 30% ، وإلى اغتراب النخبة وتكوينها الأكاديمي بنسبة 29% ، ثم إلى تبعية الأنظمة المغاربية بنسبة %17، وعدم توفر شروط التعريب بنسبة 17% [15] ، أما النسبة المتبقية فهي دون تحديد للأسباب.
وبخصوص الجزائر ، يرى البعض أن سبب فشل التعريب يعزى إلى كون القائمين علي هذا المشروع كانوا إبان عزّ التعريب الذي وافق عهد الراحل هواري بومدين ينتمون إلى الفئة المتفرنسة [16] ، بينما يحيل البعض إلى الماضي الاستعماري ، فيشير إلى عائق القانون الاستعماري المستدخل intériorisé ، والمترسخ بقوة حول مفاهيم التقدم والحداثة ، إذ يرى هذا القانون أن التعريب هو عودة إلى الماضي وإلى الظلامية والنكوص نحو التخلف [17] . ويضيف ” غرانكيوم ” عاملا وجيها وعميقا في فهم إخفاق المقاومة التعريبية ، مفاده أن السياسة التعريبية بالمغرب العربي ارتبطت بهدف إعداد لغة تؤدي أداء دقيقا سائر وظائف اللغة الحديثة وتنقل محتوياتها العصرية ، مما قادها إلى التشبه باللغة الفرنسية ؛ فبعد التعارض الذي كان بين العربية والفرنسية ، وبعد أن ظلت العربية في منأى من العدوى الغربية ، ستجد نفسها فجأة مهددة بالاندماج في القيم الغربية ، وبذلك أفضى الأمر إلى السعي لملء جوف اللغة والثقافة العربيتين بمحتوى أجنبي في إطار التعريب ، وبواسطة اللغة العربية نفسها ، وهو ما عجز عنه الاستعمار الفرنسي ذاته بعد أن اصطدم بمعارضة شرسة من قبل المدافعين عن الهوية المغاربية. وبهذا التحليل السويّ عبّر ” غرانكيوم ” عن أزمة تعريب الهوية المغاربية بقوله : (( وظيفة سياسة التعريب هي استرجاع سلطة الأجنبي المستعمر لفائدة الدولة الوطنية )) ، مع محاولة إعطائها الصبغة الشرعية عن طريق إضفاء طابع الإسلام عليها [18] .
من جهة أخرى يعزى إخفاق التعريب أيضا إلى التناقض الذي تعيشه النخبة الداعية للتعريب، والمتمثلة في بعض قيادات الحركة الوطنية والفئات الميسورة التي اقتنعت بأن اللغة الفرنسية هي لغة الخبز، و أن من الصعب على المرء أن ” يشق طريقه ” في المجتمع ويحصل على المناصب العليا دون الاعتماد على اللغة الفرنسية ، لذلك فضلت تلك النخبة توجيه أبنائها وبناتها منذ بداية الاستقلال للدراسة في مؤسسات البعثة الفرنسية ، فنابت بذلك عن فرنسا – ولو لم تكن تقصد – في تقوية التيار الفرنكفوني[19] .
وفي السياق ذاته ، تولد لدى النخبة الثقافية والسياسية الحاكمة صاحبة المال والنفوذ والقرار بدول المغرب العربي أنه لا يمكن تسيير وإدارة دواليب الحياة العربية إلا بلغتين الفرنسية والإنجليزية، وذلك للحفاظ على مصالحها الشخصية وتلميع صورتها في نظر الدول الغربية التي تتملق رضاها بأنواع شتى من مظاهر التزلف والخنوع والتنازلات ، ومن أخطرها تعطيل استخدام العربية في التسيير العام لشؤون المجتمع [20] .
و لانعدم من الدلائل ما يشير إلى التدخل الفرنسي لعرقلة التعريب بالمغرب العربي ، والنموذج المتاح في هذا الصدد هو موريتانيا . فما إن اتخذ قرار التعريب حتى بدأ يصطدم بالتيار الفرنكفوني ، وهو ما عكسته أحداث سنة 1966 الدامية حين رفضت النخبة المتغربة من الأفارقة آنذاك تعريب التعليم . وكان واضحا أن أيادي فرنسية تدخلت في اندلاع تلك الأحداث لجعل اللغة العربية عاملا مفرقا بين مكونات الشعب الموريتاني[21] . كما أن أحداث منطقة القبائل بالجزائر لا تخرج عن هذا السياق . أما في المغرب فإن التعثرات التي عرفتها مسيرة التعريب ، وعدم إجابة الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان عن سؤال حول هيمنة التوجه الفرنكفوني على الثقافة الوطنية ، يؤكد حجم هيمنة الفرنكفونية في أوساط صناع القرار الوطني الذين يعاكسون الحق الدستوري للغة العربية في صيانة الهوية الوطنية [22] .
مجمل القول أن المقاومة التعريبية جسدت صراعا بين هويتين : هوية فرنسية تريد أن تفرض نفسها على بلدان المغرب العربي ، وهوية عربية تصر على أن تحتل اللغة العربية مكان السيادة في تلك البلدان ، وتعتبر أن إحدى مقومات هويتها قد انتهكت .