الهوية واللغة في مواجهة المد الفرنكفوني وإعصار العولمة(إبراهيم القادري بوتشيش)_3_
3- اختراقات العولمة للهوية المغاربية :
لا مراء في أن تيار العولمة الذي أصبح يكتسح الشعوب بكل ما أتيح له من ترسانة تكنولوجية وسلطة إعلامية وتوسع وجغرافي ، وما يبشّر به من مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان والنمط الحضاري الأحادي الكوني المبني على قيم الحداثة وما بعد الحداثة ، أعاد طرح سؤال الهوية العربية عامة والمغاربية خاصة . فالقوة الإعلامية التي يمتلكها صناع العولمة تغيّر يوميا من سلوكيات المجتمعات التقليدية وأخلاقها وأعرافها ونظرتها لمخزونها الثقافي وموروثها الحضاري [1] ، وتجبرها على الانتقال من مستوى التوحد الثقافي إلى التعددية الثقافية ، ومن القومية الواحدة إلى القوميات المتعددة ، ومن الهوية الواحدة إلى تعدد الهويات . لقد أصبحت جملة من الأسئلة الجديدة تطرح على الهوية المغاربية نتيجة هبوب رياح العولمة عليها ، وذلك من قبيل : هل تقتصر هذه الهوية على المكون العربي أم تتمطط دائرتها لتشمل الهوية الأمازيغية كبديل وليس كنتاج حضاري مشترك ؟ علما أن الانسجام التام كان قائما على قدم وساق بين العنصرين العربي والأمازيغي على مدار التاريخ. وكيف يمكن عن طريق الإصلاح تكييف الهوية المغاربية مع قيم القرية الكونية ؟ وما هو مصير اللغة العربية في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المقلقة التي أصبحت تزعج الهوية المغاربية.
يستشف من حصاد هذه الأسئلة وغيرها أن الهوية المغاربية واللغة العربية تتعرضان اليوم لإكراهات داخلية وضغوطات خارجية تتجلى في توصيات المؤسسات المالية الدولية التي ما فتئت تدر علينا النصح بالإصلاح التربوي عن طريق إدماج التعليم ضمن قيم العولمة ، والإصلاح السياسي عن طريق بناء الديموقراطية وحقوق الإنسان ، وإقرار التعددية الثقافية والتربية من أجل السلام الدولي ، وفرض اللغة الإنجليزية والتوجه نحو التعليم الخاص والبعثات الثقافية الأجنبية للتكيف مع قيم العولمة وتوسيع ثقافة الإعلام من فضائيات وإنترنت، وكلها قيم تصب في تغيير الهوية وتذويب الثقافات الوطنية وإفراغها من ثوابتها وسلب مكوناتها بما في ذلك اللغة ، وجعلها رهينة لنمط ثقافي واحد هي ثقافة المركز المهيمن بزعامة أمريكا . وقد سبق أن أكد الرئيس الأمريكي ” جروفر كليفلاند ” في إحدى خطبه بأن (( دور أمريكا الخلاق هو تحضير العالم ليصبح أمة واحدة ، تتكلم لغة واحدة )) [2]، وهي إشارة صريحة إلى الهدف الاستراتيجي الذي يقوم عليه النظام العالمي الجديد ، وهو إقصاء اللغات الوطنية وإحلال اللغة الأنجليزية محلها ، مما يشجع دعاة الهوية اللاوطنية القائمة على تجاهل كرامتها وقيم تاريخها. ويخيل إلينا أن الفضاء الأورو- متوسطي يعد انعكاسا أمينا لتلك الضغوطات التي تروم إخضاع الهوية المغاربية وخصوصياتها لفضاء قوي يفرض وصايته على الهويات الضعيفة. كما وأن الدعوات الطائفية القبلية الضيقة التي بدأت تستنبت في بلدان المغرب العربي ، والدعوة لمقاطعة اللغة العربية وعدم استخدام الحروف العربية ، تعد بدورها انعكاسا لمشروع إضعاف الهويات المغاربية.
وإذا كان المثقفون الفرنسيون أنفسهم قد ” استشعروا عن بعد ” بخطر اجتياح العولمة للغتهم الفرنسية ، فاستعمل بعض كتابهم تعبير ((المطرقة الثقافية الأمريكية )) كتعبير عمّا يرونه استسلاما أوروبيا ثقافيا للهيمنة الأمريكية ولغتها الأنجليزية ، ودعوة لمقاطعة هذا النموذج [3] ، فإن هويتنا المغاربية توجد اليوم في مأزق أكثر خطرا من الفرنسيين ، إذ يتم تجاذبها بين النموذج الغربي الكوني والنموذج الوطني ، وهو ما يجعلنا نعيش حالة انفصام مع أنفسنا ، نكره النموذج الغربي ولكننا نستلذ بثمار حضارته ، ونفخر بهويتنا ولغتنا ونتمسك بها ظاهريا ، ولكننا نعيش بعيدا عنها في واقعنا ، ونتحدث بلغة ربابنة العولمة ونحتقر لغتنا . إنها حالة ناجمة عن وجود بعدين للهوية : الأول تاريخي مبني على الذاكرة الجمعية ، ويعبّر عن جوهر ثابت سرمدي ، وآخر عملي نفعي يقيم معنا في الحاضر ، وقد اقتحم بيوتنا ومحيطنا وفكرنا [4].
إن الاستلاب اللغوي الذي تطمح العولمة إلى تحقيقه هو جزء من الاستلاب النفسي والجسدي والروحي والثقافي والاقتصادي الذي تفرضه على الشعوب الفقيرة سياسياً لصالح منظومات فكرية تدخل تجربة الوعي في حداثة ، ندعوها بـ “كوننة الوعي الحداثي” بحجة أن سائر لغات الشعوب، خاصة في الشرق، مكوّنة من دلالات تكتنفها أساطير قديمة متخلفة. وسعيا منها لردم جسر الهوة اللغوية بين الشرق والغرب، ودمج المجتمعات ومزاوجتها ومصالحة الخصوصيات لخلق مجتمع مدني موحد، تتم رعاية مصالحه تحت ظروف وفلسفات متجانسة تحكمها منظومات معينة تضمن لها أمنها وسيادتها، وتؤمن لها حاجاتها ، وتسعى إلى جعل لغة الآخر المنفتحة تطغى على اللغة المنغلقة للشعوب، بحجة تخليصها من الانغلاق[5] .