الوجود المشروط الإنسان الأخير(2) الهوية الوجودية- عبد الحق دادي
من الصعب الإجابة عن أسئلة لا يهتم بها المجتمع، وقد يكون الجنوح إلى الأسئلة الغريزية المركونة في ثلاثية النهاية أكل، شرب، وتناسل، جنوحا إلى السلم الهابط إلى قواعد السفول، ومن يستطيع القول إن جملة الوسائط هي التي حددت مسلك الحياة، وخدعت العقول والفهوم، زخرفا من القول وزورا، بمركبات مصطفة في نوازل مصفوفة على قواعد معجمها الثقيل، لتصغى إليها أفئدة غارقة في أوحال الطفولة البشرية.
إنها أسئلة تحرج العقل، وتعصف بكل معدلات الوعي القائم على التوازن اللحظي العابر، إنها مساءلة تتجه إلى العمق الوجود الإنساني الفردي والجماعي، إذ الهوية تستقر على محمولات ثقافية، واجتماعية، ونفسية، منسوجة بخيوط الوعي ألتلاحقي عبر مدرج التاريخ، بل إنها تعرية تراجعية لكل المكونات المخبوءة في بواطن اللاوعي الجماعي والفردي
لقد شكل هذا التحول العنيف، الذي دشنه العصر الحديث مظهرا ابيستيمولوجيا ورافعة للتحرر والتمرد على الكليات المهيمِنة، وصارت الذاتية subjectivité وما يرتبط بها من محددات أخرى؛ كالوعي، والإرادة، والحرية، والمسؤولية، والتمثلات المرتبطة بها، نموذجا مرجعيا لتقييم النموذج الحداثي برمته؛ في العلم والمعرفة والسياسة والأخلاق والاجتماع والاقتصاد والفن والدين… وهو الأمر الذي بلغ ذروته مع عصر التنوير وحلم “التقدم” الذي راود مفكريه.
لقد ساد التصور الفرداني الذّرّي على عناصر الوصف التدرجي، بدءا من ديكارت ونزعته المونولوجية Monologique، وفلاسفة العقد الاجتماعي الذين تنكروا للمبدأ الأرسطي القاضي بفطرية الاجتماع الإنساني، وانتصروا لفكرة أسبقية الفرد على المدينة، متمردين على جميع القيم الاجتماعية، مسترشدين في كل ذلك بنموذج المدرسة الكلبية، [1]. ورغم إقرارهم للمبدأ التعاقدي المحدد للعلاقات الاجتماعية، إلا أنهم حوّلوها من طابعها الضروري والطبيعي إلى طابع إمكاني اصطناعي، ومن كونها مبدءا مؤسسا إلى اعتبارها مؤطرا وظيفيا ، وهكذا أضحت الفردانية هي قاعدة التمركز، والفرد هو قوة الدفع، والأنا مهيمنة على النّحن.
لقد بلغ هذا التصور الفرداني الذري مستوى أعلى مع الحركة الرومانسية في نهاية القرن الثامن عشر، وذلك من خلال دفاعها عن مبدأ الأصالة Authenticité بوصفها وفاء للذات. لكن مع نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر ستجد الفلسفة واحدا ممن انتبهوا إلى مزالق التصور الفرداني ومتاهاته، وهو الفيلسوف الألماني هيغل الذي سيعيد الاعتبار إلى الكل وإلى العلاقة الجدلية، ويتجلى ذلك في دفاعه عن البينذاتية Intersubjectivité كواقعة أنطولوجية يتعذر تجاوزها، وفي تعريته عن أوهام العزلة والاستقلالية والاكتفاء الذاتي التي رسختها المذاهب الفردانية الذرية، وهو الأمر الذي سيغدو مركزيا، في ما بعد، في العديد من الاتجاهات الفلسفية لعل أبرزها الفينومينولوجيا والوجودية.
لقد أخطأ فلاسفة القرن الثامن عشر من أمثال (غوتة) عندما أعلنوا أن الإنسانية المتأصلة في الإنسان ستقوده إلى التخلص من الذاتية الوجودية، ويعيد تصنيفها بعد الوجود الكلي المتعين، في دائرة الدوافع والقوى المتعارضة.
إن الدوافع البشرية غارقة في سديم الوهج اللحظي، حيث يتيه العقل في جمع هذا التفتيت المبعثر في الوجود اللامتناهي من الأوهام والأحلام والحقائق، وفي ومضة واحدة تكسر عمق الزمان والمكان، وتتساوى أعراض الوجود، حيث الحقيقة هي ذات الوجود، فتتحول الأحلام إلى حالة التعين، وتتلاشى المسافة الفاصلة بين أقطار هذه العوالم، وامتداداتها في سلك الوجود.
لقد كان هذا الوجود القلق مشروطا بعاديات الدهر، وخطوب القدرة القاهرة، ونوازل التعيينات المتأرجحة بين الممكنات في دائرة الوجود، فتناسلت أسئلة حرجة عن الاين الذاتي والاين المفارق، وعن الكيف قبل تشكله، أسئلة تناسلت من رحم الجهل، ومن ترائب العجز والضياع، وقد يفرح العقل حين يجوس خلال هذه الأسئلة، ذلك أن العجز عن الإدراك أدراك، والوعي بحالة التيه تحق.
إن الهوية هي جماع هذه العوارض حين يتحرر العقل من قيود السؤال، ويدخل صرح الوجود المستقل، وضرورات الحياة المشروطة؛ فيستعير منها صورة عن حقيقته، قبل أن تنعكس على مرآة الأحداث المقعرة، وتتحصن بقوانين العلل المرجحة، ومقتضيات البدايات والنهايات المفارقة للوجود الذاتي المتعين.
لقد أفلح الفكر الميتافيزيقي من الاستيلاء على مساحة شاسعة تركها الفكر العقلاني سهوا منه أو تغافلا، انه الركن المظلم، والمرتبط بالبعد المأساوي للحياة، الذي يلخصه سؤال انفزاع العقل، كيف نتحمل فكرة الوجود العرضي، وكيف نتشرب فكرة الفناء، وكيف نقفز على حواجز الامتداد الزماني والنوعي للجنس البشري لنمسك بخيوط الترابط التي تشهد على وحدة هذه العوالم وتفردها، انه تأمل عميق في وحدات الوجود، ومصنفات العوارض الممكنة والمستحيلة التي تدخل في دائرة الإمكان.
أن الهوية تشترط على نفسها ثلاثة عناصر، هي شرط تحققها: الشرط الأول، شرط وجودي يحدد البدايات والنهايات، ويعين الحدود الفاصلة في التعيينات من حيث الوجود المطلق، والوجود الخاص، ثانيا الشرط الوظيفي، والمخصص للغايات الوجودية الموحدة والمنفصلة، والشرط الثالث يعين مقتضيات التحقق، ويهم ضوابط الإرادات، والنوازع، وتقييم الأولويات وشروط الفعل المنسجم مع الشرطين السابقين.
إن التأمل في حقيقة الهوية الفردية والجماعية، تتحقق عندما يحصل الوعي بهذه الشروط، ويتحقق الفهم المفارق للتعيينات الجزئية المرتبطة بالوجود الفرعي، اللاحق، كاللغة، والقبيلة، الأصل العرقي، ويرتبط بالوجود المطلق عوض الوجود العرضي، وبالشرط الوظيفي المحدد للغايات عوض الوقوف عند حد النهايات الثلاثة: أكل، وشرب وتناسل، ويتحقق من ضوابط الإرادات والنوازع، عوض الشرود في حماة التعصب والخوف.
إن كل مقاربة للهوية من داخل هذه البوتقة، يسوخ بالإنسان في لجة لزجة ممردة من قوارير مقعرة تعكس صور الأشياء بتماثل تتخطفه أوهام علقت في جوانب الإدراك، ولم يستطع الوعي التخلص منها؛ فيعينها في قوائم التخلص من المدركات المشروطة حيث يستلهمها الفكر العقلاني بمقولات مموهة ومضللة.
لقد تعين من هذه الملحقات، ان الهوية بهذا الفهم هي المرجعية المحددة للمنظومات الأساسية الثلاثة: الوجود المطلق المحدد للبدايات والنهايات، وهو مقوم كلي وشامل، للغايات، وحركة الوجود المشروط زمانا ومكانا، ثم الوجود المشروط الذي يحدد منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية، الفردية والجماعية، يليه الوجود الانفعالي المرتبط بالرادة، والمحقق لحركة الفعل المؤسس، الذي يستمد تعينه من المعنى الكلي المطلق، والتعيينات، والغايات الكلية والمطلقة.
[1] -هو مذهب فلسفي اسسه الفيلسوف الغريقي انتيستينيس في القرن الرابع قبل الميلاد وهو من تلاميذ سقراط، واكبر على يد اديوجين الكلبي ،وزينون الذي اسس المذهب الرواقيي ، وتقوم مبادئ هذه المدرسة على التمرد على الأطر الاجتماعية والارتباط بالطبيعة ، والطفولة البشرية.