الوعي العربي في مواجهة التفكيكية (يوسف محمد بناصر )_1_
تعد مرحلة التأسيس لمنهجية ديمقراطية بدول الربيع الديمقراطي مرحلة أساسية، إذ لا بد من إعادة الاعتبار إلى القيم والمفاهيم الجديدة التي سترسم عليها أهداف الثورة ومطامح الشعوب العربية.
وللأسف يبدو أن بعض هذه الشعوب انخرطت بوعي أو بدونه في مأزق تناقضي بين إرادة الديمقراطية وإرادة التأسيس لهوية منغلقة على أفكار تاريخية تعود إلى مرحلة متجاوزة وترفض تدبير الاختلاف وتؤزم الذات، مما أوقعها في فخ الصراعات الداخلية، سواء تعلق الأمر بصراعات ذات بعد عرقي أو مذهبي أو ثقافي هوياتي، وهذا النوع من الصراع لم تقدر الفئة المثقفة على تفكيكه كما لم تقدر روح الديمقراطية الناشئة على تدبيره أو محوه. أظن أننا في مأزق مع أنفسنا وصراعتنا الداخلية، فلابد من إعادة التفكير في طريقة لتجاوزها، وبناء مرحلة الثقة بين مختلف المكونات المتصارعة، وبعدها يمكن التفكير في توافقات جديدة تبني وطنا متجددا، وفق تعاقد مرن يحترم الخصوصيات ويسمو بالمشترك بيننا. إن التفكير في تأسيس ثقافة سياسية وحقوقية تلملم جراح ما قبل الثورة والربيع الديمقراطي، قد يتطلب زمنا وتفكيرا استراتيجيا وعميقا، خصوصا أن أمد الاستبداد استفحل وتشرب المواطنون سمومه، والآن بعدما تمكنوا من التحرر لابد أن تتقاذفهم أفكار الانتقام وإعادة الاعتبار لما كانوا يعتقدون أنهم منعوه، مما قد يزيد في تعقيد الانتقال الديمقراطي ونشر ثقافة التعايش بين مكونات المجتمع الواحد.
إن غياب ثقافة تدبير الاختلاف بين الشعوب العربية يزيد الطين بلة، إذ إن أغلب ثقافتنا ومفاهيمنا مؤسسة على النفي وعدم الاعتراف، وهذا الوضع يجب أن يصحح ويعاد الاعتبار إلى الحق في الاختلاف الفلسفي والقيمي والسياسي والهوياتي بين أبناء المجتمع والوطن الواحد؛ حتى نتمكن من الدخول إلى القرن الجديد وقد بنينا صمامات أمان لنا تضمن الحرية والتعايش والقدرة على الاختيار الصحيح.
إذا كان عبد الكبير الخطيبي يدعونا إلى إفراغ الكتابة التاريخية وتطهيرها من المنطلقات التي تقيد الشعب، فإني أستعير منه نفس المعاني للقول بوجوب إفراغ ذاكرة الشعوب العربية التي تعيش على وقع الربيع الديمقراطي، من مفاهيم سلبية مرتبطة بالخصوصيات المغلقة والثنائيات المتناقضة؛ والتي تجعل أغلبها حذرة، وفي بعض الأحيان متهجمة على المخالفين ولو كانوا يتشاركون نفس الوطن وقيم المواطنة. يعتقد الكثير من الفاعلين السياسيين أن مسألة اللعب على تناقضات الهويات والخصوصيات الثقافية والدينية يساهم في تكثيف الحماسة السياسية عند المنتخبين، مما يجعلهم يستقطبون الأغلبية أو يكسبون المزيد من الانتصارات السياسية، وهذا شيء مشين وخطير باعتباره يضرب في السلم الأهلي لأوطانهم ويهدم القيم الإنسانية المبنية على التفاهم والتعايش والحرية وفضيلة الاختلاف.
إن الأنظمة الديمقراطية الحقيقية التي يأمل الكثير منا تأسيسها أو النضال من أجلها لا يجب أن تكون منذ نشأتها محاطة بأسيجة من الحتميات الإيديولوجية غير التنويرية، والتي قد تنعكس سلبا على ثقافة الأجيال الناشئة، فالانغلاق في دائرة الصراعات ينهي الحريات ويقيم الأنظمة الشمولية المتشبعة بالقمع وبفلسفة الإلغاء ومفاهيم الاستبداد، وأظن أن هذا الأمر غير مقبول ومتجاوز خصوصا مع الانفتاح التقني والحضاري الذي يسمح للكثير منا بالاطلاع على آخر صيحات أفكار الأنظمة الديمقراطية وفلسفتها في تدبير الاختلاف والشأن العام عموما.
فالتحرر من فترات سوداوية من تاريخنا العربي والإسلامي يحتاج للكثير من الجهد لتفكيك ذاكرتنا المبنية أساسا على الخوف من النظام الديمقراطي الذي يسمح للجميع بمشاركة أفكارهم، وإعلان قناعاتهم، والعمل وفق القانون والدساتير المتعاقد عليها، دون تجاوزات ولا قمع ولا خوف من الشطط في استعمال السلطة أو النفوذ.
قد يتحدث البعض عن الرجة الثورية التي أصابت بعض دول الوطن العربي وعن ثورة الشباب، ولكنهم ينسون الحديث عما يجب القيام به لإخراج الفعل الثوري من مرحلة الدهشة الثورية والانتشاء الإيديولوجي الذي أصاب بعض التنظيمات، خصوصا منها المرتبطة بالإسلام السياسي، إلى الحديث عن إمكاناتنا القيمية والفلسفية لتأسيس أنظمة تعيد الاعتبار للإنسان وحريته وتحترم الحقوق وتنظم الواجبات بلا تفاضل ولا مصادرات، وفق رؤية تسود فيها المساواة والعدل والحق في الاختلاف وبلا تجاوزات ولا إسقاطات تاريخية لفكر مسه التقادم على واقعنا المعاصر، فالعقلانية والحداثة والمصلحة العامة وغيرها من المفاهيم الحديثة؛ تقتضي المرونة وتثقل كاهل الفاعلين وكذا المواطنين بالتزامات توجه مسار المجتمع الجديد والنظم الوليدة، لتكون أنموذجا يتفاعل مع الحقائق والوقائع المستجدة التي تخدم مصلحة الوطن وتنجيه من فخاخ الاستبداد ونيرانه المحرقة.