الوعي العربي في مواجهة التفكيكية (يوسف محمد بناصر )_2_
يعتبر سؤال التغيير في الوطن العربي سؤالا مهما وغير متوقع إلى زمن قريب في سياقنا السياسي والثقافي، بالمقارنة مع ما شهدته الأنظمة الشمولية من انهيارات في مناطق أخرى مختلفة كأمريكا اللاتينية في الستينيات من القرن الماضي، وآسيا في الثمانينيات وأوروبا بعد سقوط جدار برلين، ولما نضجت فكرة التغيير في نفوس وأفكار الجماهير العربية التي هبت لتنفيذها، لم يمنعها لا الخوف ولا الأنظمة القمعية من الخروج للتظاهر بالملايين في مختلف الميادين، متبنية بشكل براغماتي سلسلة من المفاهيم التي نحتتها المعارضة المدنية ببعض الدول كالإضرابات والاحتجاجات السلمية والمسيرات اللاعنفية والعصيان المدني..، وخاضت هذه الشعوب تجربتها التاريخية بعدما كانت تخاف حتى من التفكير فيها.
إن نجاح الاعتماد على القدرات الذاتية في إنتاج وإنضاج الثورة وتحقيق أهدافها يجعلنا نتساءل عن سبب غياب هذه القدرات الإبداعية عندما يتعلق الأمر بقيم ما بعد الثورة أو الحراك، هل الوعي بمحطات إسقاط الأنظمة وتفكيك قدراتها الرهيبة في التخويف والتنميط
يغيب عندما يتعلق الأمر بإبداع آليات في تفكيك الثقافة الذاتية المنمطة، والتي تجعل الأفراد يقبعون خلف جدران الاستئصال والامتناع عن فتح أبواب التواصل وقبول اختلاف أطراف أخرى لتشاركهم ربما نفس الهموم ولكن من زاوية نظر مختلفة ومخالفة؟
تمكنت التقنية والإعلام من التسويق الجيد لمراحل الثورة ودفعت بشكل جيد بها نحو أفق التأجج لتشهد تحولات أفقية متسارعة، وغير منتظرة في كثير من الأحيان، مما جعل إمكانية إنضاج الكثير من مراحلها وقدراتها في استيعاب اللحظة الثورية، بعيد المنال، بل جعلت التقنية الكثير من المفاهيم مضمرة ومؤجلة بشكل غير مستحسن إلى ما بعد التخلص من الأنظمة الاستبدادية، ليكتشف الجميع أن التحول الواقع يحتاج إلى كثير من النقاش والتساؤلات العميقة، والعمل من أجل نحت خريطة طريق جديدة للخروج من أزمات متتالية أصابت الأنظمة الفتية؛ والتي فقدت في كثير من لحظاتها القدرة على المناورة أو الفعل، بسبب الفوضى والعودة بالنقاشات القهقرى بلا ناظم فلسفي أو قيمي، يجمع الجهود المتباينة لإرشادها وتنظيمها في دوائر توافقية متجانسة تقبل التوافقات ولو إلى حين.
وربما لعبت هنا الفئة المثقفة من الباحثين والكتاب دورا سلبيا لأن أغلب هذه الفئة غير مستوعبة لدورها الحقيقي، فلو تمكنت من وضع مشاريع قبلية جادة واستشراف الأحداث المستقبلية، بما امتلكته من مناهج وآليات تفسيرية واقعية، لما وقع الكثير من اللغط والقلق، ولما استفحل تكرار الأخطاء ولما انحرفت وجهة الاصلاح ومشاريعه، ولا تعددت على إرادة التغيير مداخل التحريف وحركات المغالاة والردة التي قادت نحو إحراق الذات بالعصبية المذهبية والنعرات الطائفية والعرقية بالشكل المأساوي والمقلق الذي نشهده اليوم. إن بناء ثقافة مجتمعية تقبل بالآخر لا تزال غائبة رغم كل هذا الحراك الثوري المشهود في عالمنا العربي.
إن التغيير في عالمنا اليوم لو حسم بلا وعي في الرجوع الانفعالي غير المستوعب لحركة التاريخ من أجل استحضار مفاهيم من قبيل الحرية والعدل والكرامة الإنسانية من تاريخنا القديم؛ لأوقعنا ذلك مرة أخرى في دوائر مغلقة ومحرجة، ولكررنا نفس التجربة التاريخية السلبية كما وعاها المتطرفون المعاصرون وسعوا إلى تنزيلها بشكل كاريكاتوري، ومن جهة أخرى، إن تبيئة المزيد من المفاهيم الغربية التي تناقض ثقافتنا وتحد من قدرتنا على الإبداع وتزكي فينا منطق التابع والمقلد، قد يزيد من تكريس أزمتنا بذواتنا وفهمنا للآخر وعلاقتنا به، وسيشكل شرارة متقدة قادرة على إحراق ما بقي من كرامتنا وهويتنا وأصالتنا في أية لحظة، وللأسف، فقد بدأ الحرق يمتد هنا وهنالك ليهلك الأخضر واليابس في غالبية هذه الأقطار العربية والإسلامية، خصوصا مع ما نشاهده من موجات العنف الديني كتفجير للمساجد وقتل للمدنيين، والعنف السياسي من إعدام للمعارضين، وما يطرأ من أحداث ومواقف غير متوقعة في الساسية الدولية كالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.