الولادة الثانية: صناعة المفهوم في فلسفة الفارابي(عبد الله الطني)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا ومولانا محمد وآله وصحبه، أما بعد..
فإن البحث في فلسفة الفارابي يستمد قيمته _كما يقول إيان نيتون_ من شساعة ما اعتنى به هذا الفيلسوف من قضايا تمتد من علوم الملة إلى العلم المدني أو الفلسفة العملية أو لنقل السياسة بلغتنا اليوم، مرورا بمساحات من النظر والتأمل في قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق والقيم والجمال والخير والشر وغيرها من مباحث الفلسفة الكلاسيكية أو الأفلاطونية المحدثة أكثر تحديدا.
لقد شغل الفارابي(المعلم الثاني) العديد من الباحثين في الشرق كما في الغرب، فأعمال ليو شترواس وريتشارد والتزر ونيكولاس ريتشر وميريام غالستون ويوشوا بارينز وغيرهم كثير ممن أغرتهم متون الفارابي الفلسفية فراحوا _بعشق وانقطاع_يفتشون في المخطوط والمطبوع عن أصولها ويحفرون عن جذورها، ويجتهدون في تحديد الظلال الإبداعية لفلسفة الفارابي التي تعتبر فارقة في عصر الإسلام الوسيط.
ومثلما شغل الفارابي الغرب شغل الباحثين في ورشة الدرس الفلسفي العربي منذ زمن بعيد، وجاءت اهتماماتهم متباينة بين نظريته في السياسة والحكم ونظريته في المعرفة والعلم ونظريته في التربية والأخلاق وكيف أعاد الفاربي صياغة العلاقة بين الدين والدولة في فلسفته وغير ذلك من القضايا والمسائل التي تتراوح بين الكلي والجزئي، ويبقى الفارابي كما يقول إبراهيم مذكور أول من صاغ الفلسفة الإسلامية في ثوبها الكامل، ووضع أصولها ومبادئها.
وفي هذا الكتاب الذي نسعد لتقديمه اليوم في مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية، يقدم لنا أحد أكثر أساتذة الفلسفة العربية انكبابا على تراث الفارابي ومعرفة بدقيقه وجليله الدكتور عبد الله الطني قراءة جديدة لهذا التراث الضخم، من خلال إعادة طرحه لسؤال المفهوم الفلسفي، أو كيف ولد ولادة ثانية من رحم العربية بعد ولادته اليونانية الأولى، وذلك من خلال تتبعه العلمي لطرائق بنائه وتشييده في المنظومة الفارابية، ذلك أن مهمة الفلسفة كما يقول جيل دولوز هي تشكيل وصنع وإبداع المفاهيم.
الاهتمام بالمفهوم الفلسفي عند الدكتور عبد الله الطني هو مقدمة الإبداع في الفلسفة الذي جعل أستاذه طه عبد الرحمن يقيم مشروعه عليه بناء ونقدا، فهو يعتقد أن أحد مداخل الإبداع في الفلسفة هو التعمق في اللسان، ولا يكون إبداع الأمة في الفكر والفلسفة إلا من داخل لسانها، فالفلاسفة كلهم يمارسون رجوعا إلى الأصول اللغوية لمصطلحاتهم ويستثمرونها في بناء أفكارهم، سواء صرحوا بذلك أم لم يصرحوا؛ ويرجع ذلك إلى أن للفظ عند الفيلسوف تاريخا طويلا هو عبارة عن طبقات من الدلالات بعضها فوق بعض، فيريد مبدئيا أن ينزل إلى هذه الطبقات واحدة واحدة، إذ ينظر إلى اللغة كما ننظر إلى الكائن الحي، أي أنها عنده عبارة عن كائن حي يحمل تاريخا.
يمتاز الدكتور عبد الله الطني في تتبعه لمسارات بناء المفهوم الفلسفي وتوظيفه عند أبي نصر الفارابي بسعة اطلاع مبهرة على التراث الفلسفي وعلى المدارس الفلسفية، وعلى الجسور “المتينة” و”المنكسرة” بين “أرخبيلات” الفلسفة، ساعده على اقتحامها اشتغاله المبكر بتدريسها سنوات ذوات العدد، وقيامه بتأطير وتكوين أجيال من مدرسي الفلسفة في شطر كبير من حياته العلمية والتربوية.
في هذا الكتاب يلمس القارئ إلى تواضع الباحث الأصيل اعتداده برأيه واستقلال شخصيته وأسلوبه، ولعل لجيل أساتذته الكبار الذين درس عليهم أثرا في هذا الأمر، ذلك أن الفلسفة التي دَرَسَها الدكتور عبد الله الطني ودَرَّسَها ليست نظريات تلح عليك أن تعتنقها، وإنما قلق وفكر وسؤال متجدد، الفلسفة _كما تعلمنا منه_ تأمل وتفكير حر.
لقد نجح الدكتور عبد الله الطني في حفرياته التحصيلية والتأصيلية عن المفهوم الفلسفي في المنظومة الفارابية، أن يمر عبر حقول معرفية متعددة أملتها عليه طبيعة الموضوع، من غير أن يَظْهَر وهو يمخر عبابها المتلاطم أنه ربان في غير سفينته، فأنت تخاله وهو يمضي مع المفسرين مفسرا، ومع اللغويين لغويا، ومع الفقهاء وعلماء الأصول فقيها وأصوليا ومع أرباب الجدل جدليا، ومع النقاد ناقدا، ومع المؤرخين مؤرخا، يعرفهم ويعرفونه، بينهم من حرارة المؤانسة ما بين المتعارفين.. وكذاك شأن الباحث المتمرس..
ورغم أن هذا العمل تم احتضانه من قبل غزالي العصر (الدكتور طه عبد الرحمن)، إلا أن بصمات أبي الوليد ابن رشد(الدكتور جمال الدين العلوي_رحمه الله_) بادية فيه للمُطالع، فقد استطاع الدكتور عبد الله الطني أن يزاوج في عمله بين رهاني “العلم” و”القيمة” فلا يفترقان، “العقل” و”الروح” فلا ينفصلان..
من نتائج هذا العمل الكبير الذي أتعب فيه الدكتور عبد الله الطني من سيأتي بعده باحثا في “المفهوم”، أن المعلم الثاني يعتبر مؤسسا لمعجم الفلسفة العربية الإسلامية، وأن حضور تصوراته ومفاهيمه ومعجمه الفلسفي لدى فلاسفة الإسلام الآتين بعده، لا يعني بأية حال القول بانتفاء شخصية هؤلاء، أو أنهم مجرد ظل له، أوليس لهم أية إضافات خاصة، بل لقد اتخذ البعض منهم مواقف نقدية واضحة تجاه المعلم الثاني، كما هو الشأن بالنسبة لحجة الإسلام في كتب عديدة من أقواها تهافت الفلاسفة. كما أن لابن رشد نفسه، رغم تأثره به، مواقف نقدية تجاه الفارابي، ويظهر ذلك في العديد من مؤلفاته من بينها كتاب القياس وتفسيرما بعد الطبيعة.
في ختام هذا التقديم الموجز، نرجو من العلي القدير أن يجعل هذا العمل في ميزان حسنات الدكتور عبد الله الطني وأن يجزل له العطاء بما بذل خلال مسيرته الحافلة خدمة للعلم ولأهله، وأن يطيل عمره في طاعته، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين