بحثًا عن التفاحة الحمراء.. سلجوق بَيْرَقْدار مهندس المُسيَّرات الطامح لتغيير العالم(محمد المختار الشنقيطي)_2_
الجذور وذكريات الطفولة في شمال شرق تركيا حيث تنتاب التضاريسَ نزعة للعلوّ، فتمتد اليابسة المُطلّة على البحر الأسود لمصافحة السماء، ترجع جذور أسرة المهندس سلجوق بيرقدار. وكان جده لطفي رئيس صيادًا، قويَّ الشكيمة، فضوليًّا، ذا روح مغامرة. وكان يأخذ معه أبناءه وأحفاده في رحلات بحرية لصيد السمك. وقد هاجرت الأسرة إلى حيّ غريبجه في إسطنبول، الذي يكاد يكون قطعة مستعارة من منطقتهم الأصلية، إذ إن هذا الحي من مدينة إسطنبول أشبه ما يكون ببلدة صغيرة من بلدات البحر الأسود. فقد جمع الحي بين الطبيعة الجبلية والساحلية، وتجمَّع فيه عدد من المهاجرين الغرباء من شتّى مناطق الأناضول. وربما يكون ذلك سبب تسمية الحي غريبجه التي تعني الغريب .
في ذلك الحي ولد سلجوق عام 1979، لأسرة محافظة اجتماعيا، عميقة الحاسَّة الوطنية سياسيا، وفيها صلابة وشجاعة. والمعنى الاشتقاقي لاسم العائلة له دلالة خاصة، إذ تعني كلمة بيرق باللغة التركية العَلَم، وطبقا لكتاب المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية لمؤلفه الدكتور سهيل صابان، فإن لفظ بيرق كان يُطلق في الأصل عند أتراك آسيا الوسطى على قِطع الأقمشة المختلفة الألوان والأبعاد، الممنوحة للأبطال الذي أظهروا بسالة في الحرب ، أما لفظ بيرقدار (ويُنطق تاء بالتركية) فمعناه حامل العلَم .
ويبدو أن الطبيعة تركت بصمتها على شخصية سلجوق وعائلته، فمن البحر استلهم في طفولته ثقافةَ الكفاح، وروح المغامرة والمخاطرة. كما أنه متعلق تعلُّقا عميقا بمنطقة طرابزون، وهي منطقة معروفة بثقافة العمل والجِدِّ، وبتقاليد أهلها العريقة، المنقوعة في القيَم الاجتماعية الإسلامية.
سألت سلجوق لماذا لم يفقد الأمل بعد أن تحطَّمت طائراته المسيَّرة عدة مرات في تجاربه الأولى، بل أصرَّ على تكرار المحاولات وتحسينها، حتى وصل إلى ما يطمح إليه من إتقان. فمن أين له بهذه العزيمة وهذا الإصرار؟ فأشار إلى صلابة والده الذي كان قدوته في هذا المضمار. ثم إلى ثقافة ساحل البحر الأسود ذي التضاريس الجبلية الوعرة. فالناس في تلك المنطقة اعتادوا صعود الجبال لزراعة الشاي وقطفه، وخوض غمار البحر لاصطياد السمك. فثقافة أهل طرابزون ثقافة كفاحية كما يقول سلجوق، لأنها تستلزم مصارعة الأمواج العاتية، وتسلُّق القِمم العالية، وهي الثقافة التي لقَّنها إياه أبواه منذ الطفولة. وهو مقتنع اقتناعا عميقا بأن الإيمان يحرِّك الجبال ، وبأن الضغط يعلِّم الصبر، والصبر يقود إلى النجاح، والتحديات تجعل الإنسان أقوى . كما يؤمن بأنك إذا أردت نتائج استثنائية فعليك أن تعمل بطريقة استثنائية . وكأنما يؤمن سلجوق بحكمة الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين (1799-1837) القائلة: إن الضرب يكسِّر الزجاج، ولكنه يبلِّط الحديد .
وإذا كان لكل إنسان ذكرياتٌ خاصة يستبقيها من عهد الطفولة، وهي تشكِّل وعيه وطموحه المستقبلي، فإن سلجوق لا يزال يحتفظ بذكريات باقية من طفولته، تركتْ أثرها في قلبه وعقله. وقد سألتُه عن ذكريات الطفولة ذات الأثر الباقي في حياته، فذكر منها أن والده المهندس أوزدمير كان شَغوفا بالطيران، وكان يأخذه معه أحيانا -وهو لا يزال في الثامنة من عمره- إلى دروسه للتدريب على الطيران. وفي إحدى تلك الزيارات ركب سلجوق الطائرة مع المدرِّب، فانطبع في ذاكرته الشَّغف بالطيران منذ ذلك اليوم. ومن ذكرياته الباقية أيضا أن والده جلب له مرة مجسَّم طائرة، بعد رحلة له إلى فرنسا.
تخرجتْ والدة سلجوق جَنان من كلية الاقتصاد بجامعة إسطنبول، وعمِلت مبرمجة كمبيوتر في بنك التنمية الصناعية التركي فترة من الوقت، وكانت صارمة في أمر دراسة أبنائها الثلاثة: خَلوق وسلجوق وأحمد. فكانت تعينهم في دراستهم الابتدائية والثانوية، وتضغط عليهم ليجتهدوا ويتفوقوا في الدراسة. أما والد سلجوق، أوزدمير بيرقدار (1949-2021)، فكان مهندسا موهوبا، شَغُوفا بعلم الهندسة، و فضوليا للغاية كما حكى لي ابنه سلجوق. وكان ذا شخصية صلبة، عظيمة الثقة في ذاتها، لا تعرف الاستسلام للصعاب، وتأنف من ضَعف الثقة في الذات الذي ظهرت أعراضه على بعض النخب التركية المتغرِّبة. كما كان أوزدمير شَغُوفا بعمله، لا يعرف الملل أو الكلل. وقد تربَّى سلجوق قريبا من والده، واتخذه قدوة في هذه الأمور. كما جمع بين الوالد والولد شغَفٌ عميق بصناعة الطيران، والتحليق إلى الأعالي، بمعناه الحقيقي والمجازي.
وقد تخرَّج أوزدمير من كلية الهندسة الميكانيكية بجامعة إسطنبول التقنية عام 1972 بشهادة الماجستير، متخصصا في المحركات ذات الاحتراق الداخلي، ثم دشَّن مشاريع صناعية طموحة، في وقت لم تكن في تركيا بِنية تحتيَّة صناعية راسخة. ففي منتصف الثمانينيات أسَّس شركة بايكار ماكينا الصناعية للإسهام في صناعة السيارات وغيرها من الصناعات الثقيلة. ثم اتجه بعد ذلك وجهةَ الطيران، فكان أشهر مشاريعه وأقربها إلى قصتنا، شركة بايكار، التي تولى ابنه سلجوق إدارة أمورها التقنية، وأنتجت في حياة أوزدمير جيلين من الطائرات المسيَّرة. وتلك هي البذور التي سقاها سلجوق ورعاها بعد رحيل والده، حتى استوتْ على سُوقها، وأصبحت من درر الصناعة العسكرية في عَالم اليوم.
وسرعان ما تلاقى شغف الأسرة بالطيران، وانتماؤها الوطني الصلب، مع حاجات الجيش التركي إلى فتح ثغرات إستراتيجية في هذا المضمار، تُعينه في التغلب على العوائق والتحديات. وفيما بين العامين 2005-2009 دخل أوزدمير في شراكة مع الجيش التركي لتصنيع مسيَّرات بيرقدار الصغيرة التي سدَّت ثغرة مهمة في عمليات الجيش الاستطلاعية. وبدأ الجيش التركي استخدام هذه المسيَّرات منذ عام 2012. ثم تطورت العلاقة بين الشركة والمؤسسة العسكرية التركية إلى آفاق أرحب. وكانت مسيَّرات بيرقدار الصغيرة الاستكشافية فتحا مبينا بالنسبة للجيش التركي، لأنها مكَّنته من استكشاف المناطق الجبلية الوعرة، دون مخاطرة بأرواح جنوده.
كان أوزدمير شجاعا جَسورا، لا يتردد في المخاطرة بالسفر إلى المناطق الجبلية الوعرة على الحدود، من أجل اختبار المسيَّرات الاستطلاعية التي صنَّعتها شركته للجيش التركي، ومراقبة أدائها في الميدان. وكان سلجوق وخلوق يصحبان والدهما في تلك الرحلات الخطرة. وأحيانا يسافر سلجوق من مدينة بوسطن في الولايات المتحدة -حيث كان يدرُس- إلى تلك المناطق الحدودية النائية من تركيا، لمشاركة والده وأخيه اختبار أداء المسيَّرات، وتطبيق ما كان يتعلمه في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT) تطبيقا حيًّا في الواقع الميداني. وبهذه الشجاعة والالتحام بجنود الجيش في الميدان اقتنعت قيادة الجيش التركي بأن أوزدمير وأبناءه نمط خاص من الشركاء الملتزمين، الذين يمكن الاعتماد عليهم حقا، وليسوا مجرد رجال صناعة عاديين يبحثون عن الربح وجمع المال.
رسمت كلمات المهندس أوزدمير بيرقدار مسار ابنه من بعده، حين قال: سيستمر عملنا دون كلل، وبكل ذرة من كياننا، إلى أن يحقق بلدنا هدفه، بالتحول إلى دولة رائدة في صناعة الطيران المسيَّر . وتلك رسالة شاركه فيها ابنه سلجوق في حياته، وتابعها بعد وفاته. ففي عام 2021 توفي المهندس أوزدمير، تاركا وراءه ذكرى طيبة، ومشروعا صناعيا إستراتيجيا سيغير تاريخ تركيا بكل تأكيد، وربما سيغير تاريخ الحروب أيضا. وقد حملت عدد من المؤسسات العلمية والصناعية اسم أوزدمير، اعترافا بفضله، وتخليدا لذكراه.