المقالات

بين خطابي الصَّهْيَنَة والفَلَسْطَنَة: (محمد الشرقاوي)_4_

4. شيوع خطاب صهيونية إسرائيل في الغرب 

سارعت إسرائيل والحكومات الغربية المناصرة لها منذ ما قبل 1948 إلى توظيف كافة الاجتهادات في المفاهيم والنظريات ومنطلقات تعبئة الرأي العام لقضيتها. وكان التعليم والإعلام والسينما وكل ما يكرس بنائية الواقع البديل ضمن المنطلقات النظرية المتسقة من أجل بلورة الخطاب المنشود. كانت وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة على رأس ترسانة الأدوات الإستراتيجية لشيوع المشروع الصهيوني وضمان رواجه في الغرب. وكانت نظريات الاتصال والإعلام في بداياتها وسط انبهار الكثيرين بمقولة المنظِّر الكندي، مارشال ماكلوهان (Marshall McLuhan)، التي اختزل بها قوة تأثير الإعلام وقتها بعبارة “الوسيلة هي الرسالة”. وأوضح في كتابه “فهم وسائل الإعلام: امتدادات الإنسان”، الصادر عام 1964، أن “كل وسيلة، من خلال الطريقة التي تُناشد بها الحواس البشرية، تشكِّل تجربة جمهورها بشكل مختلف؛ إذ إن لدى كل وسيلة مجموعة مختلفة من الأجهزة التي تؤدي إلى معالجة الرسالة بشكل مختلف”(32).

جادل مؤيدو هذه النظرية بأن وسائل الإعلام ليست مجرد قنوات لنقل المعلومات بين البيئات، ولكنها في حد ذاتها إعدادات أو بيئات اجتماعية ونفسية متميزة تشجع أنواعًا معينة من التفاعل وتثبط الآخرين. وكان جوشوا ميروفيتز (Joshua Meyerowitz) قد نحت مفهوم (Medium) بمعنى “الوسيلة” أو “الوسيط” للإشارة إلى مجموعة الجوانب التكنولوجية لوسائل الإعلام بما يتجاوز محتواها، وذلك ضمن كتابه “لا معنى للمكان” (No Sense of Place) الصادر عام 1985. وبفعل دينامية الإعلام وتعدُّد القنوات والمنصات خلال العقود الموالية، أصبح المجال العام في الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا مثلًا ساحة تنافس شرس بين سرديات مختلفة تتنافس على “الحقيقة” النهائية، وتتسابق على الأرضية الأخلاقية “العليا”، وتحاول احتكار بناء الواقع “الحقيقي” كل على طريقته. وخلَّف هذا التنافس معركة وجودية أخرى بين قوة المال والتحكُّم في مآل المشروعات الإعلامية. ويجادل إدوارد هيرمان (Edward Herman) ونعوم تشومسكي (Noam Chomsky) بأن وسائل الاتصال الجماهيري في الولايات المتحدة تُعد “مؤسسات أيديولوجية فعالة وقوية تقوم بوظيفة دعائية داعمة للنظام، من خلال الاعتماد على قوى السوق، والافتراضات الداخلية، والرقابة الذاتية، ودون إكراه علني، عن طريق نموذج الاتصال الدعائي”(33). ويُفسِّر عالم السياسة، إيان شابيرو (Ian Shapiro)، كيف أن المنظِّرين غالبًا ما “يفشلون في تقدير أي ادعاء حول كيفية تنظيم السياسة، وأنه لابد أن يكون ادعاءً علائقيًّا يشمل الفاعلين، والأفعال، والشرعية، والغايات”(34).

في المقابل، يقول فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama): إن هناك “عمى غريبًا تجاه أهمية المؤسسات السياسية الذي أثر في العديد من الأفراد على مر السنين، أعني الأشخاص الذين يحلمون بعالم سنتجاوز فيه السياسة بطريقة أو بأخرى” .(35) ومن خلال السرديات المتنافسة في وسائل الإعلام ومدى الاقتراب منها، يميل الأفراد إلى تقييم الوضع الراهن لأنظمتهم الاجتماعية، والتفاوض مع المؤسسات القوية، ومحاولة إقناع بعضهم البعض بالبدائل. ويمكن للمرء أن يجادل بأن اتجاهات تلك السرديات توضح كيف يبني البشر واقعهم من خلال شتى الأطر المعرفية والمعيارية، وكيف يمكن النظر إلى السرديات التي ينفتحون عليها؛ إذ تمثِّل نوافذ على الحياة الداخلية والعوالم الاجتماعية لديهم.

يظل الخطاب الغربي متشبعًا في أغلبه بضرورة وجود إسرائيل وتفوقها العسكري والإستراتيجي على حساب الفلسطينيين وبقية دول الجوار العربي. ويعكس انغماسُ النخب السياسية الغربية في “قداسة” الأمن القومي الإسرائيلي -أكثر من حرصهم أحيانًا على أمن دولهم القومية- مسألتين أساسيتين؛ الأولى: أن عضوية الأمم المتحدة وجلسات وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة هي أدوات وظيفية حسب تقدير حكومات إسرائيل، تنادي بها متى تشاء وترى فيها مصلحة إستراتيجية آنية، أو ترميها عرض الحائط ولا تشعر بأي قلق بوجود الرفيق الأكبر: الولايات المتحدة. ثانيًا: اعتماد الجبروت العسكري وقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء في غزة لا يأتي من جموح شارد، وإنما من قناعة حكومة الحرب حول نتنياهو بأن على الغرب أن يُهندس منطقًا مناسبًا وعقلانية أخرى لإقناع العالم بأن ما تفعله في غزة “رد فعل منطقي وعقلاني ولا غبار عليه”. 

استثمر خطاب الصهيونية ومناصروه أيضًا في نظرية التأطير (Framing theory) إحدى أهم النظريات التي قادت دراسات الإعلام وكيفية اجتذاب الجماهير في العقود الأربعة الأخيرة. وتقوم فكرة التأطير هنا -كما يقول روبرت إنتمان (Robert Entman)- على “اختيار ما ينفع لتلميع بروزه. وهو أيضًا انتقاء لجوانب محددة من واقع مُدرَك، والدفع به نحو هالة من البريق في إيصال النص إلى الآخرين بطريقة تُروِّج لتعريف مشكل معين، و/أو تقديم تأويل عشوائي غير رسمي، و/أو تحديد تقييم معنوي بمعايير القيم، و/أو عرض توصية لكيفية التعامل مع المصطلح الموصوف”(36). ويلاحظ أنه بينما نعيش الآن في مجتمعات شبكية ووسائطية، فإننا غالبًا ما نواجه الصراع ببنية سردية جاهزة ومقبولة ثقافيًّا لشرحها وروايتها، على الرغم من أن هذا الاختيار ليس واعيًا على الأرجح(37). وينطوي خطاب الإعلام في تبنِّيه سردية معينة على تداخل متواز بين هذا التأطير من ناحية وبنائية الواقع الاجتماعي من ناحية أخرى.

على هذا المنوال، كانت التوليفة الإعلامية اليومية تُبرِز خطاب الصهيونية من خلال دوغمائية الخطاب القائل بحق إسرائيل في الوجود، دون استكمال الشطر الثاني، وحق فلسطين في الوجود أيضًا. وتُعزِّز هذا التأطير بمحفزات ثقافية وتاريخية وسوسيولوجية لصالح خطاب دون الآخر مع ظهور قناة “فوكس نيوز” (Fox News) عام 1996 وغيرها من القنوات المتخصصة في خدمة ذلك الخطاب المبرَّز وتبعات مقتضياته الأيديولوجية. وليس من السهل على المشاهد العادي أن يفكِّك الوقائع من الأيديولوجيا، والتأطير من التغطية المهنية المحايدة. وهناك من يجادل بأن نظرية التأطير تُعد في حد ذاتها تركيبًا للواقع الاجتماعي، ولا يفترض وجود تقابل بين تأطير الإعلام والتأطيرات الذاتية للأفراد، مثل ديترام شوفيل (Diertram Scheufele)، الذي يرى أن الأبحاث يجب أن تركز على دراسة التأطير من خلال منطلق نظري شامل (metatheoretical perspective)، وأيضًا للتمييز بينه وبين أبحاث تأثيرات وسائل الإعلام.(38) ويقول غوستاف لوبون (Gustave Le Bon)، في كتابه “سيكولوجيا الجماهير”: إن “الجماهير غير ميَّالة كثيرًا للتأمل، وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية، ولكنها مؤهلة جدًّا للانخراط في الممارسة والعمل، والتنظيم الحالي يجعل قوتها ضخمة جدًّا، والعقائد الجديدة التي نشهد ولادتها أمام أعيننا اليوم سوف تكتسب قريبًا نفس قوة العقائد القديمة: أي القوة الطغيانية والمتسلطة التي لا تقبل أي مناقشة أو اعتراض” .(39)

ويركز آخرون على العلاقة بين التأطير في منحاه الآخر، وهو ما يتجاوز معنى أدوات التأطير وعلاقتها بنظرية تحديد الأجندة، كما يجادل بعض رواد البحث فيها مثل ماكسويل ماكوب (Maxwell McCombs) ، ودونالد شو  (Donald Shaw) ، وديفيد ويفر (David Weaver). وهم يهتمون أكثر بالمستوى الثاني لتحديد الأجندة (second-level agenda-setting) كناية عن التأثير الضمني والخفي الذي تمارسه وسائل الإعلام في تفسير وتأويل القصص الإخبارية الجديدة. غير أن آني لانغ (Annie Lange) تجادل بأن المفهوم الأساسي للاتصال الجماهيري والإعلام هو أنه “عامل تغيير خارجي عن الأفراد وبيئاتهم الاجتماعية المباشرة، فيما تعمل وسائل الإعلام في المقام الأول على تعطيل وتغيير البيئة والشخص”(40).

تابع خطاب الصهيوينة كافة تحولات التواصل والإعلام والمحفزات الكفيلة بأن تتم استمالة الفرد المستهلك للمادة الإعلامية إلى تأييده وترديد مغزاه. ومنذ منتصف التسعينات، اتسع تأثير نظرية جديدة عرَّفها الباحثون الألمان والإسكندنافيون بـ(Mediatization theory)، ويمكن ترجمتها إلى نظرية الأعْلَمَة أو التحكم الإعلامي في الحياة العامة وبلورة قناعات الأفراد ومواقفهم. وقد أثار الكاتب جون تومسون (John Thompson)، عام 1995، ارتباط تطور وسائل الإعلام بالحداثة، وركز على الأشكال الرمزية وأشكال الإنتاج والترويج للمحتوى الإعلامي، ونبَّه إلى التحول الثقافي الممنهج عبر وسائل الإعلام وتأثيرها في التعامل مع الرموز، وتوصل إلى أن مقومات الاتصال والتفاعل عميقة، وأن أثرها غير قابل للتدارك أو الإلغاء. وهنا بلور مفهوم “التحول الإعلامي للثقافة” (Mediazation of culture)، واستخدم مصطلح (mediazation) وليس (mediatization).

واقترح باحث آخر هو روجر سيلفرستون (Roger Silverstone) لفظ (Mediation)، عام 2005، كناية عن التحول المتراكم في المجتمع والثقافة، واعتبره مفهومًا “ديالكتيكيًّا” أو جدليًّا يختلف عن طبيعة التفاعل التقليدي بين الإعلام والجمهور، وحثَّ الباحثين على دراسة عمليات التواصل باعتبارها “منساقة ومتداخلة على المستوى المؤسسي والتكنولوجي”. وعرَّفها كنتيجة تتطلب منَّا أن نفهم كيف تُغيِّر عمليات الاتصال الفضاءات الاجتماعية والثقافية التي تدعمها، فضلًا عن العلاقات التي تربط بين المشاركين، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات، والبيئة العامة وأيضًا ما يجمعهم إلى بعضهم بعضًا”.(41)

يتقوَّى خطاب الصهيونية حاليًّا في الغرب أيضًا بنظرية الأَمْنَنَة التي اتسع ظلها على تطور الخطاب العام منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. وغدت مقولة: “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” من أساسيات الخطاب الغربي. والملاحظ أن تلويح مناصري إسرائيل بهذا الشعار ينمُّ عن دوغمائية جديدة تُسقط عنصر الأمن وضرورة الأَمْنَنَة في كل سياق، وتحويل شتى القضايا غير السياسية أو حتى القضايا العادلة إلى “مسائل أمنية”. وهذا يُفسر توافق إسرائيل والحكومات المؤيدة لها على استخدام كافة الأسلحة والقوة الفتاكة، وإبادة المدنيين، وانتهاك قواعد القانون الدولي الإنساني وكل مواثيق الأمم المتحدة تحت ذريعة “أَمْنَنَة المرحلة” في الصراع الرئيسي في الشرق الأوسط. وقد أوضح باري بوزان، وأول ويفر (Ole Weaver)، وجاب دي ويلد (Jaap de Wilde)، منظِّرو الأَمْنَنَة في مدرسة كوبنهاغن، خلال تعاونهم في معهد أبحاث الصراع والسلام في كوبنهاغن مدى الإطار التحليلي الفضفاض لمفهوم الأَمْنَنَة، وأن الأخطر أَنْ يَسْهُل تحويل قضية معينة إلى قضية “مُؤَمْنَنَة” أو “غير مُؤَمْنَنَة” وفق تقديرات الدولة أو الدول في كل مرحلة. وأهم ما استفادت منه إسرائيل والمناصرون لها في الغرب هو أن الحجة الأساسية التي تقوم عليها الأَمْنَنَة هي أن “الأمن خطاب أساسًا.. خطاب إعلامي” في أصله وتجلياته، وأنه “فقط من خلال تصنيف شيء ما بأنه مشكلة أمنية، فإنه يصبح كذلك”، فضلًا عما يثيره من سياسة الطوارئ والتحلُّل من تطبيق القوانين(42).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق