المقالات

بين خطابي الصَّهْيَنَة والفَلَسْطَنَة: (محمد الشرقاوي)_5_

5. آفاق جديدة في الغرب لخطاب المحنة الفلسطينية

يميل الخطاب المناصر للقضية الفلسطينية في الغرب حاليًّا نحو بنائية موازية تستحضر بعض المنطلقات المعيارية (مطلب إنهاء الاحتلال، والمناداة بالحرية للفلسطينيين، وتشبيه سياسة إسرائيل ضد الفلسطينيين بالأبارتايد أو الفصل العنصري الجديد في الشرق الأوسط). وبدأت تشاكس الخطاب المنافس من داخل منطقه السياسي، وتشكِّك في “أحقية إسرائيل” بالدعم العسكري والمادي والغطاء السياسي من قبل الغرب. ولا يُعفي هذا التحوُّل بعد عن استمرار البناء التظلمي والاحتجاجي والعاطفي في مواجهة الخطاب المؤيد لإسرائيل. وفضلًا عن المظاهرات الجماهيرية الكبرى التي خرجت في عدة ولايات أميركية وأوروبية، كان أضخم حشد جماهيري مناصر للقضية الفلسطينية، في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، عندما سار عشرات الآلاف من ساحة الحرية في واشنطن العاصمة إلى البيت الأبيض في أكبر مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين في تاريخ الولايات المتحدة. وتوجه المتظاهرون إلى بيت الرئيس، جو بايدن، في بلدة ويلمنجتون بولاية ديلاوير وسار مئات المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين على طول الشارع وأعلنوا حضورهم خارج منزله.

يقول أحد المتظاهرين من السود الأميركيين، واسمه جيف ووكر (Jeff Walker)، في مقابلة مع برنامج “الديمقراطية الآن” (Democracy Now): “من المهم بالنسبة لنا أن نكون هنا اليوم، لأننا نرى الاضطهاد يحدث في كل مكان. وإذا سمحنا للاضطهاد بالاستمرار في الحدوث دون قول أي شيء، فسيستمر في التفاقم”. وقد أحضر هذا المواطن أولاده معه لمعايشة أجواء المظاهرة بتفاصيلها. وأضاف: “أقول لهم دائمًا أن يكونوا على الجانب الصحيح من التاريخ، هل تعلمون؟ وبالتأكيد، ذلك لأن الأشياء التي تحدث لفلسطين هي الأشياء التي تعرضنا لها أيضًا، كما تعلمون، في وقتنا في أميركا هنا أيضًا. ولذا، أقول لأطفالي أن يفهموا ما يحدث في هذا البلد، وأُخبرهم بذلك.. أذكر لهم مقولة لمالكولم إكس (Malcolm X)، كما تعلمون: وسائل الإعلام ستجعلك تمدح الظالم وتفضح المظلوم. ولذلك أريد فقط أن يدرك أطفالي: كما دافع الفلسطينيون عنَّا وتحدثوا عن حركة “حياة السود مهمة”، يجب علينا أيضًا أن نتحدث عنهم”(43).

وخلال المظاهرة، أوضح المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية، نهاد عوض، أنههم منذ بداية الحرب على غزة “تحدثوا إلى الرئيس بايدن بلغة المنطق، ولغة القانون، ولغة الإنسانية. لقد ناشدناه أن يتخذ موقفًا أخلاقيًّا، وأن يتعرف على 2.3 مليون من السكان المدنيين المحاصرين في غزة تحت هجوم القوات الإسرائيلية من كل نوع يمكن تصوره من الأسلحة الحديثة، وأن يدعو إلى وقف إطلاق النار. كل هذه النداءات ونداءات المجتمع الدولي لم تلق آذانًا صاغية. ومع تزايد صور الإبادة الجماعية، جُرِّد الفلسطينيون من إنسانيتهم ​​ويتم تجاهل معاناتهم. لقد نُفي بل حُرِمَ القتلى الفلسطينيون من حقهم في الاعتراف بهم كأموات”. ويذكر عوض أن الرئيس بايدن “أصرَّ على أنه ينبغي ألا يكون هناك وقف لإطلاق النار. وطلبت وزارة الخارجية من موظفيها عدم الحديث عن التهدئة.. لقد اكتشفنا اللغة التي يفهمها الرئيس بايدن، واسمحوا لي أن أشارككم إياها: اللغة التي يفهمها الرئيس بايدن وحزبه هي لغة الأصوات في انتخابات 2024. ورسالتنا هي: لا وقف لإطلاق النار، لا تصويت…”(44).

أصبحت المواقف المؤيدة للقضية الفلسطينية تُحسِن استخدام ميزان التموقع وكشف مغالطات التأييد الغربي لإسرائيل وتهوُّر السياسيين المحليين. ومن خلال المقومات النفسية والاجتماعية في تفاعل الأفراد عبر المجموعات البشرية المختلفة، تتباين المواقف التي تظل مجموعة قابلة للتغيير من معتقدات الأفراد بشأن حقوقهم وواجباتهم والتزاماتهم. ويمكن موازاة هذا التموقع مع التمركز الذي يمثِّل آلية سوسيولوجية ومعيارية في تعيين الأفراد أدوارًا معينة بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والمقبول أو المرفوض عرفيًّا وثقافيًّا، وترسم أيضًا حدودًا للأدوار والقصص المرنة التي تحدد الأفعال في المستقبل ومعاني ما يقولونه ويفعلونه. وتوسعت نظرية التموقع (Positioning theory) في ضوء كتابات عالم النفس، ليف فيجوتسكي (Lev Vygotsky)، وطورها في التسعينات كل من توم هاري (Rom Harré) وفضالي مقدم (Fathali Moghaddam).

يتعزَّز الخطاب المناصر للحقوق الفلسطينية أيضًا بمجموعة من التحولات الفكرية المعاصرة. ومن أهم هذه الروافد النظرية القرينة القوية بقيم التحديث والديمقراطية أو التحول الديمقراطي. وقد جادل سيمور مارتن ليبسيت (Seymour Martin Lipset) منذ خمسة عقود بأن التحديث يمكن أن يتحول إلى ديمقراطية(45). ويستمر النقاش بين الأكاديميين حول دوافع الديمقراطية نظرًا لوجود عدة نظريات تدعم النمو الاقتصادي كسبب ونتيجة لمؤسسة الديمقراطية، وأن الديمقراطية مرتبطة بالتنمية الاقتصادية، والتي تم تقديمها أول مرة عام 1959، وقد ولدت أكبر مجموعة من الأبحاث في السياسة المقارنة.

يستشف الخطاب النقدي لسلوك إسرائيل وجبروتها وطابعها العرقي الكثير من نظرية العدالة ومغزى الفلسفة السياسية في ضوء كتابات الفيلسوف جون راولز (John Rawls) (2002-1921) الذي حاول بلورة نظرية أخلاقية بديلة للنفعية والتي تتناول مشكلة العدالة التوزيعية (التوزيع العادل اجتماعيًّا للثروة). وقدَّم نظرية سياسية للعدالة بشكل كامل مقارنة بأشكال العدالة الأخرى التي تمت مناقشتها في تخصصات وسياقات أخرى، ضمن كتابه الشهير “نظرية العدالة” الذي صدر عام 1971، من خلال نظرة تحديثية لفلسفة إيمانويل كانط (Immanuel Kant) ومنطلق مغاير عن النظريات التقليدية للعقد الاجتماعي. وتمَّ نشر إعادة تقييم مهمة في مقال عام 1985 بعنوان: “العدالة كإنصاف”، وكتاب “العدالة كإنصاف: إعادة صياغة”، عام 2001؛ وفيه قام راولز بتطوير نظريتيه. ويُقدِّم توضيحه النهائي حول مبدأي العدالة بقوله: “يجب أن يتمتع كل شخص بحق متساو في النظام الشامل الأكثر شمولًا للحريات الأساسية المتساوية والمتوافق مع نظام مماثل من الحرية للجميع”(46).

يتنفس مناصرو القضية الفلسطينية الصعداء حاليًّا لوجود تحرُّر ومرونة في الإعلام الرقمي بعيدًا عما يمارسه الإعلام التقليدي الذي قضى عقودًا في خدمة الأطروحة الصهيونية و”مظلومية” إسرائيل. ومع طواعية مختلف المنصات والأدوات التكنولوجية وإمكانية البث المباشر لمقاطع قد تصل مشاهدتها إلى عشرات الملايين، أصبحت الحتمية التكنولوجية في خدمة المستضعفين ولا تزيد في تفوق المستقوين. وتقوم فكرة هذا التحوُّل على أن تكنولوجيا المجتمع تتقدَّم من خلال اتباع منطق الكفاءة الداخلي الخاص بها، مع تحديد تطور البنية الاجتماعية والقيم الثقافية. ويعتقد أن نحت المصطلح يعود في الأصل إلى ثورستين فيبلين (Thorstein Veblen)، وهو عالم اجتماع وخبير اقتصادي أميركي. وتسعى هذه النظرية إلى إظهار كيف تثير التطورات التقنية، أو وسائل الإعلام، أو التكنولوجيا، التغيير، باعتبارها المحرك الرئيسي في التاريخ والتغيير الاجتماعي(47)، وهي نظرية يؤيدها “أنصار العولمة المفرطة” الذين يزعمون أنه نتيجة لتوافر التكنولوجيا على نطاق واسع، فإن العولمة المتسارعة أمر لا مفر منه. ولذلك، يصبح التطور التكنولوجي والابتكار المحرك الرئيسي للتغيير الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق