المقالات

بين يدي نقاش هادئ لقضية المرأة(إبراهيم القادري بوتشيش)

الحرية غريزة إنسانية، تصبّ في مفهوم الوجود والكمال الإنساني الذي تطمح إليه النفس البشرية، وهو المفهوم الذي يربط فيه  “جان بول سارتر”  الحرية بالوجود البشري، ويرقى بها الإسلام إلى مرتبة  التكريم الإلهي للإنسان المستخلف في الأرض.

ومع أن سؤال الحرية يمثل تقاطعا تلتقي فيه شتى مناحي المعرفة ودروبها، ويشكّل مادة مشتركة بين كافة العلوم، فهو في تقديري سؤال تاريخي بامتياز، لأن موضوعه المركزي هو الإنسان. وبما أن الإنسان ” كائن تاريخي ” وفق تعبير “هيدجر”، فإنه يظلّ كائناً في ماضيه كما في حاضره. لذلك من العسير إدراك جوهر الحرية، بمعزل عن تشخيص مراحل تكوّنها وتمثّلاتها، وتحولاتها التاريخية، عبر رحلة زمنية متصاعدة استمرت من بداية الخلق حتى التاريخ الراهن.

         ومن نافل القول أن المرأة تعدّ تجسيداً للكينونة البشرية، وشرطا أساسياً ولازماً للوجود الإنساني ولتشكّله التاريخي، بل تتعذر قراءة التاريخ من دون استحضار العنصر الأنثوي كعنصر وازن ترك بصمات واضحة في أحداثه ووقائعه، وفي تاريخ الحرية بمفاصله الكبرى.

                  لذلك كلّما أثيرت الأسئلة حول الحرية النسائية المغربية، وصِلَتِها بتعديلات مدونة الأسرة، يحضر التاريخ في كافة مسالك وزوايا النظر والتحليل، بوصفه رأسمالاً معرفياً مفسّرا، وخيطاً ناظماً للإجابات الممكنة حول توافق أو تصادم الحرية مع القوانين الوضعية والتشريع الإسلامي، ومدى انعكاس الموروث الثقافي والتاريخي والفقهي في صناعة الذهنية المؤسسة أو المؤولة للنصوص التشريعية الخاصة بالمرأة. بل إن جدوى المقاربة التاريخية تكمن أيضا في قدرتها على قراءة أحكام الشريعة الإسلامية والتفسيرات الفقهية الخاصة بحرية المرأة في تاريخيتها، وتفاعلها مع تحولات الظرفيات التاريخية، ومتغيرات الزمن.

                  وإذا كان لكل زمن تاريخي إشكالياته وقضاياه، فإن الكثير من قضايا التاريخ الراهن  ترتبط بالحرية النسائية وحقوق المرأة، خصوصا بعد ظهور صكوك واتفاقيات دولية، تنتصر لمسألة التمكين للمرأة، من قبيل اتفاقية “سيداو”، ووثائق مؤتمرات مكسيكو ونيروبي والقاهرة وبكين، وغيرها من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب.

في ذات الوقت، برزت في التاريخ الراهن- وبقوة – نظريات فلسفية حديثة في مجال الإبستيمولوجيا العلمية النسوية التحررية، خصوصا المقاربة النسوية التأويلية المتحررة من القراءة الحرفية التقليدية للنص الديني، والمقاربة النسوية المتمردة على الذكورة، المتمركزة حول الأنثى،  ثم نظرية “اللاندسكيب”، أو ما بات يعرف بالجغرافيا النسوية التي تسعى لقلب المظهر الحضاري لسطح الأرض، ضدّا على احتكاره من قبل المركزية الذكورية، ناهيك عن مقاربة النوع Gender التي تناهض الثقافة الذكورية، وتسعى إلى التماثل في الأدوار الوظيفية للجنسين.

يضاف إلى هذه المتغيرات، الطفرة التي عرفتها بعض المفاهيم المستحدثة في مجال الحرية النسائية، وما تلاها من تغيّرات في قاموس مفرداتها كحرية الجسد، والمثلية، وغيرها من القضايا التي شغلت فضاء الدراسات الثقافية وما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة، وصارت ضمن ملفات الحرية الخمسة الحساسة التي يدعو المفكر فهمي جذعان الى فتحها، وتعميق معول البحث فيها، وتدارك الإهمال الذي طالها[1]. ولعلّ هذا ما يجعل أهداف هذه الدراسة لا تقتصر على التأريخ لحرية المرأة المغربية في الزمن الراهن كحدث تاريخي معزول، بل سيتم النظر إليه عبر رؤية بانورامية متفاعلة مع متغيرات الحراك الثقافي الدولي، وخصوصا النظريات النسوية، والدراسات الجندرية التي ما فتئت تعلو لائحة القضايا الفكرية الساخنة المثارة في ساحة النقاشات الدولية.

                  وتأسيسا على الهزّات الثقافية، والمتغيرات الفكرية المتمركزة حول فلسفة الحرية النسائية والحقوق والمساواة، ومحاولة تكسير الهيمنة الذكورية التي لا يزال العالم المعاصر يعيش على وقعها، بات بديهيا أن تصل الموجة ذاتها إلى ضفاف المغرب، وأن تتأثر الحركة النسائية المغربية إلى حدّ كبير بهذه التحولات التي عرفها مفهوم حرية المرأة.

                  وأحسب أن مشروع “خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية” – مدار هذا الكتاب ومركزه – جاء في سياق المتغيّرات الكونية والإقليمية المتسارعة، ليحفر مجاري جديدة في مفاهيم الحقوق النسائية بالمغرب، ويفرز خريطة ذهنية جديدة، ووعيا مغايرا وجسورا يحمل أسئلة مؤرقة، وهواجس حارقة، ولّدت مفاهيم جديدة حول الحرية الفردية والمسألة الحقوقية للمرأة.

لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن يُحِدِثَ مشروع هذه الخطة رجّة مجتمعية، وانقساماً وجدلاً في فضاء الرأي العام المغربي، وصل إلى حدّ توظيف معركة المظاهرات المليونية، والحشود البشرية، وتأليب شارع ضد شارع، في مسيرتين متعارضتين لم يشهد لهما تاريخ المغرب نظيراً من قبل. ناهيك عمّا أفرزه الحدث من كتابات متعارضة ومتراشقة استمرت من سنة 2000م إلى بداية 2004م، تاريخ ظهور مدونة الأسرة الجديدة. وكان من حسنات هذه الكتابات والأدبيات ذات النزعات القَيْمِية المتصارعة، توفير مادة ونصوص ومستندات، يعوّل عليها المؤرخ في تقييم مواقف كل الأطراف، وفَهْمِ مجريات الصراع الفكري حول الحرية النسائية المغربية، من خلال أصوات متعددة، محافظة وحداثية. بل إنها زوّدته بصوت المرأة الذي ظلّ مبحوحا لرَدَحٍ من الزمن، مع أنه صوت لا يُعلى عليه في مثل هذه الدراسات .

من جهة أخرى، فإن استناد مشروع “خطة إدماج المرأة في التنمية” إلى الاتفاقيات والصكوك الدولية، شكّل هزّة قوية في مرجعيات التفكير في الحرية النسائية بالمغرب، بسبب ارتطام النص الديني والأعراف المحلية بالقانون الدولي. كما أن الخطة طرحت تحديا كبيرا بخصوص سؤال انتقال قضية المرأة من دائرة السيادة المحلية والخصوصية المغربية، إلى أفق السيادة الدولية التي أصبحت تفرض نمطها الثقافي المتعولم، وتزيد من تفتيت وتضييق مساحة السيادة الوطنية. ولعلّ هذا ما أحدث شرخاً مجتمعيا واضح المعالم، عكسته المواقف المتعارضة بين تيار متمسك بقوانين المرجعية الإسلامية، وتيار متشبع بالقوانين الدولية.

ومع ما خلّفه مشروع”الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”من انقسام في المجتمع المغربي، وتدافع بين مرجعيتين مختلفتين ومتصادمتين أحيانا، وما أثاره من جدل صاخب وغير مألوف حول حرية المرأة وحقوقها، وما تركه من أثر عند صناع القرار السياسي، فإنه لم يظفر بعناية المؤرخين عموما، ولم تمتدّ إليه أقلام الباحثين المتخصصين في التاريخ الراهن على وجه الخصوص. وانحصر النقاش حوله بين علماء الدين ورجال السياسة والقانون والصحفيين، والأحزاب السياسية وأذرعها الدعوية وبعض الجمعيات النسائية[2]. لذلك فإن هذه الدراسة ستسعى إلى فتح هذا الملفّ الشائك، باعتباره ملفّاً تاريخياً راهنيّاً يهمّ المؤرخ أيضا، لأنه يبحر في عمق قضية تاريخية ساخنة لا تزال تتشكّل أمام بصره، ولم تُحْسم نتائجها وانعكاساتها إلى اليوم، بدليل ما ورد في خطاب العرش في 30 يوليوز من عام 2022، الذي تضمّن دعوة ملكية لمراجعة مدونة الأسرة لعام 2004، بسبب ما اعتراها من اختلالات ونقائص لم تفلح في لملمة كل الإجابات الممكنة عن الأسئلة الحرجة التي أثارها مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية، وما تمخض عنه من مواقف وردود فعل معارضة.

بناء على المعطيات السالفة، سينصب تركيزنا في هذا العمل  على تحليل ومناقشة “خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”، بوصفه مستندا تاريخيا، وجزءاً من مشاريع المعارضة اليسارية التي ظلت على هامش التاريخ الرسمي، حتى أتيح لها الوصول إلى سُدّة الحكم في أواخر مرحلة التسعينيات، فحاولت صياغة مشروع حول حقوق المرأة وحرياتها من خلال هذه الخطة. ومع أن المشروع لم يُعْتمد كاملا  بسبب مقاومة التيارات المحافظة، إلا أنه شكل المنطلق الأساسي لمدونة الأسرة الصادرة سنة 2004، ودفع بالحرية النسائية نحو مربعات متقدمة نسبيا. وأحسب أن ما  يحمله من بُعْد إبستيمولوجي  في تطوير سؤال الحرية النسائية، وما تمخض عنه من نقاش فكري، ما يجعله موضوعا دسماً، يغري بالبحث والدراسة والتنقيب.

في هذا المنحى إذن، سنسعى في ثنايا دراستنا إلى فحص مضمون خطة إدماج المرأة في التنمية، ودراسة السياقات الداخلية والخارجية لظهورها، قبل وضع ما تضمنته من أفكار حول الحرية النسائية على مشرحة المراجعة والنقد، وتشخيص وتحليل ردود الأفعال والمواقف المتولدة عنها، من خلال الوثائق والمستندات والأدبيات، وكافة أصناف الكتابات المدعّمة أو المعارضة لها. كما سيتم تصويب النظر نحو ما تحويه من نصوص تهم حرية المرأة المغربية، ومتابعتها متابعة دقيقة كلحظة تاريخية في الزمن الراهن، مع ما يكتسيه مصطلح اللحظة من معنى فلسفي هيغلي، يحيل على المرحلة الفارقة، لا العرضية.

وفي سياق هذا التفاعل مع الحدث، والمساهمة في النقاش الصاخب الذي أثاره، وصل سقف طموحنا إلى حدّ المساهمة في محاولة التقريب بين وجهتي نظر التيارين الإسلامي والحداثي، وتسريح النظر في ما وفّره التدافع بينهما من فرص لفحص طروحات كل طرف، ووضعها تحت محك التشخيص والنقد والمتابعة، لإيجاد منطقة وسطى، والتفكير بعقل جماعي تشاركي تبادلي، للبحث عن المشتركات الفكرية التي تسمح  بالتوافق على ترسيم إطار سليم للحرية،  يتقاطع فيه نور الإيمان بوهج العقل.

لا أزعم أن هذه الدراسة المتواضعة تخلو من هنّات وشوائب، لكنها تبقى مع ذلك ماثلة في أفق طموح يراودنا دائما، وهو ضرورة إنصات المؤرخ لنبضات مجتمعه، وجعل قضاياه في قلب اهتماماته، وإسماع صوته للرأي العام، حتى يكون له موطئ قدم في التفكير في قضايا الساعة. كما أحسب هذه الدراسة حلقة مكمّلة لحلقات مشروع بدأناه منذ عقود حول تاريخ المهمشين والمقهورين والمنسيين الذين لا يزالون يقبعون في أطراف وهوامش التاريخ، علماً أن المرأة لا تزال تشكل جزءا من هذه الفئات التي تتعرض لقساوة التهميش من قِبَلِ المجتمع.

ولا يخامرنا الشك في أن النتائج والمقترحات التي توصلت إليها الدراسة تبقى مجرد خطوط أولية قابلة للنقاش والنقد والمراجعة، لأن هذا الملف الذي وضعناه تحت مبضع التشريح والمساءلة والتحليل، يعتبر في تقديري ملفاً متجدداً ومفتوحاً، وقابلاً للتعديل والإضافة والتحيين، وإعادة الطرح على طاولة البحث كلما استجدت المعطيات، أو ظهرت وثائق أو مؤشرات جديدة.

وختاما، لا يسعني إلا أن أجزل الشكر صادقا لكل من أفادني بوثائق ومستندات، أو دراسات أضاءت الجوانب المعتمة من الموضوع، وساهمت في إثرائه وتنويع زواياه ومقارباته.

وأعتذر للقارئ عن أي هفوة أو تقصير أبعدني عن مراقي الكمال في موضوع بالغ التعقيد والحساسية، أو سهو جعلني غير قادر على الإمساك بكافة خيوطه المتشابكة. وحسبي ما قاله الإمام مالك بن أنس من أن ” نصف العلم لست أدري “، وما ذكره “مارك بلوك” في وصيته للمؤرخ بضرورة التعوّد على  قول ” لا أعرف، ولا يمكنني أن أعرف “، من دون نسيان المقولة المتمثلة في أن “الحقيقة والحق، لا يتأتيان إلا في بيئة يسود فيها الحق”، فإن أصبت فذلك غاية المراد، وإن أخفقت فذلك جهد العبد المجتهد المقلّ،  والله ولي التوفيق.


[1] جدعان فهمي أسئلة الحرية هنا…الآن”، نشر ضمن كتاب: الحرية في الفكر العربي المعاصر، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تحرير مراد دياني، ط1، بيروت 2018 ، ص 42 و 46.

[2] هذا ما يعكسه الكتاب الجماعي: ثورة هادئة من مدونة الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة، تنسيق سميرة عدناني، سلسلة شرفات،  منشورات الزمن، الدار البيضاء 2004. فقد تم فيه تناول موضوع خطة إدماج المرأة ومدونة الأحوال الشخصية من خلال دراسات متنوعة، مع ملاحظة غياب المؤرخين في هذا الملف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق