تأسيس سلطة الإجماع(حمادي دويب)
لقد مثل تأسيس سلطة الإجماع باعتباره مصدرا ثالثا من مصادر التشريع الإسلامي هاجسا مركزيا لدى علماء أصول الفقه القدامى والمحدثين.
وقد كانت الدراسات الحديثة للإجماع ذات البعد النقدي أو المحافظ واعية بأهمية هذه المسألة باعتبار أنها قد تكون من أهم مباحث الإجماع[1] فما هو الإطار الذي وضعت فيه هذه الإشكالية في الدراسات الحديثة ؟ ما هي أسباب نشأتها ؟ وكيف وقعت مقاربتها ؟
يتفق الدارسون على أن الإجماع مبدأ ظهر في الإسلام بعد وفاة الرسول نتيجة حاجات اجتماعية وسياسية ثم وقع إضفاء الطابع الديني عليه من خلال ربط الصلة بينه وبين النصوص الدينية التأسيسية[2] التي عدّت براهين سلطته أو حجيته بالتعبير المتداول في كتب الأصول.
وإذا كان كميل منصور لا يخصص إلا ثمان صفحات لمسألة مشروعية الإجماع فهو يبرز ذلك بأن غايته من هذه الوقفة القصيرة ليست سوى مساعدتها له على فهم أفضل لمفهوم الإجماع وما يفسر ذلك أيضا اختياره تفصيل المسائل المتصلة بتطبيق الإجماع فذلك ينبئ في نظره عن الإمكانات المتوفرة للمسلمين المعاصرين[3].
أما “ماري برنارد” فإنها تعتقد أن تبرير استخدام الإجماع دليلا شرعيا هو أول مشكل طرح نفسه على الأصولي[4] وأنه مشكل نظري إذا حُلّ يضع مكانه لدراسة المشاكل الفنية التي تنجر عن تطبيق هذا المصدر الشرعي.
كما ترى أن نشأة فكرة الإجماع وصياغتها النظرية ضمن علم أصول الفقه في القرن الثاني للهجرة طرح مسألة حجية هذا المفهوم. وأصبحت هذه الحجية تثير مناقشات مطولة في كتب الأصول إثر إنكار الخوارج والنظام اعتبار الإجماع حجة شرعية[5].
إلاّ أن أهمّ تأطير للمسألة وجدناه في دراسة جورج حوراني حول “حجية الإجماع في الإسلام السني “فهو ينطلق من أنه وقع تأكيد كبير على أهمية الإجماع إلى حد المبالغة عند بعض المستشرقين المعاصرين منذ بحوث “سنوك هيرغرونج” (Snouck Hurgronje) واعتبر أن السؤال الرئيسي يتمثل في البحث عن الأساس الذي تستند إليه سلطة الإجماع.
ويشير حوراني إلى أنه يروم التطرق إلى المسألة في البداية من زاوية التاريخ الفكري لبيان تطور الحجج في العصور المتعاقبة عند أبرز العلماء.
كما يوضح أنه سيتطرق إلى الأرضية الاجتماعية والدينية إن كانت تساعد على تفسير اتجاهات القدامى المحدثين ويصرح الباحث أنّ أهم هدف لمقاله لا يتمثل في اكتشاف الأسباب والدوافع العلمية وغيرها التي خلقت مناخات مناسبا أو غير مناسب لنظرية الإجماع وإنما يكمن في مراجعة الحجج التي شرع عن طريقها الإجماع وقبلها أو ارتاب منها الفقهاء المسلمون[6]. وفي هذه المراجعة يرتئي هذا الدارس القيام بتحاليل نقدية لهذه الحجج المعتمدة.
وبعد أن قدّم حوراني المرامي العامة لبحثه توقف عند الخلفية التاريخية لنشأة حجية الإجماع فذكر أنه توجد إمكانية بديهية تقف وراء نشأة حجية الإجماع تتمثل في الرد على التحدي الشيعي فقد كان الشيعة يضفون السلطة على أئمتهم على أساس حجج دينية لإسباغ العصمة على أحكامهم وكان على السنيين أن يدافعوا عن عدالة جماعتهم ككل فأضفوا سلطة دينية على أحكامهم وآرائهم التي يجمعون عليها.
لكن هذا التفسير يقدمه الباحث باحتراز وتردد لأن أولى الأطروحات السنية في هذه المسألة ظهرت في بداية العصر العباسي عندما كان التشيع في مرحلة سبات ولم ينظم بعد حملة مقاومة فكرية لخصومه.
وقد سعى الباحث إلى تقديم محاولة تصنيف نظرية لأهم الحجج التي تؤصل الإجماع فرتبها كالتالي :
أ- نص دون حجة وهو نص من القرآن أو السنة يحث المسلمين على اتباع الإجماع لكن دون تقديم أي حجة على هذا العمل.
ب- حجة دون نص : هي حجة لاتباع الإجماع لا تذكر نصا مقدسا صريحا.
ج- نص يقدم حجة وهو يقسم إلى صنفين :
1) نص يقدم حجة صريحة لا تتطلب تأويلا أو استنتاجا مثل الحديث الذي يؤكد عصمة الأمة.
2) نص يتضمن حجة خفية ينبغي أن يستخرجها العلماء بالتأويل والاستنباط والنوع الذي يرضي النظرية الأصولية طبعا هو (ج1) نص من القرآن أو السنة يقدم حجة في لغة واضحة[7].
وبعد أكثر من عقدين على ظهور مقال حوراني نشر مقال آخر له طابع نقدي حول نفس موضوع المقال السابق وقد صرح صاحبه الباحث “حلاق” أنه يسعى إلى استكمال مساهمة حوراني، وقد انطلق هذا الباحث من النشأة التاريخية للإجماع ليوضح أنه مع بروز المعارك السياسية والتطور اللاحق للحركة الدينية خلال القرن الثاني الهجري اكتسب الإجماع طابعا دينيا وأصبح أكثر الملامح المذهبية التي يختص بها أهل السنة والجماعة عن غيرهم من المذاهب.
وهو يقرأ أن الدور المهم للإجماع باعتباره أداة توافق ومصدرا للأحكام قد تطور ليولد مناقشات مستفيضة وردودا نقدية من داخل الفكر السني وخارجه[8].
وعلى هذا الأساس فإن المشكل المحوري الذي طرح نفسه هو تأسيس حجية الإجماع فقد كان على العلماء المشتغلين بأصول الفقه أن يبرهنوا على أن الإجماع يستند إلى النصين التأسيسيين من قرآن وسنة، فحسب العقيدة الإسلامية لا شيء يمكن أن ينظر إليه على أنه صالح وملزم إن لم يكن مؤسسا بشكل أو بآخر على هذه المصادر، وعدم تأسيس الإجماع على هذه النصوص يعد خطرا فهو يعني أن هؤلاء الفقهاء الذين ساهموا في صياغة الإجماع كانوا يشرعون الأحكام للأمة بأنفسهم. غير أن الفقهاء لم تمنح لهم سلطة إصدار الأحكام وإنما هم وباقي الأمة مجرد بشر خاضعين للرحمة الإلهية وهذه الرحمة تظهر في حقيقة الوحي.
وبعد أن يتساءل الباحث عن الكيفية التي برّر بها الفقهاء المسلمون حجية الإجماع عبر القرون وعن المشاكل التي اعترضت عملهم هذا يعتبر أن أهم المساهمات المعاصرة في المسألة قام بها “هيرغرونج” (Hurgronge) و”كولسن” (Coulson) و”حوراني”.
والأطروحة الأخيرة التي تؤطر هذا البحث تتمثل في اعتبار أن مسألة حجية الإجماع قد برزت عندما أصبح ضروريا للمسلمين أن يقرروا مرة واحدة وأخيرة ما إذا كانوا هم أنفسهم المصدر الأخير للسلطة أم أن الله مصدرها[9].
ففي الجاهلية كان الجواب بديهيا ذلك أن سنة القبيلة تمثل القانون، والإجماع أو الأمر المجتمع عليه ينشئ السنة ويحددها[10].
وعندما دوّن الحديث وقع تحويل سلطة إصدار الأحكام من أيدي المسلمين إلى الله ورسوله وهذا الانتقال في السلطة لم يكن مفاجئا بل وقع تدريجيا ويبدو أنه قد انتهى حوالي بداية القرن الثالث للهجرة. ومهما يكن من أمر فإن موقف سيادة الوحي في علاقته بالإجماع كان قد بدأ.
هكذا إذن كان الباحثون المعاصرون واعين بحجم المسألة التي يتصدون لها من ذلك أن أحدهم[11] بلغت إحالاته على المصادر القديمة الأصولية بشكل خاص أكثر من ثلاثين إحالة دون اعتبار الإحالة إلى نفس المصدر وأما المراجع الحديثة فإنها بلغت عشرين مرجعا وهو ما تفتقده بعض البحوث المترعة[12].
وقد سعى الدارسون إلى تخليص دراستهم من الطابع العقائدي والافتخاري الذي منع من النظر الموضوعي إلى مسألة حجية الإجماع لذلك سعوا إلى توخي مقاربات تاريخية ذات أبعاد مقارنية نقدية. ولم يروموا بذلك نقد حجج الأصوليين القدامى فحسب بل سعوا أيضا إلى نقد التيار الاستشراقي الذي ضخم أهمية الإجماع.
غير أن هذه المقاربات النقدية وإن اختلفت درجة العمق والشمول الذي بلغته من دراسة إلى أخرى فإن المنهج الثابت فيها كان التطرق إلى الحجج النقلية لنقدها بدءا بالقرآن ووصولا إلى الأحاديث ثم المرور إلى الحجج العقلية.
لكن هذا النقد كان يقع غالبا من خلال التطرق إلى أعلام المنظومة الأصولية واحدا إثر آخر وقد يقع التطرق إلى إسهام بعض المجددين المعاصرين في تجديد النظر في المسألة.
وقد آثرنا ألا نسير على هذا المنوال فقسمنا عملنا إلى محاور ثلاثة حاولنا أن نؤلف فيها بين المواقف الناقدة للباحثين المعاصرين التي تمحورت حول الحجج القرآنية أولا والأحاديث ثانيا والعقل ثالثا.(يتبع)
[1] – هذا ما يقرره علي عبد الرازق في “الإجماع في الشريعة الإسلامية”، المرجع المذكور، ص 25.
[2] – حلاق، المرجع المذكور، ص 428.
[3] – كميل منصور، المرجع المذكور، ص 60.
[4] – ماري برنارد، L’accord unanime، ص 116.
[5] – ماري برنارد، فصلها “إجماع” ب د.م.إ. (ط2 بالفرنسية)، المرجع المذكور، ص 1049.
[6] – حوراني، المرجع المذكور، ص ص 13-14.
[7] – حوراني، ص 19.
[8] – حلاق، المرجع المذكور، ص 428.
[9] – المرجع نفسه، ص 430.
[10] – Fazlur Rahman : Islamic Methodology in History, Karachi, 1965, pp. 18-19.
[11] – يتعلق الأمر بدراسة حلاق حول حجية الإجماع السني الصادرة سنة 1984.
[12] – نذكر تمثيلا على ذلك دراسة أحمد حسن : حجج الإجماع ،فهو لم يحل إلا على مرجعين حديثين فقط.