تجديد الفكر الإسلامي بين الوفاء للذات ومجاراة التقدم الكوني (هشام لعشوش)
في البداية وبين يدي هذه الورقة العلمية، أمهد بوقفة مع مصطلحي التجديد والفكر الإسلامي، قبل الخوض في الحديث عن الضوابط والمقتضيات.
وأنطلق من التمييز بين مفهومين متناقضين للتجديد، تجديدٍ مطلوب يروم ضمان استمرارية مقتضى الوحي في عالم متغير، وتجديد يسعى لهدم أصول الشرع كلها أو بعضها، وتضييع مقاصد الشريعة، والاستجابة لنوازع النفس والهوى، وما ضجت به عوالم الفكر من انحرفات في التصور والسلوك.
وهنا وفي مستهل حديثنا لا بد من التأكيد على أن كل عمل وكل علم وكل اجتهاد، بل وكل حركة علمية أو اقتصادية أو سياسية…، لابد أن تكون محكومة في سياقها العام باستشراف أفق النهوض الحضاري للأمة، وإلا كانت خبطَ عشواء، وضربَ أخماس في أسداس.
اختلف الناس في تعريفاتهم للفكر الإسلامي، واتفقوا -نسبيا- أنه منظومة متكاملة من التصورات والمفاهيم التي تؤطر سلوك الإنسان، وتؤطر نظرته لنفسه وللكون وللحياة بشكل عام.
إنه انعكاس لفهم، أو لفهوم متعددة لروح النص الديني، فالفكر الإسلامي شغل وتمثل إذن في المساحة بين النص وبين فهمه وتنزيل مقتضياته. نحن هنا نتحدث عن تفاعل النص مع روافد اللغة والثقافة والعادات والتاريخ والجغرافيا والطباع والمناخ.
فإذا كان الإسلام دينَ الله وشرعَه، فإن الفكر الإسلامي هو نتاج تفاعل الإنسان المكلف مع هذا الدين، لذلك نحن في أشد الحاجة إلى تعزيز مناعة العقل الجمعي الذي يحسن تلقي الرسالة، ويكون عند مستوى المسؤولية الاستئمانية بتعبير فيلسوف الأخلاق طه عبد الرحمن.
لا ننسى أن نذكر في هذا السياق أن مما يعيق عملية التجديد ويعطلها، سيادة الاعتقاد بأن القدماء لم يتركوا للمتأخرين شيئا؛ خاصة بعد اكتمال عملية التدوين الأولى للعلوم الإسلامية الأساسية. واكتمال بناءها وفق ما انتهت إليه من محاور ومواضيع ودلالات.
هذا وفي المقابل؛ فإنه مما عزز ريادة هذه الأمة، مرونة استيعابها، وتفاعلها الإيجابي مع كل حكمة، لا يهم من قالها ولا متى قالها ولا أين قالها ما دامت مصلحة، إذ حيثما وجدت المصلحةُ فثم شرع الله…
يتحدث بعضهم هنا عن قواعد عامة لتجديد الفكر الإسلامي تتمثل في: مراجعة نقدية للتراث الإسلامي ومراجعة نقدية للفكر الغربي، ثم توليف مبدع لإيجابيات الفكر الغربي ولإبداعات التراث الإسلامي، وهو تصور يستبطن نوعا من الضبابية والانهزامية، إذ مقاربة موضوع التجديد بهذه الطريقة لا تستقيم، فلا بد إذن أن نميز بين التصورات الوجودية العامة، مما لا مجال فيه للتفاوض واستيراد المناهج والفلسفات المؤطرة والقيم المرجعية، وبين الوسائل التدبيرية التي لا إشكال في الإفادة منها.
ولعل أفضل ما قيل في تعريف تجديد الفكر الإسلامي؛ ذلك الذي تضمن ثلاث دلالات هي ” إعادة رونق الدين وجماله وصفاته، وإحياء قيمه، ثم نشره وبثه وإذاعته بين الناس”، ولهذا فمعظم ما سنتطرق إليه من أسس وضوابط ومجالات لا تخرج عن هذه العناصر الثلاث.
ومن هنا أيضا نفهم، أن تجديد الفكر الإسلامي لا يفهم منه نقض لكل ما أثله السابقون من جهود علمية ومعرفية، بقدر ماهو عملية تفاعلية طبيعية، قال تعالى “وثيابك فطهر”. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الإيمان ليخلق أي يبلى في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم”…..
إن أخطر ما حدث ويحدث بغلق باب التجديد، هو توهم البعض -خاصة من يعجز عن التفريق بين أصل الوحي وبين تمثلات الناس للوحي، المحكومة بالنقص أبدا وسرمدا – عجزه وعدم قدرته عن مجاراة المستجدات، وأن أغراضه استنفذت ولم تعد صالحة للإجابة عن أسئلة هذا العصر.
وفي المقال اللاحق نستأنف الحديث عن الأسس التي ينبني عليها تجديد الفكر الإسلامي