تجميد الوكالة اليهوديّة في روسيا:الأسباب والدلالات(عبد الباري عطوان)
أن تتصاعد حدّة التوتّر في العلاقات الإسرائيليّة الروسيّة، وينعكس هذا التوتّر في منع الحُكومة الروسيّة الوكالة اليهوديّة من مُمارسة أنشطتها في جميع أنحاء البلاد ولأوّل مرّة مُنذ ثلاثين عامًا، فهذا أمْرٌ مُتوقّع، ويعني أنّ كيْل الرئيس فلاديمير بوتين قد طَفَحَ فِعلًا، وصبْره على سياسة اللّعب الإسرائيليّة على كُلّ الحِبال في الأزمة الأوكرانيّة قد نفد.
ما نقوله هُنا ليس إشاعات أو تكهّنات أو حتى تمنّيات، وإنّما بداية تغيير يزداد حدّة في الموقف الروسي كشفت عنه بنينا تامانو وزيرة الهجرة الإسرائيليّة، وأكّدته عدّة صُحف إسرائيليّة من بينها صحيفة “جيروزاليم بوست” التي قالت إنّ هذا القرار “يُمكن أن يُقوّض قُدرة اليهود الروس على الهجرة إلى “إسرائيل”.
ربّما لم يكن من قبيل الصّدفة أن يصدر هذا القرار بالنّظر إلى ثلاثة تطوّرات رئيسيّة لا يُمكن تجاهلها:
الأوّل: تولّي يائير لبيد رئاسة الوزراء الإسرائيليّة خلفًا لنفتالي بينيت، فلابيد الذي كان يتولّى منصب وزير الخارجيّة أدان الاجتياح الروسي لأوكرانيا مُنذ اليوم الأوّل، وطالب حُكومته بالوقوف في خندق الحليف الأمريكي في هذه الأزمة، والانضِمام إلى العُقوبات الغربيّة ضدّ موسكو، والأهم من ذلك تزويد أوكرانيا بالأسلحة، وخاصَّةً القُبب الحديديّة والمُسيّرات.
الثاني: تطوّع المِئات من ضبّاط وجُنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، وعناصر من رُتبٍ عالية في قوّات الأمن الإسرائيليّة للقِتال كـ”مُرتزقة” في الميليشيات الأوكرانيّة، وتحت راية الرئيس اليهودي الصهيوني فولوديمير زيلينسكي الذي يُريد تحويل أوكرانيا إلى “إسرائيل ثانية”.
الثالث: تصعيد دولة الاحتِلال لعُدوانها على سورية وإقدامها على قصف مطار دِمشق المدني الدولي (10 حزيران الماضي) وإخراجه من الخدمة لأكثر من أسبوعين، الأمر الذي دفع الرئيس بوتين “المُحرَج” إلى إعطاء التّعليمات لوزارة خارجيّته بطرح مشروع قرار أمام مجلس الأمن الدولي بإدانة هذا العُدوان بأشدّ العبارات.
لعلّ اعتِقال القوّات الروسيّة لأحد “المُرتزقة” الإسرائيليين كان يُقاتل إلى جانب القوّات الأوكرانيّة في إقليم “دونباس” جنوب شرق البِلاد، ربّما كان “الصّندوق الأسود” الذي فضح الازدواجيّة والنّفاق الإسرائيليّين من خلال إعطاء معلومات قيّمة عن أسرارِ الدّعم الإسرائيلي لأوكرانيا ورئيسها زيلينسكي، سواءً بإرسال الأسلحة والمُسيّرات، أو بتسهيل نقل المِئات، أو ربّما الالاف، من المُقاتلين والخُبراء السّابقين، أو حتّى الحاليين في الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيليّة.
قِطاعٌ كبير في الإعلام الإسرائيلي لم يتوقّف عن شيطنة روسيا والرئيس بوتين، ووصف الأخير بأبشع الصّفات، ومُقارنته بهتلر، ونيرون الذي حرق روما، ولم يتورّع هذا الإعلام على اتّهامه، أيّ الرئيس بوتين، بارتكاب “جرائم حرب” في أوكرانيا يجب أن يُعاقَب عليها.
لا نعرف إلى أيّ مدى قد يتطوّر هذا الخِلاف، ولكنّنا لا نستبعد أن يتصاعد مع اقتِراب زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للقدس المُحتلّة يوم 13 تمّوز (يوليو) الحالي في إطار جولته الشّرق أوسطيّة، لأنّ بايدن الذي تُطالبه “إسرائيل” بتشديد الخِناق على إيران، وتشكيل “حلف ناتو عربي” بزعامتها استعدادًا لضربها، ربّما يُطالب مُضيفه الإسرائيلي في المُقابل باتّخاذِ موقفٍ أكثر وضوحًا والوقوف في الخندق الأمريكي الغربي في الأزمة الأوكرانيّة.
بسمارك الزّعيم الذي وحّد ألمانيا حذّر دائمًا من غضب الدُّب الروسي والانزلاق لحربٍ معه، ولم يأخذ هتلر، وقبله نابليون بهذه النّصيحة ودفَعا الثّمن غالياً ومُنِيا بهزائمٍ مُذلّة، والرئيس بايدن وحُلفاؤه العرب والإسرائيليون قد يُواجهوا المصير نفسه، وهذا ما فهمته وعملت به دول عُظمى مِثل الصين والهند وإيران ودول “بريكس”.
سياسة اللّعب على كُلّ الحِبال، وادّعاء الحِياد الإسرائيليّة في الأزمة الأوكرانيّة تقترب من نهايتها، ووضع قدمٍ في موسكو وأُخرى في واشنطن لم تَعُد “حيلةً” مُجديةً، ولعلّ الرئيس بوتين بتجميده لعمل الوكالة اليهوديّة على أرضِ بلاده قرّر أخْذ زمام المُبادرة، ورفع الكارت الأحمر في وجه الازدواجيّة الإسرائيليّة، وربّما يكونُ القادمُ أعظم.. واللُه أعلم.