المقالات

تذكير بالمنطلقات(خالد العسري)

لماذا تنعطف تنظيمات من الحركة الإسلامية عن مسارها، وتتخلى عما كان مبتدأ اجتماعها، ويضعف تخلق أبنائها، وتتضخم السياسة عندها حتى كأنها لا تكون إلا بها؟

لماذا تتصحر مجالس الإيمان، وتغلب عوائد الأعمال على مقاصده، ويصمت عن أعمال القلب، وتمتلئ الأفئدة بالشحناء تجاه الأقران وقد كان المبتدأ ألفة وتآخيا وإيثارا؟

لماذا “في كثير من الأحيان خولفت شعارات بدهية، من مثل:

من المحراب إلى السياسة لا من السياسة إلى المحراب.

من الربانية إلى الإدارة.

من العلم إلى العمل”[1]؟

إن من خبر العمل الإسلامي في بداياته يلحظ تطورا ميدانيا؛ وكسبا سياسيا  يدخل الفرحة في كل قلب يبتغي أن تكون كلمة الله هي العليا، ولكنه يصاب بالخوف على عمل إسلامي أصبح أقرب إلى الشكليات والمظاهر منه إلى المضامين والجواهر، وأقرب إلى العمل الحزبي الذي ينهض على التنافس السياسي الذي يتوسل إلى مقاصده بما يجوز وما لا يجوز شرعا، وأقرب إلى الإدارة التنظيمية البيروقراطية التي تجعل هموم التربية هما مكتبيا.

تتعدد أسباب هذا التهديد الذي يصيب العمل الإسلامي في الصميم، وتزداد الإصابة استفحالا مع غفلة أصحاب الشأن عنها، لأن المرض يدب دبيب النمل فلا يشعر به إلا بعد فوات الأوان، وإنما الكتاب رسالة نصح وتحذير؛ وذكر وبيان.

من الأسباب التي تؤدي إلى قلب الأولويات في البناء التنظيمي للحركة الإسلامية حتى يصبح الهم التربوي في غير المرتبة التي كان يوضع فيها؛ تحوله من أجواء التضييق والبلاء الشديدين إلى أجواء الحرية والانطلاق بلا قيود، وبيان الأمر أن الحركة الإسلامية التي ولدت مع الإمام حسن البنا في العصر الحديث حوربت في تلك الفترات العصيبة حربا لا هوادة فيها، وتوارث الحكام سياسة إدانتها وقمعها بأبشع الأساليب، فقتل قادتها، وشرد أبناؤها، وضيق على أعضائها. وتناقل الحكام العرب سياسة زبانية مصر في أقطارهم، فكانت تهمة الانتماء إلى الحركة الإسلامية أخطر التهم، وكانت الدعوة إلى الله عز وجل أعظم جرم، وهذا الوضع كان مدعاة للحركة الإسلامية لتنشغل بتقوية بنائها؛ ومضاعفة صلتها بخالقها تقربا إليه بالفرض والنفل، فكانت مجالس الذكر متكاثرة؛ وحلاوة الإيمان حاصلة، ومعلوم أن المرء يكون أشد قربا من الله عز وجل في أوقاته العصيبة.

ثم وقعت تحولات في المشهد السياسي العربي، واقتنع حكام باستحالة اجتثاث التنظيمات الإسلامية، فاتبعوا سياسة الاحتواء ومحاولة تشذيب أفكارها وإشراكها في مؤسسات الدولة مع استمالة من تستطيع من قادتها، فانفتح لمن اقتنع من تنظيمات الحركة الإسلامية بهذا المسار ميادين عمل أخرى، فهجمت انشغالات الساحة السياسية على التنظيم، وسعى بطاقاته المحدودة إلى محاولة تغطية كل نشاط سواء تعلق الأمر بالعمل النيابي أو النقابي أو الإعلامي… وغدت مع الوقت مسألة التربية في مقاعد خلفية.

ومن الأسباب التي يخبرها أصحاب الميدان أيضا توسع التنظيم الإسلامي وغلبة ذهنية كَمِّه على حكمة كيفه؛ وبسبب قلة الرواحل تمنح مسؤولية الإشراف على العمل التنظيمي والتربوي لأناس لَمّا تتوافر فيهم شروط التربية، فيكون جهدهم هباء، وحصادهم مرا، وآثارهم علقما. ولعلها معضلة عويصة يقف أمامها العمل الإسلامي حائرا بين سؤالَيْ النخبوية والتمدد الشعبي ؛ فلكل مزاياه ونواقصه. لذا تجد “العلماء والربانيين بدأ أثرهم ووجودهم يتضاءل أمام النشاطات التنظيمية والدعوية والحركية التي تجتذب الأجيال الجديدة مع بقاء ثغرة النضج الروحي والعلمي قائمة، فالظروف تبقي الأجواء غير مؤهلة لهذا النوع من النضج الذي يحتاج إلى صبر وإلى أجواء مناسبة “[2].

ومن الأسباب أيضا أن هناك شخصيات وكفاءات إسلامية تعلن عن نيتها تأسيس أحزاب سياسية تخوض من خلالها غمار العمل السياسي، ولما يسبق عملها طول مكث في المسجد، وكثرة صحبة في حلق الذكر، فتدخل الميدان السياسي منتصرة للشعار الإسلامي في مواجهة الشعار اللائكي وقد انقلبت عندها الأولويات، وقد تكون نية مؤسسيها خالصة، إلا أنها تخطئ المبتدأ فأنى يتحقق لها الخبر. فهي تنظيمات تعلي من شعارات الحرية والعدالة والتنمية وحقوق الإنسان… كل ذلك بمرجعية إسلامية؛ إلا أنه يخبو عندها سؤال تحقق التربية في ذوات المنتصرين لمشروع الدولة الإسلامية.

ويفد على هذا التنظيم أناس يجدون الشعار الإسلامي أقرب إلى وجدانهم إلا أنهم يمارسون السياسة كما تمارسها بقية الأحزاب، بل تجدهم يستغربون الحديث عن ضرورة رصد أبناء التنظيم ساعات يقضونها مجتمعين في الذكر، وقيام الليل، وتنظيم الإفطارات الجماعية في الأيام التي يسن صيامها.. وإنما سبب استغرابهم أنها مجالس لا يجدون مثيلها في الأحزاب السياسية، فيظنون أن الشأن التربوي أمر يجتهد فيه كل فذ منفردا، وأنهم إنما يجمعهم البرنامج الحزبي والانتصار للفكرة الإسلامية.

ودروس التاريخ تثبت أن حال مثل هذه التنظيمات ينقلب وبالا على المنتسبين إليه وعلى الدعوة؛ إذ ينتكسون عند أولى ابتلاءات الاعتقال، أو تستهويهم مفاتن المناصب عند أول سانحة، أو يبرد حماسهم وينضب معينهم ويجمد جهدهم بعد حين.

ولا غرابة في ذلك كله؛ فإن المرء “إذا نقص الإيمان في قلبه، وضعفت صلته بربه، ووهن ارتباطه به، وانصرفت نفسه إلى الدنيا، وآثرها بحبه وسعيه، ذبل الإسلام في حياته، وأصبح رسما حائلا، لا حرارة فيه؛ ولا روح له، وتراجع عنده إلى مرتبة متأخرة، ولم يعد يصدر عنه، أو يقيس به، أو يجد حلاوة العمل له، والتضحية من أجله.. بل إنه ليستكثر عليه كل جهد، ويستغلي كل بذل، ويحسه عبئا ثقيلا على كتفيه، وحاجزا في وجهه دون ما يشتهيه، فهو يتخفف منه خطوة بعد خطوة، ويوما بعد يوم”[3].

نعوذ بالله من الحور بعد الكور.


* ذكره محمد أحمد الراشد: فضائح الفتن.دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية/مصر. ص9

[1] سعيد حوى. إحياء الربانية. ص: 13

[2] المرجع نفسه. ص:49

[3] عصام العطار. أزمة روحية. ص: 16

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق