تقديم كتاب:(فلسفة التاريخ في فكر مالك بن نبي)

الكتاب: فلسفة التاريخ في فكر مالك بن نبي(كتاب جماعي)
تنسيق: أحمد الفراك وبدران بن الحسن
الناشر: أفريقيا الشرق
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
لا شك أن قلة من العلماء والمفكرين المعاصرين من انتبهوا إلى حاجة الفكر الإسلامي اليوم إلى تصور واضح لمهمات التغيير ومداخل الخروج من دوائر التخلف والفتن التي تعيشها الأمة الإسلامية، ومن هذه القلة يبرز المفكر المغاربي مالك بن نبي رحمه الله (1323-1393هـ/1905-1973م)، الذي بذل جهدا كبيرا في بعث الوعي الإسلامي وإيقاظ العقل المسلم من سباته الذي طال قرونا ذوات العدد، ووضعِه أمام المهمات التي تنتظر منه إنجازها من غير تسويف ولا تعطيل ولا تواكل.
وقد ألح رحمه الله في جميع مؤلفاته على أهمية المعرفة التاريخية لإكساب المسلمين نظرية واعية في التغيير؛ تغيير الإنسان وتغيير الأشياء (الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتوابعها)، قادرة على انتشال العقل المسلم من غرقه في أوحال التبعية والجمود والتخلف، وإنهاضه للقيام بواجبه الإيماني والتاريخي في بناء الحضارة البديل في “شكل راقٍ من الحياة الأخلاقية والمادية” المنسجمة مع “الروح الدينية” المؤسِّسة للمعنى والمحددة للمرمى.
وإذا كان التاريخ هو “النشاط المشترك بين عالم الأشياء والأشخاص والأفكار”، و”الشعاع الموجه إلى الأمام” في فكر بن نبي، فإن المسؤول عن طبيعة ذلك النشاط المتداخل والتكامل، هو الإنسان ببعديه الفردي والجماعي، الروح والمادة، إذ هو المكلف بصناعة تاريخه الخاص بواسطة “تفعيل” معطيات واقعه وفق السنن والأسباب الناظمة للعلاقات بين الظواهر والأفكار والأزمان، ولا مجال في حركية التاريخ للصدفة ولا لنظرية المؤامرة ولا لكيد الاستعمار ولا للحتمية التاريخية الخطية.
ولذلك يمكننا من خلال أحداث التاريخ استبيان أسباب الإخفاق وعوامل النجاح في التجارب البشرية المختلفة من خلال معرفة النفس البشرية التي هي “المحرك الجوهري للتاريخ الإنساني”، ومعرفة الواقع الذي تنتظم فيه أفعال البشر وقوانين الزمان والمكان، في إطار جدلية مستمرة تتفاعل فيها إرادات الناس وإمكانات الطبيعة وإكراهات السياسة وأسباب القوة، دون أن تغادر حركة الإنسان وسعيه مواقع الأقدار وما تجليه الحكمة الإلهية في الخلق والتدبير.
ولقد انشغل مالك بن نبي انشغالا نقديا بالتاريخ وبالحضارة وبشروط النهضة للأمة المسلمة، من أجل تربية عقل جديد وبناء مجتمع جديد تتعاون فيه مقومات بسط اليد وإعمال الفكر وإحياء القلب لتحقيق حضارة النور الشاملة للمادة والمعنى بلا انفصال ولا تعطيل.
تحتاج قراءة الواقع إلى معرفة الماضي معرفة دقيقة، للوقاية من علل التاريخ وثقافة التاريخ، ويحتاج تغيير الواقع إلى معرفة الحاضر معرفة مستبصرة بنور الوحي للتخلص من عقلية الانهزام، وانتظار الفرَج من الآخر مثلما ينتظر السجين من سَجَّانه مفاتيح السجن. فلن تؤسس الأمة مجدها بقعودها، ولا بانتظار غيرها، وقد جربت ما يزيد عن قرن من الزمان منهج التعويل على الغير فما أنجزت نهضتها المأمولة ولا دخلت التاريخ باقتدار مُشرف.
نظرا لأهمية الوعي التاريخي في تشكيل الوعي العام عند الإنسان، ونظرا لأن مالك بن نبي كان من بين المفكرين المعاصرين السباقين إلى التنبيه على ضرورة إدخال عنصر الزمن (النهر الذي يعبر العالم منذ القدم) في تجديد قراءة التاريخ قراءة كُلية فاحصة تسعف العقل المسلم في تقويم الماضي -الذي وقعت فيه “مفاسد عظيمة ليس لها حد ولا وصف” بتعبير ابن كثير-تقويما موضوعيا شاملا، وفي التخطيط الدقيق والقاصد للمستقبل الحضاري المنشود. لا بد من الوعي بأن تاريخ التطور الحضاري للمسلمين قد حدثت فيه تصدعات مبكرة مع انقلاب نظام الشورى إلى نظام الوراثة، وتحوُّل منطق الاختيار إلى منطق السيف، وما تبع ذلك من انحدار في التاريخ، وتمزق في الكيان، وضعف في القوة، وشتات في الوحدة، وانحباس في الفقه، وتجزيئ في العقل، وموت في الفكر.
فكيف تطور تاريخ المسلمين من الأعلى إلى المنحدر؟ وكيف وقعت تحولات عميقة في مجرى نهره ومصبه؟ وكيف انحرف المسير ووقع الانزلاق وبقينا “حتى اليوم محتجزين في قبضة السيف الأموي”[1]؟ وكيف انتقلنا من أعالي المثال إلى الواقع المنكسر؟ وكيف وقع التحول من منهجية “تراضٍ منهم وتشاور”، إلى منهجية “لا أريكم إلا ما أرى”؟ ومن المسؤول عن هذا الانكسار[2] الذي قلب القيم واستبدل تاريخ الانهزام بتاريخ التسامي؟
وكيف نقرأ تاريخنا قراءة جديدة؟ وكيف نعالج أمراضنا الموروثة من تاريخنا والطارئة من تعرضنا للاستعمار؟ وكيف ننظر “من أعالي التاريخ”[3] فنميز الشروط الثقافية والأسباب الاقتصادية والعوامل السياسية المتحكمة في التاريخ لنحسن استثمارها في بناء كيان الأمة المنهار؟ وما هي الخِطة المنهاجية لصناعة التاريخ الجديد أو “تاريخ في دروب جديدة” وإنجاز التغيير الحضاري في نظر مالك بن نبي؟
جوابا على هذه الأسئلة التأمت جهود كوكبة من الباحثين المهتمين بالفكر الإسلامي المعاصر، في إنجاز كتاب جماعي دولي مُحكَّم في موضوع “فلسفة التاريخ في فكر مالك بن نبي“، تشرفتُ بتنسيقه إلى جانب فضيلة الأستاذ الدكتور بدران بن الحسن، ونحن إذ نشكر جزيل الشكر السادة أعضاء اللجنة العلمية للكتاب والسادة الأساتذة الباحثين من مختلف الجامعات والمعاهد والمراكز العلمية على بحوثهم القيمة، ونشكر مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية على احتضانه لهذا العمل، لا ندعي أننا أحطنا بمختلف الأسئلة والقضايا التي تطرحها نظرية مالك بني نبي في التغيير، بقدر ما نزعم أننا أسهمنا من جهتنا في إجلاء معالم تلك النظرية ودعونا الباحثين إلى استئناف النظر في مسائلها الكبرى والإشكالات المتصلة بها، والتنبيه إلى واجب الوقت من خلالها وهو إيلاء العناية الفائقة لما يُنهض طلائع الأمة إلى الوعي بإمكانات واقعها وإكراهاته، والسعي الحثيث لتوحيد طاقاتها الروحية والمادية من أجل تشييد عمرانها الإيماني الإنساني الجديد. وإنها لعقباتٌ تحتاج إلى إرادات ماضية تقتحمها متوكلة على الله متعرضة لمدده وتوفيقه ورضاه. فهو سبحانه الهادي لأقوم السبل لا إله سواه. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
[1]– جلبي، خالص. الدرس الأفغاني، منشورات ألوان مغربية، مطبعة النجاح الجديدة، مكناس، ط1، 2003م، ص 129
[2]– الخطيب، سليمان. فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 1993، ص 116
[3] – ياسين، عبد السلام. نظرات في الفقه والتاريخ، الشركة الأوربية اللبنانية للنشر، بيروت، ط 2، 1990، ص 42