ظل الاهتمام متصاعدا في الدرس التوليدي في أفق صياغة نظرية لتكوين الكلمة تسمح بتقديم وصف وتفسير في نفس الآن للتصورات الاشتقاقية وقواعد الانتقال وأنظمة القيود التي تتحكم بطرق تحويلية، ترجع فيها الأبنية المحققة بالاستدلال والتمثيل إلى أبنية مُجرَّدة.
ينطلق كتاب(الأبنية في اللغة العربية: تفاعل الصرف والتطريز، دراسة تطبيقية في اللسانيات التوليدية الحديثة) للباحث اللساني الدكتور محمد الفتحي من تبني نظرية المفاضلة Optimality Theory التي وضع أساسها آلان برنس وبول سمولنسكي، والتي جاءت لتوجيه الاهتمام من البناء السلكيCyclic للكلمة إلى المفاضلة بين وجوهها التمثيلية الممكنة.
وقد وَظَّف المؤلفُ في كتابه فرضيات ثلاث نظريات: نظرية التناوبات المصوتية ونظرية الصرف المعجمي دون إغفال نظرية الصرفيين العرب القدامى التي استصحبها باقتدار منذ البداية إلى آخر فصل من فصول الكتاب مقارنا بين أنظار الصرفيين التراثيين ومقترحاتهم مع النماذج التحليلية المعاصرة، وقد سعى البحثُ على مدار أربعة فصول لتأكيد تقاطع مجموعة من المستويات في تشكيل البناء الصرفي، لها أبعاد صرفية وتطريزية تنتظم في بنية تُشَكِّل نطاق اشتغال مجموعة من القيود.
يَبرُز في هذا الكتاب جُهد نظري وتطبيقي كبير لمساءلة التراث الصوتي والصرفي العربي بأسلوب هادئ ورصين على ضوء ما استجد من أبحاث وفرضيات جديدة، من ذلك موضوع قواعد الوزن والصيغة وحروف العلة والحروف الأصلية والمضعف وحروف الزيادة التي تعرضت لانتقادات من قبل المُحدثين عددا ونوعا، إذ رأى بعضهم أن عددها يتجاوز (سألتمونيها) فأضاف إليها الحركات القصيرة الثلاث، ومنهم من لم يتوقف عند نمط حتى دافع عن إمكان زيادة كافة الحروف إلى غير ذلك من المُساءلات التي كشفت عن روح علمية متمكنة من النصوص التأسيسية والنظريات القديمة وقادرة على مناقشتها ومراجعتها بشجاعة ودقة.
يُعتبرُ النقدُ العلمي الطابعَ الغالب على كتاب محمد الفتحي، النقدُ العلمي بما هو تثمين وتقويم قبل أن يكون مجرد اختبار ونقض للتفسيرات التي يمكن أن تكون واهية وغير متماسكة، وهو نقد لا يتجه فقط للقديم، وإنما ميزة يمتاز بها أسلوب الباحث في كل ما يتعاطاه من نظريات ويُجَرِّبُه من أطر تفسيرية على ظواهر بناء الكلمة في العربية.. ولهذا لا يتوانى في اعتبار رأي ابن يعيش على سبيل المثال في موضع رأيا ذكيا ومستحسنا وجوابا عن إشكال في التمييز بين وزن صرفي ووزن صوري مثلا، وفي موضع آخر قد يعتبر حجته غير مقنعة لورود اعتراضات وأمثلة مضادة تنسف تفسيره، كما تجده يتبنى نظرية بوهاس وماكرثي فيما يخص القالب التطريزي فيما يتعلق باشتقاق اسم الفاعل، لكنه يرجع بعد استعراضه لعدد من الأمثلة والموازَنة ليحكم على أنها تعكس قصور تحليل ماكرثي وكثيرين غيره من الدارسين في إبراز عمق هذه المقولات.
في هذا الكتاب نجد الانتصار للعقل وللحجة في مقاربة نصوص التراث وآراء اللغويين المتقدمين وكذلك آراء ونظريات اللسانيين المعاصرين، وهذا من الحسنات التي تجعل من كتاب(الأبنية في اللغة العربية) ذا فائدة عظيمة للباحثين في موضوعات اللغة بين القديم والحديث، حيث يغدو التفتيش عن الأكثر منطقية وانسجاما هو المعيار وليس شيئا آخر.
من مزايا هذا البحث أنه سعى أيضا لتجسير المعرفة اللغوية القديمة بنظيرتها الحديثة، في أفق رسم خط متصل وغير منقطع للمعرفة اللسانية، لأن الكاتب فيما يبدو لا يؤمن بالقطائع الابستمولوجية وإنما بمبدأ المراكمة والاتصال، ولهذا تجده يبذل جهدا كبيرا في إعادة صياغة نظريات الصرف والأصوات في التراث صياغة تلائم العصر بالبحث عما يقابل المفاهيم التحليلية التي استعملها المتقدمون بالمفاهيم التي جاءت مرافقة للمقاربات اللسانية الحديثة، فقد عبر الصرفيون عن العلاقة بين المقولات بمصطلحات مختلفة كالجريان والتعلق والأخذ والاتصال، ويمكن التعبير عنها بمفاهيم حديثة لإبراز التفاعل بين الصرف والتطريز والآثار المترتبة عن ذلك.
يُميِّز كتابَ(الأبنية في اللغة العربية) الطابعُ الموضوعي واللغة العلمية المتخصصة الخالية من أي نزعة إنشائية أو عاطفية أو شعرية، والكتابُ وإن كان كُتِب بلغة عربية ولكنها متخصصة جدا فلا يَطمَع غيرُ المتخصص في اللسانيات عموما والنظرية التوليدية على وجه التحديد أن يظفر منه بشيء، فقد كُتِب للقارئ المتخصص وله وَحدَه، كُتب لقارئ يجمع بين خارطة التراث اللغوي القديم(ابن جني وابن يعيش وابن السراج وابن عصفور والسيرافي وغيرهم ) والمُنجَز اللساني الحديث(شومسكي ولونستام وكاي وكايزر وغيرهم). وهو بلا شك إضافة نوعية للمكتبة اللسانية العربية.
فأنت إزاء كِتاب يحترم صاحبُه لغةَ اللسانيات وبخاصة في مستويين من أدق مستويات اللغة؛ الصوتيات والصِّرافة، فلا يمكن للقارئ أن يتصور زعزعة كلمة في النص عن موضعها أو يتصور حذف جملة أو حتى نصفها لأن البناء حينها سينهار وسيضطرب، فقد بنى الدكتور محمد الفتحي فقرات كتابه برهنة واستدلالا بشكل نسقي يكاد يكون قريبا إلى لغة المنطق والرياضيات التي ليس فيها مجاز ولا تسامح في العبارة، فكل عبارة في موضعها وكل كلمة في موقعها لا تغادره مع غزارة معرفية لا تخطئها العين.
من النتائج المركزية لهذا العمل وهي كثيرة بحسب تنوع الظواهر الاشتقاقية التي اشتغل عليها، أن البناء هو حصيلة تأثيرات متبادلة بين التطريز والتصريف، تارة من هذا الجانب وتارة من الجانب الآخر، وهو تأليف بين مجموعة من الصريفات وتعاقب مجموعة من المستويات، باعتباره تقاطع مجالين أساسيين لأولهما طابع تطريزي يُعبَّر عنه بالقالب القائم على أحياز تنتظم في بنية مقطعية، وللثاني طابع صرفي يتجسد في العدة القطعية التي تنتظم في صريفات، وأن عملية التأليف هذه تراعي سلامة البناء التي تتحكم فيها مجموعة من القيود الصرفية والتطريزية معا، وقد سجل بذلك انتصاره لفرضية التفاعل أكثر من التأثير الأحادي الجانب.
