تحدث مانويل كاريلو في كتابه (خطابات الحداثة) عن المنعطف البلاغي الذي يؤشر على مسارات فتحها من جديد اللقاء الفلسفي والبلاغي، إذ لم يعد بالإمكان المحافظة على الخطوط التقليدية والحدود المرسومة بين الحقلين، وخاصة أن الجذور التي يمكن المراهنة عليها ما تزال حية منذ الأزمنة القديمة للفكر ولها من الأسباب الكثيرة ما يبررها، وخاصة أسئلة الفكرة والصورة.
هل يمكن أن توجد فكرة بمعزل عن الصورة؟ وهل تعيد الصورة تجسيد الفكرة؟ وإلى أي مدى يمكن أن يحصل التفلسف خارج دائرة البلاغة وما تتيحه من أدوات تصويرية، وهل البلاغة إلا فلسفة؟ وهل الفلسفة إلا استعارة؟
لقد انساق الدكتور توفيق فائزي في كتابه (الاستعارة والنص الفلسفي) وراء سؤال الأسرار الكامنة وراء الإبداع الفلسفي، واختار أن يعالجها بطريقة مختلفة كشفت عن إلمام الباحث بشِعاب الفلسفة والبلاغة قديمها وحديثها واطلاعه على مدارسها ومباحثها ومفارقاتها بلغات متعددة، جعله تمرسه واقتداره المعرفي وتمكنه من أدوات البحث يسافر بعيدا متجاوزا كثيرا من الدراسات التي قصرت نظرها على العلاقة بين ثنائية البلاغة والفلسفة كما فعل إدوارد شيابا على سبيل المثال في اشتغاله على الفلسفة اليونانية والبلاغة عند بروتاغوراس.
وكما أنه لا توجد لغة خالصة تخلو من استعارة أو من أنظمة استعارية فإنه لا توجد فلسفة مهما ادَّعت موضوعيتها وشفافيتها وسعيها للتعبير عن الحقيقة يمكنها الاستغناء عن الاستعارة، إن الاستعارة قَدَرُ اللغة، لأن اللغة سواء الفلسفية أو الشعرية تظل دائما غائمة ومليئة بالفجوات وتتحدى سلطتنا المرجعية وقوانينا الثابتة، لكنها في ذات الوقت تخضع بشكل ما لقوة الاستعمال كما أشار ديفيدسون.
يلاحظ القارئ اتساع أفق الدكتور فائزي وإحاطته بعمق الإشكال انطلاقا من متون الفلسفة اليونانية التي عالجت موضوع التخييل إلى نصوص نيتشه وبيرغسون وهيجل وماكس بلاك وديفيدسون مرورا بأعمال الجاحظ وابن رشد والفارابي وابن تيمية وغيرهم من أساطين اللغة والبلاغة والنقد.
لقد دخل الأستاذ فائزي ميدان البلاغة من باب الفلسفة، ولم يكن هاجسه أن يستعرض فقط أقوال المتقدمين من فلاسفة وبلاغيين في موضوع العلاقة الممكنة بين الاغتناء البلاغي والاغتناء الفلسفي، بل سعى إلى أبعد من ذلك باقتراح نظرية للاستعارة الفلسفية، وذلك من خلال ربط الاستعارة الفلسفية بخصوصية المفهوم الفلسفي، واضعا الاستعارة المفهومية في مقام المفهوم نفسه، وقد انتهى إلى أن الاستعارة الفلسفية هي الاستعارة التمثيلية التي تتميز بالتركيبية إن حولناها إلى تمثيل، كما انتهى إلى أن التمثيل الفلسفي هو التمثيل البلاغي أو لنقل التمثيل التناسبي. ولا تقف الاستعارة الفلسفية عند حدود وظيفة نقل المعاني وإبلاغها، ولكن تتعداها إلى وظيفة التوليد والتحويل بفضل الطاقة الابتكارية التي تتوفر عليها.
من حسنات كتاب الدكتور فائزي توفيق أنه كشف لنا الوجه الفلسفي المستنير لكثير من أعلام ثقافتنا العربية والإسلامية كالجرجاني وابن الأثير والرازي والرماني والسجلماسي وغيرهم، كما مَكَّن انفتاح الدكتور فائزي على تراث ابن تيمية على سبيل المثال من كشف البعد الوضعي للصورة التي كانت للفلسفة عن نفسها، كما تقدم أبعد من ذلك، معتبرا مع دولوز وجيل غاستون غرانجي، أن ما يميز الاستعارة الفلسفية هو مفاهيمها الموضوعة التي تتصف بالوضعية الشديدة وبالفوقية والتعالي.
حرص الأستاذ فائزي في عمله أن يتملص من الأحكام المستعجلة والسهلة، كما حرص بوعي ناضج ويقظ على أن يظل في خط التوازن والنقد الصارم وفي ذات الوقت الهادئ للتصورات الاختزالية من غير أن ينفيها أو يمارس عليها سلطة الحجب، فانتصر في النهاية لشعرية الفلسفة، وهكذا نجده حين درس الاستعارة في بعديها الاستبدالي والتفاعلي، بيَّن أن الفلسفة تتضمن الأبعاد التي همَّشَتها كالبعد الجدلي والخطابي والشعري، وأنها تخاطب غيرها مما يجعل معناها يغترب في صور تواضعية تسعى إلى التأثير في الغير.
يؤكد الكاتب بما يكفي من الأدلة والنصوص الكلاسيكية والمعاصرة أن اللجوء إلى الاستعارة في القول الفلسفي كان من أجل إعادة الاعتبار إلى الرؤية التي تلتفت إلى ما تتضمنه من الجديد الذي يتم إعدامه بمحاولة إيجاد عوض له، والاستعارة تفتح حينها أفقا ممتدا للدلالات الجديدة التي تسمح بالتفطن لها داخلها، ولم يشأ ان يتنكر للرؤية الاستبدالية، معتبرا إياها ذات قيمة وظيفية تجعلنا لا نتواجه مواجهة مطلقة مع جديد الاستعارة.
من خلاصات عمل الدكتور توفيق فائزي وهي كثيرة بالمناسبة أن الفلسفة تخييلية شئنا أم أبينا، والاستعارات والتمثيلات جزء جوهري من بنائها، وهذه الأخيرة لا تقوم بوظيفة تعليمية إبلاغية فحسب، بل بنائية وتوليدية للمعنى الفلسفي، مما يجعل الفلسفة لا تشذ عن الاضطلاع بوظيفة تحريكية، أي أنها تحرك في الكائن نوازع ومشاعر باستمرار.
