تقديم كتاب: الخطاب الافتتاحي في القرآن الكريم(إدريس مقبول)
من النقد السردي وتحليل الخطاب وجماليات الرواية وعتبات الكتابة انتقل الباحث الدكتور عبد المالك أشهبون إلى ضفة علوم القرآن وبلاغته وتفسيره عبر كتابه “الخطاب الافتتاحي في القرآن الكريم”، مختارا بذلك تجريب عدد من الأدوات التي تمكن منها في خبرته النقدية الطويلة لمقاربة فواتح السور وخطاب البدايات في قصص القرآن الكريم، وذلك نظرا لما للافتتاح كما يقول رولان بارث من خطورة وأهمية، وعليها تتوقف كافة استراتيجيات الفهم، وهو بهذا الصنيع يدشن لقفزة نوعية ذات تلميح جميل للمشتغلين بالسرديات الأدبية ليلتفتوا بعُدَّتهم الفنية والنقدية صوب النص المؤسس لحضارتنا العربية والإسلامية من أجل إعادة اكتشافه مرات ومرات بشكل مغاير بعد أن اكتشفته العلوم الكلاسيكية بطريقتها ومناهجها.
هذا الكتاب رغم صغر حجمه إلا أنه مثقل بالرهانات والأسئلة ومشبع بالأمل في إحداث نقلة نوعية من خلال الدخول لعالم القرآن الكريم بأسلوب بحثي لا يقطع مع القديم التراثي لكنه يضيف إليه ثمرات العقل التحليلي في مجال النقد الفني والجمالي مؤمنا بالتعدد الملحوظ في بنيات النص القرآني التي تشكل في النهاية عناصر القوة في انسجامه وتلاحم أطرافه البانية.
عند مطالعة هذا الكتاب يجد القارئ نفسه في صحبة ناقد متمكن بصير بمجاله لا يقتصر نظره على النقد الحديث الذي تخصص فيه وخبر مدارسه ومناهجه واشتغل على أعلامه، وإنما عالم مطلع بما فيه الكفاية على نصوص التراث ومظانها فيما يتعلق بالعلوم التي نشأت على ضفاف القرآن الكريم من بلاغة ونحو وتفسير وإعجاز، مع مرونة في التوليف بين القديم والحديث دون تكلف، وهي ميزة للباحث المطلع تكشف عنها النصوص المختصرة الصغيرة قبل الكبيرة.
كما لا يخلو كتاب “الخطاب الافتتاحي في القرآن الكريم” من نَفَس فلسفي يكشف ولعَ الكاتب الدكتور عبد المالك أشهبون باجتياز حدود التحليل وتخوم التأويل اللغوي والدخول في مدارات التأمل التي يفضي إليها اللقاء المباشر بالقرآن الكريم، ومن ذلك تأملاته في أسرار البسملة وكيف تحولت في انتقالها من الدلالة إلى التداول إلى خطاب ذي بعد تواصلي منغرس في الثقافة العربية الإسلامية يمثل عالما تصوريا توحيديا في مقابل عالم تصوري وثني، وكيف رسخ القرآن والسنة معا ديمومتها في الزمان، فهي بالتالي_ علامة عابرة للزمان والمكان.
لا يغرق الكتاب في السرديات التي حفت بموضوعه كما لا يتورط في التحيز المذهبي لأي تفسير، بل يناقشها كلها بموضوعية ويستفيد منها من أجل اجتراح رؤية مختلفة دون أن يكون طرفا في النزاعات التاريخية والمدرسية التقليدية، ومن ذلك وقوفه مع تأويلات الحروف المقطعة، والتي استعرض فيها أغلب ما قيل فيها قديما وحديثا، دون أن يغفل عمن اعتبرها وحيا إلها معجزا، وقبسا متعاليا، يقيم بينه وبين تأويله الإنساني حجابا ومسافة، وتجلت تلك المسافة في تنصيب هذه الحروف مثالا، بمقدور القارئ قراءتها وتهجيها، لكنه لا يستطيع أن يصل إلى كنهها، ففي الاعتراف بعجز الوعي الإنساني عن تملك وتفسير هذه الحروف، يستمر النص القرآني محاطا باسرار وبهالة لا تنطفئ.
يقر الكاتب بعد رحلة متشعبة في صحبة الفواتح إلى أن جاذبية القرآن الكريم أمر متفق عليه، وهو أمر يستوي فيه العالم الذي يتذوق الحروف ويستمرئ تركيبها والجاهل الذي يقرأ ولا يثبت معه من الكلام إلا أصوات الحروف، ولا جهة لتعليل ذلك إلا إعجاز نظمه بخصائصه الموسيقية وتساوق الحروف ومجيئها مضبوطة من بلاغة النغم والإيقاع الداخلي والخارجي، فضلا عن براعة التصوير وسمو البيان وروعة الأداء الذي يعتبر تجربة فريدة عند كل قراءة.
وفي تناوله للقصة القرآنية، انتهى الدكتور عبد المالك أشهبون بعد بسط تحليلي معمق إلى أن بنية السرد القرآني ليست بسيطة التكون والتشكل كما يمكن ان يعتقد القارئ لأول مرة، بل هي قصص كثيفة وعميقة، غنية بدلالاتها ومتعددة في مبناها، وموحية بعباراتها وألفاظها، فضلا عن أنها بنيات قصصية بحكم خصوصية مصدرها وتعاليه لها قدرة خاصة على الإدهاش، والتأثير والإقناع، وهذه واحدة من وظائفها التربوية في مخاطبة النفس البشرية..القصص القرآنية ترتفع فوق التاريخ نحو عوالم مفارقة للواقع والتاريخ، وقد جاءت في تتابعها وإجمالها وتفصيلها وتعاقبها وانقطاعها مختلفة الأساليب والأشكال والمرامي بحسب سياقات السور ومناسبات المواضيع، كما أن التكرار فيها يمكن فهمه بشكل أعمق بالرجوع لمفاهيم الرؤيا والزمن والهوية والامتداد والعودة والأصل الثابت.
يُظهر لنا هذا الكتاب وجها آخر من وجوه الكاتب/الناقد التي لم نألفها، وبخاصة في مجال تحليله للقصص القرآني، إذ أظهر براعة تفسيرية وحسا تأويليا متميزا وتوظيفا نموذجيا لأدوات التحليل السردي للشخصيات ولأساليب الحكي وللخصائص الفنية التي جسدها خطاب البدايات، وهو بذلك يقدم مساهمة تطبيقية ونظرية معتبرة ومهمة للمكتبة القرآنية من زاوية الدراسة الأدبية والسردية التي تعتبر في نظرنا ورشا واعدا يحتاج لمزيد من الاشتغال والمراكمة.