تقديم كتاب: الفكر الأخلاقي المعاصر(أحمد الفراك)
الكتاب: الفكر الأخلاقي المعاصر:الماهية الأخلاقية للإنسان ورهانات الأخلاق التطبيقية المجالية (جماعي)
منسق الكتاب: أحمد الفراك وجمال الدين ناسك
دار النشر: افريقيا الشرق.
يعد مبحث الأخلاق التطبيقية من المباحث المستجدة في حقول الدراسات الأخلاقية، والذي يعنى تأسيسا على النظريات الفلسفية الأخلاقية بالمجالات التطبيقية، أمثال أخلاقيات البيئة وأخلاقيات المهن والأعمال وأخلاقيات الإعلام والاتصال وأخلاقيات السياسة والشأن العام. فهو مبحث يتناول موضوع الأخلاق والأخلاقيات في بعد جديد يربط القيم الأخلاقية بالواقع المعاش وبمصالح الفرد والجماعة حتى يتخذ صفة العالمية دونما اعتبار للعرق أو الدّين أو الجنس. وقد برزت الأخلاق التطبيقية أواخر ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية بموازاة ظهور حقول معرفية جديدة تطرح تساؤلات أخلاقية مغايرة لسابقاتها.
لقد تفطن فيلسوف الأخلاق الأمريكي والخبير في أخلاقيات علم الأحياء فان بوتر رينسلاي[1] van potter rensselaye(ت2001م) إلى تخصيص هذا الحقل بتلك التسمية “الأخلاق التطبيقية” للدلالة على مشروع استخدام العلوم البيولوجية من أجل تحسين نمط العيش عند الإنسان وتوفير شروط استمراريته في الحياة، وذلك بدمج المعارف البيولوجية والقيم الإنسانية[2]، فأطلق عليها لفظة البيوإيتيقا والتي سريعا ما تحول معناها من الدلالة على مفهوم قيم وأخلاقيات تخص حقلا معرفيا واسعا تدخل ضمنه كل المعارف البيولوجية من طب وعلم وراثة وعلم البيئة وما يرتبط بهذه المباحث من علوم وتطبيقات، بهدف تغطية مجالات وأنشطة متعددة على رأسها تنظيم النسل وتحقيق السلم ومحاربة الفقر والدفاع عن سعادة الأفراد والحفاظ على البيئة وحماية الحياة الحيوانية، إلى الدلالة على أخلاقيات تخص القضايا التي يثيرها تقدم العلوم البيولوجية وتطبيقاتها الطبية فقط.
كان من نتائج التطور العلمي والتقني في العصر الحديث، اعتبار المقوم الأخلاقي في البحث العلمي كابحا لطموح العقل “الحداثي” في السيطرة والتحكم في الموضوع (الإنسان والطبيعة) عبر التكميم والتجريب؛ مما نتج عن ذلك نشوء وسيطرة “نموذج معرفي” هيمن على المنهج العلمي الحديث، يسنده تحالف العلم مع التقنية؛ والذي تتلخص أهم مبادئه في “الموضوعية العلمية” و”الصرامة المنهجية” و”الحياد الأخلاقي” للناظر والباحث والدارس، وقصر المنهجية العلمية على المنهج التجريبي بوجهيه التقليدي والمعاصرة، والاستئناس بطرائق الاستنباط والاستقراء، وغيرها من المبادئ التي تشكل مقومات المنهج العلمي في النسق المعرفي الحديث، حتى صار من السمات المميزة لهذا النسق وشعاره الدال هو “لا أخلاق في العلم”.
في الوقت الذي يذهب فيه آخرون إلى أن المنظومة المعرفية “الحداثية” و”ما بعد الحداثية” موسومة في حقيقتها بطابع النسبية والتغير والتحول المستمر؛ على اعتبار أن “الحداثة” ذاتها هي في الواقع سلسلة متلاحقة من الانقلابات على الموروثات التي تقيُّد “الذات” عن ممارسة قيمة القيم في فلسفة الحداثة، ألا وهي “الحرية”، وانعتاقها من كل معيار متعال، دينيا كان أو ميتافيزيقيا أو أخلاقيا، بل وحتى تنظيميا سلطويا. وبتعبير الفيلسوفة جاكلين روس، “إننا نحيا في زمن زالت فيه المرجعيات التقليدية”[3].
في المقابل، فإن “الفلسفة الأخلاقية المعاصرة” قد تنادت للتحذير من مآلات النسق الحداثي التقني التطبيقية والانهيارات الأخلاقية الملازمة لها، في إطار وعي فلسفي عملي ونقدي وإنقاذي جديد، ومتسلح بالاعتبار القيمي الأخلاقي التقويمي لأعطاب الحداثة وما بعد الحداثة ونتائجهما، وذلك من أجل إعادة ترتيب وضع الإنسان في الطبيعة وتحديد وظائفه فيها؛ مما أسهم في ظهور فلسفات، بل تيارات فلسفية تنادي بتخليق العلم والمعرفة (مضامين ومناهج ومؤسسات)، وإن اختلفت مشاربها ومناهجها، إلا أنها تُعد تعبيرا عن عمق الأزمة الأخلاقية التي انحدر إليها النظام المعرفي الحديث، وتعبيرا عن التوتر الحاد بين العلم والتقنية، من جهة، بما تتسم به من تقدم وتحول متسارع لا يتوقف، وبين القيم والأخلاق بما تتميز به من خصائص المحافظة والثبات من جهة أخرى.
في خضم ذلك ظهر ما يُدعى بـ”الأخلاقيات التطبيقية” المرتبطة بقطاعات علمية محددة؛ وتعني بشكل أساس مجمل التشريعات والقواعد القيمية ذات البعد العملي، والتي تنتظم وفقها الأنشطة العلمية داخل مجال عمل الجماعات العلمية في مختلف التخصصات العلمية والتقنية والصناعية، كما تهتم أيضا بمآلات تسارع النشاط العلمي وجرأته، ومحاولة معالجة ما يثيره من أزمات عملية وما يتسبَّب فيه من مشكلات مجالية[4].
ومع تسارع التقنية الجنوني وتجدُّد اندلاع الحروب في العالم سيشهد الفكر الأخلاقي المعاصر بلا ريب تحولات عميقة، بل هزات قوية ستطبع مساره وتفتح أمامه أفقا غير مسبوق، مع ما يثيره هذا التحوُّل من إشكالات منهجية وإبستيمولوجية؛ إذ ستنقله من طبيعة الأنساق الفلسفية التأملية وقضاياها الكلاسيكية التي درج على درسها مبحث الأخلاق من لدن الفلسفة اليونانية بمختلف طبقاتها (طبيعة الخير والشر ومفهوم السعادة وغيره)، إلى الفلسفة الأخلاقية الحديثة، من قبيل: مشكلات النفعية عند جريمي بنثام، والواجب الأخلاقي عند كانط، وغيرها، وما تلاها من مذاهب ومدارس.
وتفصيلا لموضوع للبحث في مجالات وقضايا “الأخلاقيات التطبيقية”، بوصفها أخلاقا معيارية[5]، تتخذ “العلم الذي يتخذ موضوعا له مباشرا الأحكام التقويمية، على الأعمال الموسومة بأنها حسنة أو قبيحة”، وإشكالاتها المنهجية والمعرفية والفلسفية؛ شاركت كوكبة من الباحثين المهتمين بالقضايا الأخلاقية ذات الصلة في إنجاز هذا الكتاب الجماعي المحكم من خلال الاشتغال على إحدى موضوعات المحاور التي وردت في الاستكتاب الذي تشرفتُ بإعداد أرضيته رفقة الدكتور جمال الدين ناسك، وقد جاءت محاور كالآتي:
_”الأخلاقيات التطبيقية” وشروط البناء المنهجي والإبيستيمولوجي للعلم.
_ “الأخلاق البيئية”: المدارس والأطروحات، والنتائج.
_ التأسيس الفلسفي للأخلاق المعيارية وجدل العقلانية والأخلاقية
_سؤال الأخلاق في مجالات العمل الطبي أو “البيوإيتيقا”
_أخلاق الأعمال والمهن: الأسس النظرية وإكراهات العمل الميداني
_ فضاءات التربية والتعليم وسؤال التربية على القيم الأخلاقية
_ قطاع الإعلام والاتصال بين خلق الحرية وضوابط قيم المهنية والواجب
_ سؤال القيم في الآداب والثقافة والفنون بمختلف حقولها وأنواعها.
ونشكر بالمناسبة جميع الباحثين والباحثات الذين شاركوا في إنجاز هذا العمل الموسوم بـ”الفكر الأخلاقي المعاصر: الماهية الأخلاقية للإنسان ورهانات الأخلاق التطبيقية المجالية”، على إسهامهم في استئناف النظر في موضوعات الأخلاق التطبيقية، كما لا يفوتنا التنويه بأعضاء اللجنة العلمية التي فحصت مشكورة مقالات الكتاب، وعلى رأسها فضيلة الأستاذ الدكتور إدريس مقبول رئيس مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية على تتبعه للاستكتاب وعنايته بمسألة طبع الكتاب وتنظيم ندوة دولية في مضامينه.
[1] – عالم الكيمياء الحيوية وطبيب في علم الأورام. وُلد بوتر في شمال شرق داكوتا الجنوبية بالولايات المتحدة الأمريكية، واشتغل أستاذًا لعلم الأورام في مختبر مكاردل لأبحاث السرطان في جامعة ويسكونسن ماديسون(the University of Wisconsin–Madison) لأكثر من خمسة عقود، وتوفي سنة 2001م. (Trosko, J. E., & Pitot, H. C. (2003). In Memoriam: Professor Emeritus Van Rensselaer Potter II (1911–2001). Cancer Research, 63, 1724. Retrieved May 15, 2021.).
[2] بوفتاس، عمر. البيوإيتيقا: الأخلاقيات الجديدة في مواجهة تجاوزات البيوتكنولوجيا، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 2011م، ص17
[3] – روس، جاكلين. الفكر الأخلاقي المعاصر، تعريب: عادل العوا، عويدات للنشر للطباعة، بيروت، ط1، 2001م، ص 13
[4]-Voir: Champagne, Martin. QU’EST -CE QUE L’ÉTIHQUE APPLIQUÉE?, Université du Québec à Trois-Rivières , MAI 2003.
[5] – انظر أندري، لالاند. الموسوعة الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، ط 2، 2001، 1/371