قراءة في كتاب: النظام التعليمي بالمغرب والأندلس خلال العصر الوسيط(إدريس مقبول)
الكتاب: النظام التعليمي بالمغرب والأندلس خلال العصر الوسيط
الكاتب: سعيد بنحمادة
دار النشر: منشورات الزمن
بعد كتاب المستشرق الإسباني خوليان ريبيرا نهاية القرن التاسع عشر عن “التعليم عند المسلمين الإسبان” وقد كان بمنزلة الشرارة التي أوقدت ما بعدها، بدأ الاهتمام شيئا فشيئا ببعض تفاصيل المدرسة والدروس والنظام التربوي بالأندلس زمن الحكم الإسلامي، وقد جاء كتاب “النظام التعليمي بالمغرب والأندلس خلال العصر الوسيط” ضمن هذا السياق الحفري الذي يستهدف إماطة اللثام عما يسميه صاحب الكتاب المؤرخ سعيد بنحمادة بتشفير البنية العميقة للمجتمع والثقافة والاقتصاد والتعليم في العصور السابقة، وذلك في أفق التفتيش عن الخيوط التي جعلت من النظام التربوي والتعليمي في المدرسة النظامية المغربية الوسيطية نظاما متقدما قياسا إلى ظرفه ومحيطه الإقليمي والعالمي بما جمع في فلسفته من معرفة وقيم دعمهما المجتمع والسلطة على حد سواء لإبراز الوجه الحضاري للأمة العربية الإسلامية، وهو ما يفسر مؤشرات التقدم والازدهار التي رصدها الكاتب بحكم تخصصه وإحاطته بتاريخ الأندلس والمغرب في العصر الوسيط، وعالج ارتباطها بما يمكن تسميته برامج ومناهج التربية والتعليم بالغرب الإسلامي، ذلك أن البرامج والمناهج ليست سوى البنية السطحية لفلسفة عميقة عن الإنسان والمعرفة والعمران.
تكمن أهمية كتاب الباحث والمؤرخ سعيد بنحمادة في كونه فتح الدرس التاريخي على عدد من الحقول المعرفية التي قدمت إضافة نوعية لنتائج دراسته، فجاءت مباحثه التاريخية تربط بين السوسيولوجيا والمدرسة، وبين السياسة التعليمية وأسئلة التنمية، وبين النظام التعليمي والنظام الاقتصادي، ولهذا جاءت فصوله وفقراته متنوعة ومنسقة بلغة جميلة جمع فيها الكاتب بين الطابع الأدبي الرشيق ورصانة المؤرخ التي اكتسبها من طول تمرسه بالنصوص التاريخية المخطوطة قبل المطبوعة وقدرته على المقارنة بينها وتفكيكها.
لقد ساقت أسئلة نجاح تجربة نظام التربية والتعليم بالمغرب والأندلس الكاتبَ إلى تخوم معرفية متشابكة بعدما بذل جهدا واضحا في الاستدلال على فرضياته من خلال الكشف عن الاختيارات الحضارية ودورها في النهوض بالتعليم حين يكون فعلا أولوية لدى الدولة والمجتمع والنخبة، وعندها لا يمتنع التقدم والازدهار إذا كان التعليم والمعرفة هما الرافعة وليس شيئا آخر. فالتعليم وفق تصور المؤرخ بنحمادة من طبائع العمران، وهو هنا يكشف لنا تأثره الواضح بمدرسة ابن خلدون، يتقدم التعليم بتقدم العمران ويتخلف بتخلفه، فكلما تطورت الحضارة إلا وأثرت إيجابا على المسألة التعليمية، وكلما حصل التراجع إلا واندحرت المنظومة التعليمية، وهو ما سعى الكتاب ليبرهن عليه من خلال الوقوف على بعض المعالم الإيجابية للنظام التعليمي في قرطبة، وأيضا في مدن أخرى زمن حكم المرابطين والموحدين والمرينيين، حيث الإنسان والمعرفة في صلب الحضارة واهتمام الجماعة والمجتمع، فلا تقدم يُرجى إلا إذا قدَّمنا “المعلم” واحتفلنا به وأعدنا له اعتباره، كما أنه لا تقَدُّم مأمول إلى إذا أصبح التعليم والتربية شأنا مجتمعيا، على خلاف المراحل الأخيرة من العصر الوسيط التي تقهقر فيها التعليم متأثرا بتراجع القوة السياسية وتدهور المجتمع والاقتصاد والثقافة.
في هذا الكتاب النفيس يقف القارئ على محطات مشرقة لنتائج التعليم حين يرسو على أرضية قيم سليمة ومُؤَسِّسة للحضارة، حين كانت الحضارة تعني السمو وخدمة الإنسانية وحل معضلات البشرية، وقد انحطت اليوم بعد أن أمست تُرادف السوق وتقاس بمقاييس السوق ونماذجه وقوالبه ونماذجه الإدراكية.
إن مشروع المدرسة في نظر المؤرخ سعيد بنحمادة هو مشروع أمة، لا يجب أن يستقيل أي كان من مسؤوليته فيه، مشروع يجب أن يستند إلى النقد والبناء، ويسعى إلى تأصيل وتجذير الرؤية الكلية في فعل العقل، فالأمة كما يعرف الخاص والعام لا تنقصها الإمكانات ولا الموارد ولا حتى القيم، ولكنها في حاجة إلى المنهج لتستعيد سبقها وقيادتها للعالم وتقوم بدورها الحضاري في إخراج الإنسانية من مآزقها التي أوصلتها لها الرؤية المادية التسليعية.
هناك وعي حاد يخترق هذا الكتاب التاريخي الصغير الحجم والعظيم الفائدة، مقتضاه كما يقول كاتبه أن مهمة المؤرخ لم تعد هي التذكير بالماضي وتتبع قيام الدولة وسقوطها كما هو الشأن في الرؤية التقليدية، وإنما التنبيه على أخطاء الماضي المعيقة لتطور الحاضر والمانعة من استشراف الأفق، من خلال اقتحام المنسي والمسكوت عنه واللامفكر فيه من القضايا الدفينة والملغزة، عبر زمن طويل ومندمج، وهو جوهر فلسفة المدرسة التاريخية التي قادها في المغرب أعلام على رأسهم المؤرخ إبراهيم القادري بوتشيش بأعماله التي عبرت كل الحدود وخلفت لنا جيلا من خيرة المؤرخين الشباب الذين برهنوا عن قدرتهم على النبش في تاريخ الهامش والمهمشين وترسيم خط تاريخي ذي بعد نقدي واضح.
إن العقل العربي والمسلم مُطالب وهو يقرأ التاريخ أن يرصد أخطاء التركيب في الماضي حتى يتمكن من تجاوز عقبات التركيب في الحاضر، وهو ما يعتبره صاحب الكتاب أساس اهتمام المؤرخ باعتباره “مثقفا عضويا” يحمل رؤية نقدية لكل ما يجري حوله في هذا العالم.