ماذا يمكن أن يميز نظر عالم متخصص في الفيزياء حين يختار أن يتأمل في الفكر السياسي مع ما يقتضيه من غوص تحليلي في التجربتين التاريخيتين العربية والغربية في بناء الدولة؟
نعتقد أن كتاب (مفهوم الدولة المدنية في الفكر السياسي الإسلامي والغربي) للدكتور أحمد بوعشرين جاء من أجل وضع حل لمعادلة الديناميكا الديمقراطية قياسا على الديناميكا الحرارية في الفيزياء، فشعوب أمتنا ما تزال ترزح ولقرون طويلة تحت حكم الفرد ذي السلطة المطلقة، والسلطة المطلقة بلا شك طاقة سلبية ناسفة تمنع من كل ديناميات الإبداع، لأن الإبداع شرطه التحرر.
في هذا الكتاب يستعيد الكاتب أحمد بوعشرين التاريخ ليقرأه من جديد، وليفصِلَه عن المبادئ في مرحلة ثانية أثناء التفكيك وإعادة التركيب، ذلك أن البحث عن النموذج السياسي الراشد يتطلب وضع التاريخي في إطاره حتى لا يختلط بالمبدئي..يقرأ التاريخ السياسي في التجربتين من خلال ابن خلدون والماوردي وابن العربي وابن حزم والجويني في مقارنة بهوبز وجون لوك وسبينوزا ومونتيسكيو وغيرهم..كما يستذكر شخصيات منسية ونصوصا ما تزال كلماتها قادرة على إيقاظ الإحساس بالدهشة إزاء اللحظات السحرية التي ولدت فيها الديمقراطية.
يستعيد الكاتب تاريخ الغرب المركب والمتشابك في سعيه لإقامة دولة الحقوق ولبناء أنظمة تنفصل فيها السلط، وتراقب فيها السلط بعضها البعض، وتتسع دائرة القوى المدنية لممارسة أدوارها في الاقتراح والاختيار والقرار، الحلقة المفقودة والمجهضة في تجربتنا العربية والإسلامية، وذلك بسبب علاقات مرتبكة ومغلوطة بين الديني والسياسي لم ترق لأن تجعل من الدين أساسا للانعتاق، وإنما سببا في تكريس السلطوية عن طريق إضفاء الشرعية على أنظمة عتيقة ومهترئة ليس لها من شرعية سوى شرعية السيف والشوكة والتغلب عبر التاريخ..الشيء الذي ضيع علينا فرصة أن نبني نموذجا صالحا.
في هذا الكتاب يلمس القارئ تأثر المؤلف القادم من مجال الفيزياء بروح العلم من خلال خاصيتي التركيز الشديد، وأيضا النسبية في تعاطيه مع (التأويلات) السياسية والتاريخية والدينية، ولعلها من حسنات هذا النمط من الكتابة الفاحصة والخالية من الإنشاء واللغو، فقد عمل الدكتور أحمد بوعشرين بعد مخاض فكري طويل على تجاوز الرؤى الاختزالية والحدية والمتسرعة في أفق تقديم نقد جريء ومتوازن من خلال تناوله لقضية دقيقة بمثل حساسية (الدولة المدنية) في سياقات عربية وإسلامية على الخصوص كانت وما تزال تولد طبقات من الالتباسات حول المفهوم تنتهي بإفراغه من محتواه.
لقد سعى المؤلف في كتابه وهو يقارن بين الخبرتين السياسيتين الإسلامية والغربية في الحكم والإدارة والتشريع والمراقبة إلى تقديم رؤية بديلة تطمح إلى تجنب الرؤية الأحادية الكامنة في كثير من النصوص السياسية المنغلقة، والاستعاضة عنها بنظرة توحيدية تسعى إلى التكامل المعرفي عبر ربط معيار التجربة بالمثال، وعبر ربط معيار النص بالفقه، إذ لا سبيل إلى اختبار نجاعة المعيار إلا من خلال نقد تجلياته العملية وقدرته على الفعل والتأثير الإيجابي في الواقع الإنساني وأيضا قياس انسجامه مع مقاصد الدين ذاتها، ولا سبيل إلى تقدير صدق الفهم والتأويل وتقرير صوابه إلا عبر انسجامه مع المعاني الكلية لما جاء الدين مبشرا به في توافقه مع المقاصد العامة للوجود.
من الخلاصات الهامة لهذا العمل المميَّز والمرَكَّز أن اعتماد الدولة في الفكر السياسي الإسلامي على المرجعية الإسلامية العليا في مقاصدها ومحكماتها الكلية لا يعني انتفاء مدنيتها، ذلك أن الطابع المدني للدولة هو الأصل. كما أن المعارضة في الفكر السياسي الغربي إذا كانت حقا يمكن التنازل عليه، فإنه في الفكر السياسي الإسلامي هي واجب خلافا لما يمكن أن يتصوره البعض نتيجة لسيادة فقه مقابلة الاستبداد بالفتنة، لأنها تدخل في دائرة النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الاتجاهين، أي اتجاه الحاكم والمحكومين.
كما استخلص الباحث من خلال عقد مقارنات بين نصوص تنويرية من الفكرين السياسيين ضرورة أن تنبثق الدولة من إرادة حرة للمجتمع وللشعب عبر تعاقد اختياري يفوض فيه المجتمع أمر تنفيذ إرادته إلى من يختاره وإلى السلطات المنبثقة من اختياره دائما سواء كانت تشريعية أو تنفيذية أو قضائية. ويشدد الدكتور أحمد بوعشرين على مبدأ ربط السلطة بالمحاسبة، فلا سلطة حقيقية بلا مسؤولية، ولا مسؤولية بلا محاسبة، وذلك انطلاقا من تصور المسؤولية أمانة بما تفرضه الأمانة من واجبات والتزامات قانونية وأخلاقية.